المقاربة النقدية التي اعتمدتها مصر عبر مصرفها المركزي لأزمة سعر الصرف الأخيرة، بدت مفارِقة لطبيعة الأزمات الاقتصادية التي تتعرّض لها الدول النامية باستمرار، ولا سيّما تلك التي تعاني من تراكمٍ للديون. فالأزمة التي بدأت مع جولات التفاوض مع صندوق النقد الدولي على قروض، ابتداءً من عام 2014، تحوّلت بسرعة، مع انقطاع سلاسل التوريد وصعوبة الوصول لاحقاً إلى مصادر الطاقة والغذاء، إلى مشكلة هيكلية تخصّ الاقتصاد نفسه لجهة الاتكال المُطلَق على الاستيراد، حتى بالنسبة إلى السلع الأساسية. يمكن اعتبار ذلك مركّباً معقّداً، أو خليطاً من أزمات عدّة في الإقليم، تبدأ بالأردن وتونس حيث التركيب الاقتصادي نفسُه، والعلاقة الإشكالية ذاتُها مع صندوق النقد، ولا تنتهي بسوريا ولبنان، حيث نظام العقوبات الذي يسرِّع انهيار أسعار الصرف ومعها زيادة عبء الدين على الناتج المحلّي في هذه الدول.
تناقضات السياسة النقدية
المعالجة النقدية هنا، تكاد تقتصر على رفع أسعار الفائدة، بعد الأخذ بمشورة صندوق النقد الخاصّة بالتخلّي عن سياسة تثبيت سعر الصرف. والحال أنّ سياسة تعويم الجنيه التي ينصح بها الصندوق هي بمثابة علاج عكسي بالصدمة، لأنها تمحو أيَّ أثرٍ إيجابيّ لرفع أسعار الفائدة. السيولة المسحوبة من الأسواق والموضوعة في الجهاز المصرفي لمعاودة رسملته، بغية تمويل الاقتصاد لاحقاً، تصبح بمجّرد البدء بالتعويم، من دون قيمة ادّخارية، مع تزايُد وتيرة انهيار الجنيه. وهذا يعني، في اقتصاد مستقرّ نسبياً مثل الاقتصاد المصري، وغير فاقد لوظيفة النقد الادّخارية، بعد فُقدانَ المصارف لأهمّ أدواتها الخاصّة، إعادة تمويل الاقتصاد عبر آلية نقل الثروة من المدّخِرين إلى المنتجين وأصحاب المشاريع الصغيرة والمتوسّطة.

(أنجل بوليغان ــ المكسيك)

التناقض هنا يتمثّل في أن السياسة غير التدخّلية التي يوصي بها صندوق النقد، لترك سعر الصرف لمنطق العرض والطلب، تلغي آثارَ نظيرتِها التدخّلية، المُوصى بها بدورها، من جانب البنوك المركزية الكبرى في العالم لاحتواء آثار التضخّم على الاقتصادات، حتى تلك النامية منها. ثمّة في الحالتين، إتباعٌ لسياسات نقدية رأسمالية لا تتناسب مع طبيعة الأزمات الاقتصادية في الدول النامية. لكن في الحالة المصرية، تبدو سياسة رفع سعر الفائدة أكثر تقدّمية، حتى وهي تدعو للادّخار في عملة تتناقص قيمتها المُضافة تدريجاً. ويتأكّد ذلك أكثر مع "النجاح النسبي" الذي أحرزه البنك المركزي المصري في إصدار شهادات إيداع بعائد سنوي يبلغ 25%، إذ استطاعت هذه الشهادات المسمّاة على اسم أحد مؤسّسي الاقتصاد المصري الحديث، طلعت حرب، جمع ما يربو على مليار جنيه خلال يومين من طرحِها. على أنّ خفض التضخّم الذي تبتغيه شهادات الإيداع، ومن ورائها سياسة رفع سعر الفائدة، تبقى هدفاً ثانوياً، إذا قورنت بالأثر السلبي الكبير لانهيار الجنيه، لجهة فقدان جاذبيته كوعاءٍ للادخّار لمصلحة بقية "الملاذات"، مثل الذهب والعملات الأجنبية، لا سيّما الدولار.

