حين بدأت العقوبات على روسيا تأخذ شكلاً منهجياً، على إثر تدخّلها في أوكرانيا، كان واضحاً أن الحلقة الأضعف في الاقتصاد العالمي هي التي ستدفع ثمن هذا الصراع، سواءً في أزمة الحبوب والغذاء عموماً، أو في تقلّبات أسعار الطاقة، وصولاً إلى المعضلة الأكبر التي تواجهها الدول النامية حالياً، وهي انهيار أسعار الصرف. مدخل هذه الانهيارات الاقتصادية، لم يكن أزمة كورونا، بمقدار ما تمثّل في نظام العقوبات الذي فُرِض تباعاً على سوريا ثمّ لبنان، بتأثير الموقف الغربي منهما قبل أن يتطوّر مع الحرب على أوكرانيا، ويتحوّل إلى حرب اقتصادية على نطاق دولي، لم تنجُ منها حتى النظم الإقليمية الحليفة للغرب، مثل مصر. لكن مثل كلّ أزمة بهذا الحجم، تتفاوت تبعات الحرب على الدول، بحسب وزنها الجيوسياسي، وحجم اقتصادها، لجهة ليس فقط التنافسية ومساهمة الناتج المحلّي، بل أيضاً لجهة توافُر الموارد التي تُعينها على الإفلات قدر الإمكان من الحصار الذي تفرضه، الحرب التجارية.
معاناة الاقتصادات الصغيرة
بالنسبة إلى الاقتصادات الصغيرة، التي لا تتوافر على موارد مماثلة، أو تواجه صعوبات في الإفلات من العقوبات المفروضة على توريد المواد الأولية والسلع، فإن أوّل ما تواجهه لدى استفحال الأزمة هو اهتزاز سعر الصرف كمدخل لانهياره لاحقاً حين تنفد الموارد المتبقية وتزيد كلفة إنتاج السلع والخدمات إلى الحدّ الذي يفضي إلى التضخّم المفرط. هكذا، يتناقص حجم الناتج المحلّي إلى حدٍّ كبير، وتنهار الأجور ومعها القدرة الشرائية، وتبدأ قوى العمل بالهجرة إلى الغرب حيث التركّز الكبير لرأس المال والوظائف والخدمات، وحيث تتداخل أيضاً سياسة العصا الغليظة المتمثّلة بنظام العقوبات بنقيضها.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

بهذا المعنى، يصبح، نظام الحياة الذي يستقطب هذه القوّة الكبيرة الآتية من الجنوب، بمثابة مقايضة بين الرفاهية المقيَّدة، وفائض القيمة الذي تتزايد معه حدّة الاستقطاب بين الشمال والجنوب، وليس العكس. هذا، في الدول التي تنهار اقتصاداتها بسرعة، تحت وطأة أزمات الديون وسعر الصرف، وتحصل فيها هجرة كثيفة، مثل سوريا وقبلها لبنان، لكن في نظيرتها التي يكون فيها حجم الاقتصاد، ومعه الموارد و«التقدّم الصناعي»، وحتى الوزن الجيوسياسي أكبر، مثل مصر، تأخذ الأزمة شكلاً مختلفاً. فنظام العقوبات الذي سرّع من حالة الانهيار في سوريا ولبنان ليس متوافراً في الحالة المصرية، نظراً إلى علاقة القاهرة الوطيدة بالغرب، وحرص المؤسّسات الاقتصادية الرأسمالية، على عدم الدفع بحليفٍ إقليميّ كبير كهذا إلى هوّة الانهيار. البديل في هذه الحالة ليس أفضل بالضرورة، لأنّ المساعدة التي تقدِّمها عادةً مؤسسات رأسمالية كبرى مثل صندوق النقد الدولي، تكون سبباً في مزيد من الانهيار وليس العكس. وهو ما حصل فعلاً في الحالة المصرية، لتبدأ على أثر اتفاقيات الإقراض المتوالية مع الصندوق، سلسلة التقلّبات المتوالية في سعر الصرف، وآخرها قبل نهاية العام الفائت بقليل، حين وصل سعر صرف الجنيه إلى 27 مقابل الدولار.

