كانت علاقةُ الشهيد خالد أسعد بتدمر ورموزها، لا سيّما جدّته زنوبيا، تفوقُ كونَها علاقة باحثٍ بتاريخ. الّذين عرفوه عن قرب، استطاعوا تلمّس ذلك بوضوح. إصرار أسعد على البقاء في مدينته ورفضه النّجاة بنفسه من بوابة الهرب، أو الرّضوخ لمطالب «داعش»، ليس سوى تجسيدٍ حيّ لصورة التّدمري كما آمن بها الشهيد. في ما يأتي مقتطفاتٌ من حوار طويلٍ أُجري مع أسعد، حيث تعكسُ إجاباته شيئاً من ملامح تلك الصورة. الحوار أجراه الدّكتور بشار خليف، ونُشر في كتاب «حوارات في الحضارة السورية» الصادر عن «دار الرائي» في دمشق عام 2008.
■ خليف: أستاذ خالد... لاحظت أنّ المدافن التّدمريّة ولا سيما البرجيّة منها تأخذ شكل أبراج دفاعيّة. هل كانت لهذه المدافن وظيفة دفاعية عن تدمر؟
أسعد: مدافن الأبراج كانت تقوم بوظيفة الدفاع في حالة الحرب، ونلاحظ حالياً وجود سور يضمُّ كلّ مدافن المدينة بداخله. رغم أن القانون الرومانيّ كان يُحرم الدّفن داخل الأسوار، ولكن التّدمريين لم يأخذوا بهذا القانون. ولهذا يقول عالم الآثار الفرنسي سيريغ: رغم كلّ الموجات الثّقافية التي مرّت بها خلال مئات السنين، لم يستطع أي وافد أن يزحزح عن أصالتها في الدين والعمارة والفلسفة والفن.


خاطبته زنوبيا: «أيها الامبراطور، الأرجوان هو لباس الملوك، ولكن بالنسبة لي سيكون خير الأكفان»


■ خليف: من ينظر ويدرس مظاهر الثقافة التدمرية، سيجد هناك حالة تنوع فرضتها طبيعة الموقع الجغرافي لتدمر، وما انبثق عنها من تفاعل المجتمع مع إمكانيات هذا الموقع. سؤالي أنه تجاه محددات أصيلة كالكتابة الآرامية والخلفية السورية الحضارية، ثم استخدامها للغة العربية (محكية) والكتابة اليونانية، بالإضافة إلى وجود مزيج من الآلهة السورية «بعل، نبو..» بالإضافة إلى الآلهة العربية «هبل، اللات، مناة، ذو الشرى..» مع تأثيرات هلنستية ثم رومانية ثم يونانية وعربية، تجاه كل هذا، هل استطاعت الثقافة التدمرية أن تبلور نفسها وتؤصلها تجاه كل تلك المؤثرات؟
أسعد: دعني آخذ بعض مظاهر الثقافة التي أشرت إليها. في مجال العمارة، نجد أن الأبنية التدمرية في 99% منها ذات مخطط معماري شرقي. وأقصد بالشرقي: السوري. وهذا ينسحب على البيت التدمري والمعبد التدمري والزخارف التدمرية على الغالب. وهذا المخطط جذوره ضاربة في عمق التاريخ المعماري للحضارة السورية. (...) النحت التدمري قد يبدو لك للوهلة الأولى أنه فن روماني أو يوناني، هذا إذا لم تكن لك معرفة بالخطوط الرئيسية لقواعد النحت التدمري. لكن العكس هو الصحيح، فالملامح وطريقة النحت الأمامية هذه قاعدة محلية سورية لا يعرفها الغربيون. وهذا تشترك فيه بلاد الرافدين والشام ومصر. تجد الإنسان في هذه البلاد يقف باحترام ووجهه متوجه نحو الشرق، بينما النحت الغربي يحاول أن يظهر مفاتن الجسم. (..) النحت لدينا غايته إظهار الحضور الروحي قبل الحضور المادي (...). اللغة المحكية كانت العربية، وهي لغة التجارة آنذاك، بينما في العلاقات الدولية كانت اللغة اليونانية في العهد البيزنطي واللاتينية في العهد الروماني. لهذا كانت النصوص التجارية تكتب باللغة الآرامية ولغةٍ أخرى يونانية أو لاتينية. لم يكن التدمري يسمح أن تُكتب لغة الآخر لوحدها.

■ خليف: يبدو أن ثمة فكرة أو معلومة كانت تؤكد أن الوجه البحري لشعب من الشعوب هو الذي ينفعل وينطلق نحو الآفاق. ونحن هنا إزاء وضع مخالف حيث نجد مدينة في وسط البادية تصل بثقافتها وفاعليتها الحضارية إلى ما وراء البحار، كيف يمكننا تفسير ذلك؟
أسعد: البحر لا يفرض تجارة، لكن طبيعة الإنسان وطبيعة الموقع جعلت التدمريين تجاراً. الانسان هو الذي يغيّر الطبيعة وليست هي التي تُغيره. ومتى خضع الانسان للطبيعة، صار على هامش الحياة. (...). وقد حاول الرومان أن يستدرجوا زنوبيا إلى الاستسلام عبر بقائها ملكة، فكانت تجيبهم: «الاستقلال أو الموت»، «النصر أو الموت». وقبل أن يستولي أورليان على تدمر، خاطبته قائلة: «أيها الامبراطور، الأرجوان هو لباس الملوك، ولكن بالنسبة لي سيكون خير الأكفان».