محدودية النموذج الحالي في التنمية
حالة التقلّب الشديدة التي تشهدها الأسواق المصرية حالياً، نتيجة تراجُع سعر الصرف التدريجي، تذكّر ببدايات الأزمة في سوريا ولبنان. وهي وضعيّة لم تصل إليها بعد، دولٌ تعاني من أزمات الاقتصاد المصري نفسها، مثل الأردن وتونس. الوزن الجيوسياسي هنا، ومعه الامتداد الجغرافي الشاسع لا يلعبان لمصلحة الاقتصاد المصري، بخلاف "دولٍ صغيرة"، لجهة المساحة الجغرافية وعدد السكّان؛ تتفاوض أيضاً مع الصندوق على قروض "لإعادة هيكلة الاقتصاد"، ولكن مع تبعات أقلّ بكثير على السياسة النقدية الخاصّة بأسعار الصرف. والحال أنّ الاقتصاد المصري الذي شَهِدَ استقراراً نسبياً في المرحلة التي أعقبت وصول السيسي إلى الحكم، مع تدفقّات أكثر للرساميل الخليجية، سواءً على شكل استثمارات أو هِبَات، لم يستطع الصمود لمرحلة أبعد. النقد الموجَّه لطبيعة هذه الاستثمارات، لجهة وجهتها وتركيزها على قطاعي العقارات والخدمات، بالتالي عدم قدرتها على تحقيق قيمة مضافة للاقتصاد، إنتاجياً، تجاهَلَ الربط الذي أقامه الحُكم هناك، عشيّة الشروع بأعمال البناء بينها وبين النموذج الصيني في التنمية. فالإنفاق الكبير منها، ومن بقية التدفُّقات النقدية، والذي صبَّ في معظمه، في توسيع مشاريع البنية التحتية، اقتدى بدايةً بهذا النموذج، لجهة التركيز على المرافق الحيويّة اللازمة للنشاط الإنتاجي أكثر منها على البنية الفوقية الخاصّة بالنشاط السياسي. ولكن محدودية القدرة المصرية على الربط بين توسيع البنية التحتية ونموّ النشاط الإنتاجي الفعلي، ومعه قوّة العمل، سواءً في المدن أو في الأرياف، أفضى إلى نتائج عكسية. أي، إلى جَعْلِها تنمية منعزلة عن الحاجات الفعليّة لأكثرية السكّان هناك، ولا سيّما الفئات الأكثر احتياجاً. الافتقاد إلى المنظور الدولتي، بهذا المعنى، في تقييد رأس المال والتحكُّم بتدفُّقاته، أضعَفَ قدرة الاقتصاد المصري على مواجهة الإملاءات الرأسمالية، وعلى رأسها توصيات صندوق النقد، لتأتي أزمات كورونا وحرب أوكرانيا لاحقاً، وتنقل البلاد من ضفّة إلى أخرى حيث التضخّم الكبير وأزمة الاستيراد ومعهما اهتزاز سعر الصرف ومحدودية الوصول إلى مصادر الطاقة والغذاء.

محاولة احتواء الأزمة
وصول الأزمة إلى حدّ منع البلاد من استيراد حاجاتها الأساسية بسبب الافتقاد إلى السيولة بالعملة الأجنبية، سرّع من إجراءات الحكومة لاحتواء الوضع. الإدراك المتأخّر لكارثية عدم تقييد التدفقّات الرأسمالية المصاحِبة لهذا النوع من التنمية، جعل الإجراءات ذات طابع متعجّل وجزئي. إذ فُرِضَت، فور وصول سعر صرف الدولار إلى 32 مقابل الجنيه، قيوداً شديدة على التعامل به، حتى بالنسبة إلى القطاعات التي تتعامل بالعملة الأجنبية عادةً، مثل القطاع السياحي وسواه.
صحيح أنّ القيود هنا قد اقتصرت على التعامل بالسيولة بالعملة الصعبة، بالتالي لم تصل إلى حدّ التحكّم برأس المال الذي تسبَّبت تدفُّقاته غير المقيّدة بالأزمة، إلا أنها أسهمت في حلحلة الوضع جزئياً، لجهة معاودة استقرار سعر الصرف، وإن لم يكن بالوتيرة السابقة لبداية الأزمة. إذ يَصعُب، مع استمرار الأسباب الفعلية للانهيار، العودة إلى وضعٍ يكون فيه الجنيه قوياً مجدّداً، سواءً أمام الدولار أو حتى الذهب وبقيّة "الملاذات الآمنة".
هناك أزمة هيكليّة في بنية الاقتصاد المصري لجهة اعتماده المطلق على استيراد المواد الأساسية ما يزيد من احتمالات تكرارها عند أيّ اهتزاز جديد لسعر الصرف، أو تفاقُمٍ أكبر لأزمة الطاقة والغذاء في العالم


