عن معركة لن يسلم منها أحد: وحدها المقاومة تضمن مستقبل العرب
من حسن الحظ أن النظام الرسمي العربي في هذه الحرب يقف، بشكل شبه علني، في الصف الآخر ضد المقاومة التي تخوض معركتها الأكبر مع العدو الإسرائيلي في تاريخ الصراع. فبذلك، يوفّر هذا النظام على المقاومة عناء فضحه أمام جمهوره. ومن حسن الحظ أيضاً أن الجامعة العربية لم تجتمع في الوقت الذي تستبيح فيه إسرائيل دولاً عربية عدة؛ إذ إن لغة البيانات التي كانت الأداة الوحيدة للنظام المذكور، لم تعد تسعفه في تبرير التغطية على العدوان الإسرائيلي، وتلك خسارة للعدو وداعميه. أما الشعوب العربية، فلن تذهب إلى أي مكان، بل سيزيد تمسّكها بالمقاومة باعتبارها خياراً وحيداً، إذا لم يكن من باب الإيمان بقدرتها، فمن باب الجزع الذي أثارته الوحشية الإسرائيلية التي يغطّيها الغرب بالكامل، في نفوس العرب؛ فمن ذا الذي يستطيع الآن تقبّل إسرائيل والشعور بالأمان في ظل وجودها في جواره من دون ضوابط تحدّد سلوكها، وهي ضوابط لا يمكن أن تحقّقها إلا قوة لا تتوفّر إلا في المقاومة، مهما كان حجم الضربات التي تلقتها كبيراً.
هذا السلوك الرسمي العربي يتيح للشعوب العربية أن تخلع عنها رداء الهزيمة الذي أُلبست إياه منذ بدء الصراع مع إسرائيل. فالمقاومة لم تُهزم أبداً، وحتى «منظمة التحرير الفلسطينية» كان يمكن أن تحقّق الكثير، ولكنها استعجلت قطف ما لم يكن قد نضج بعد، وتخلّت عن سلاحها وكفاحها قبل الأوان. لكن من الخطأ الاعتقاد بأن النظام الرسمي العربي بكامله عاجز أو محايد. فالجزء العاجز من هذا النظام هو ليس الجزء المتآمر مع إسرائيل، وإنما يفتقر إلى القدرة على القتال بسبب ضعف تسليحه مقارنة بإسرائيل والدعم الغربي الذي تحظى به، كما يفتقر إلى التمثيل الحقيقي الذي يعطيه شرعية قيادة المعركة ضد العدو، وهو ما أدخله في متاهات داخلية زادت في إضعافه وكانت كفيلة بتعطيل أي فاعلية له في الصراع. في المقابل، ثمة جزء آخر، فاعل ومتمكّن ويستحوذ على القرار الرسمي العربي، ولا يقل خطره عن الخطر الإسرائيلي، ويستغل البنية الهشّة للكثير من المجتمعات العربية لمؤازرة العدو في فعله العدواني. وأهم سلاح يستخدمه في ذلك هو المال، الذي يوظّفه في التضليل عبر الإعلام وإثارة الفتنة التي أطلت برأسها مع تصاعد العدوان الإسرائيلي، وهي ستكون الخط الأساس للعمل، نتيجة عدم قدرة العدو على الاحتلال المنفلش، وعدم قدرة القوى الغربية على إرسال قوات تدعم هيمنتها.
وعلى أي حال، فإن العنوان الأساسي لعمل النظام الرسمي العربي، وهو تغيير بنية الحكم في الدول التي تحتضن مقاومة، تحت وعد بتحقيق الاستقرار والازدهار والمساعدات، من خلال تصوير المقاومة على أنها العائق أمام ذلك، غير ممكن تحققه أيضاً، وهو ما تدل عليه التجارب. ومن يظن أن التحالف الغربي – العربي – الإسرائيلي سيحقّق لهذه البلاد أمناً وازدهاراً، يكون مخطئاً؛ إذ في قيامه وصفة لحروب أهلية لا تنتهي، تفتّت مجتمعاتنا أكثر مما هي مفتتة، وتتركها نهباً للميليشيات الدموية من كل الألوان والأصناف. كما سيفتقد الناس، إذا ما تحقّق هكذا اختراق، أمناً داخلياً كان متوفراً بحدود معقولة، بفضل المقاومة التي حقّقته قبل الهجوم الأخير، من خلال توفير انسجام مع الإرادة الشعبية ولو تحت نوع من الحصار. ومن يراهن على الاستقرار الأميركي، فهذه مصر وليبيا والسودان وسوريا أمامه، بل هذا الأردن الذي يضع رهاناته كلها في سلة أميركا وإسرائيل، فيما مشروع تهجير سكان الضفة الغربية وتهويد المسجد الأقصى، سيمرّ بالضرورة عبر انهياره.
كذلك، لن يطول الوقت قبل أن يأتي الدور على دول الخليج، وهي التي تعاني أزمات حكم وتسعى أنظمتها لحماية تظن أن أميركا وإسرائيل قادرتان على توفيرها لها، بينما الواقع أن هذه الأنظمة ذاتها عاجزة عن ضمان سيطرة الأخيرتين الدائمة على هذه المنطقة، والتي لا يوفرها لهما إلا التشظي في كل أنحائها. وأما التحالف مع تلك الأنظمة، فليس سوى معبر لتحقيق هذا الهدف مقابل نجدة مؤقتة لها، وما حسني مبارك إلا مثال على ما تقدم. ولعل أحد ملامح المخاطرة التي تتعرض لها أنظمة الخليج، قد يأتي أسرع مما تتوقّع. فالآن تريد إسرائيل، بالأصالة عن نفسها، وبالنيابة عن الولايات المتحدة، توجيه ضربة انتقامية إلى إيران، وهي ضربة تستشعر تلك الأنظمة خطرها عليها، ولذا علا صراخها في الاستنجاد بالولايات المتحدة، حتى لا تورّطها إسرائيل في مشكلة مع طهران سيكون لها أثر سلبي جداً عليها، ليس أخطر وجوهه المزيد من فضح تآمرها مع الأعداء. فلا يظنّن أحد أنه سينجو من الحريق الكبير إذا ما نشب؛ وحتى العدو، الذي يبدو الآن منتشياً بـ»إنجازاته»، يعيش منذ «طوفان الأقصى»، أخطر أزمة وجودية في تاريخه.