التقييد حصل أيضاً في ظلّ أزمة استيراد شديدة تسبَّبَ بها النقص الشديد في السيولة بالدولار لتمويل المستوردات. فحصَلَ، كما بات معروفاً، تكدُّسٌ كبير للبضائع والسلع المستورَدة في الموانئ من دون حتى القدرة على إتمام التسويات مع الجهات المورِّدة لهذه السلع. وهو ما سرَّع من عملية حصر الدولار بيد الدولة لتكون قادرة على "فكّ الحصار" عن هذه المستوردات، بالتالي استئناف النشاط التجاري من مبادلات وتسويات مع الدول التي يحصل معها التبادُل. ثمّة كذلك، بالإضافة إلى توفير السيولة اللازمة لمعاودة الاستيراد، تأثيرٌ إضافيّ للتقييد على نشاط المضاربة بالدولار، والذي كان له دورٌ كبير في إيصال سعر الصرف إلى عتبة الانهيار السابقة. إذ عمَدَت الدولة إلى كفّ يد المضاربين، عبر سحب السيولة بالدولار من يد الأفراد، وحصرها في يد المصرف المركزي الذي تولّى عملية تزويد المستوردين والتجار بالعملة الصعبة، بالسعر الرسمي أو المدعوم.

معضلة الاقتصاد المصري
كلّ ذلك لا ينفي وجود أزمة هيكليّة في بنية الاقتصاد هناك، لجهة الاعتماد المُطلَق على استيراد المواد الأساسية، من قمح وحبوب ولحوم ومشتقّات نفطيّة، ما يزيد من احتمالات تكرارها عند أيّ اهتزاز جديد لسعر الصرف، أو تفاقُمٍ أكبر لأزمة الطاقة والغذاء في العالم. والمشكلة أنّ زيادة وتيرة الإنتاج التي عادةً ما تكون الحلّ لأزمة الاقتصادات التي تعاني من فرط الاستيراد، ليست مجدية في الحالة المصرية بسبب التركُّز الكبير للنشاط الإنتاجي، ومعه تركّز الثروة والتدفّقات الرأسمالية والنقدية في قطاعي العقارات والخدمات، وحتى التعدين. وهي قطاعات تدرّ أرباحاً كبيرة على الدولة هناك والمستثمرين، وحتى أصحاب المشاريع المتوسّطة والصغيرة، فضلاً عن أن إسهامها في الناتج المحلي كبير وملحوظ، وتشغيلها للكتلة الأكبر من اليد العاملة بعد التحوّل الذي طرأ على بنية الاقتصاد المصري، ابتداءً من سبعينيات القرن الماضي. هذه "القيمة المضافة" السالبة، إذا صحّ القول، والتي عوّضت عن خروج الصناعات التي شيّدها الاقتصاد الاشتراكي في حقبة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، أو حلّت محلّها، ضاعفَت، ليس فقط من أزمة العمالة غير الماهرة، بل أيضاً من معضلة الاكتفاء الذاتي التي انتهت عملياً مع انتهاء الحقبة الاشتراكية في مصر.
منذ ذلك التاريخ ونموذج التنمية هناك، يدور في حلقة مفرغة. فلا هو يمثّل الاشتراكية أو امتدادها الحالي في الصين على شكل رأسمالية دولة مقيّدة، ولا يمكن اعتباره أيضاً نموذجاً للتنمية الرأسمالية، حتى وهو يمتثل من دون شروط لتوصيات صندوق النقد الدولي والسياسات النقدية الرأسمالية التي تُمليها البنوك المركزية الكبرى على الاقتصادات النامية.
الأزمة الحالية التي شارَفَ طورها الجديد على الانتهاء، مع الحلّ الجزئي لمشكلة الاستيراد واستقرار سعر الصرف عند 29 جُنيهاً مقابل الدولار، هي بمثابة حلقة من حلقات هذا التأرجح المستمرّ للاقتصاد المصري، بين حدّين، أو لِنَقُل على نحو أدقّ، بين نموذجين متعارِضين للتنمية.