أثر الخضوع لإملاءات الصندوق
التسلسل الذي حصل للأزمة في مصر لم يكن بعيداً عن الأدوار التي يلعبها الصندوق عادةً مع الدول الحليفة، لإبقائها في فلك الإملاءات الرأسمالية. فالاتفاقيات معه، ابتداءً من عام 2014، أضعفت الاقتصاد المصري أكثر ممّا ساعدته، فلم تذهب القروض إلى حيث يجب، مع التركّز الكبير للرساميل حتى قبل بداية الاقتراض، في المشاريع الكبرى التي أنفقت عليها الدولة هناك الكثير، عملاً بالنموذج الصيني. الإنفاق الكبير على البنى التحتية هناك، لم يأخذ في الاعتبار الفوارق بين النموذجين، حيث التوسّع العمراني في الصين مترافقٌ غالباً، مع تركّزٍ كبير للنشاط الصناعي في المدن والأرياف معاً، ومع تدفّقات رأسمالية مقيّدة لا يمكن العمل بها في الحالة المصرية، نظراً إلى التغيّرات «الهيكليّة» التي أضفتها الاتفاقيات مع صندوق النقد على بنية الاقتصاد المصري. أي، لجهة الالتزام بتعويم العملة الوطنية عملاً بسياسة سعر الصرف المرنة التي يفضّلها الصندوق، وإلغاء الدعم عن السلع الأساسية أو توجيهُه كما يَرِد في أدبيات الصندوق أيضاً، ورفع القيود عن الاستثمارات الأجنبية لتحسين مناخ الاستثمار... العمل بهذه الشروط يجعل من التنمية القائمة على التوسّع العمراني خارج المدن الكبرى، أمراً محفوفاً بالمخاطر، كونه يحصل في غياب الربط الحاصل بالتصنيع ونموّ قوى العمل. أي بأولويات التنمية في اقتصاد زراعي يطمح إلى اللحاق بعملية التصنيع مثل مصر، وفي حال حصول الربط يكون تركُّزه غالباً في قطاعات لا تضيف إلى الناتج المحلي هناك شيئاً يذكر، لا بل تبدو عبئاً عليه في ظلّ تفاقم أزمة التضخّم، ومعها سعر الصرف والشحّ الكبير في العملة الأجنبية. العلاج للأزمة بهذا المعنى لا يكون بالمزيد من الاقتراض، لأنّ النموذج الذي بدأ يتكوّن هناك، منذ بداية التفاوض مع الصندوق، هو بمثابة فقاعة تبدأ بالدين الذي يضع شروطاً تعجيزية على عمل الاقتصاد، وتمرّ بتعويم الجنيه كما حصل في عام 2015، لتنتهي مع الأزمة الأوكرانية، عند انهيار مُعلَن لسعر الصرف، لا يعود معه أي حلّ اقتصادي ممكناً، حتى من جانب الصندوق.

تبعية السياسة النقدية
التبعية في هذه الحالة لا تقتصر على الإملاءات الحاصلة من صندوق النقد، على شكل أولويّات مقلوبة للتنمية، بل تتجاوزها إلى السياسة النقدية نفسها، التي تتقاطع محلياً مع سياسة البنوك المركزية الرأسمالية، رغم تفاوت الحاجة إلى العلاجات نفسها. فسياسة رفع أسعار الفائدة التي لجأ إليها الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، ومعه باقي البنوك المركزية الكبرى، لاحتواء آثار التضخّم في العالم، لا تُعتبر أولوية، بالنسبة إلى الدول النامية. باعتبار أنّ الأزمة هناك ليست في التضخم بحدّ ذاته، رغم أنّ المعاناة منه قائمة فيها أيضاً، بقدر ما هي في تفضيل استخدام أدوات نقدية، لا تتّسق مع طبيعة الأزمات الاقتصادية العالمثالثية، التي يطغى عليها طابع الديون وتقلّبات أسعار الصرف الشديدة ومحدودية الوصول إلى مصادر الطاقة والغذاء. في حين أنّ ما يميّز نظيرتها في الغرب، هو الاقتصار على التقلّبات السوقية التي تخضع لها الأرباح الرأسمالية، دورياً. ومع ذلك، يجري تحويلها إلى أزمة عالمية، ويتوسّع نطاق استخدام العلاجات الرأسمالية لها، ليشمل اقتصادات، لا تحقق أيّة أرباح رأسمالية، ولا يوجد في بنية اقتصادها أصلاً، ما يدلّ على أنّ الأداة المتمثّلة برفع أسعار الفائدة، ستفيد في تحقيق النتائج المرجوّة منها. وهو ما بدا أنّ الحالة المصرية قد وقعت فيه، حيث لجأ البلد الذي يعاني من إملاءات صندوق النقد وارتفاع أسعار الطاقة والغذاء بفعل العقوبات الغربية على روسيا، إلى رفع أسعار الفائدة عبر مصرفه المركزي، لتجنّب ما يقول، أنه آثار تضخّمية، بفعل الأزمة، على اقتصاد البلاد.
والحال أنّ ثمّة تضخّماً كبيراً في مصر بالفعل، ومعه نقصٌ حادّ في توريد السلع الأساسية، لا سيّما من روسيا وأوكرانيا، ولكنه نتاج سياسة رأسمالية على نطاق دولي، وهذا يعني أنّ علاجه محلياً، متعذّر إلى حدّ كبير. وفي حال طُبِّق «العلاج» بالفعل، ونجحت سياسة المصرف المركزي المصري في امتصاص السيولة من الأسواق، لخفض الطلب على السلع والخدمات، فسيكون تأثيرها محدوداً جداً، لأنّ الأزمة هناك تجاوزت التضّخم، إلى انهيار سعر الصرف. وهذه مشكلات لا تعاني منها الدول الرأسمالية عادةً، بخلاف دورات التضخّم والركود التي تقع في صُلب عمل الرأسمالية.
تسلسل الأزمة في مصر لم يكن بعيداً عن الأدوار التي يلعبها الصندوق عادةً مع الدول الحليفة لإبقائها في فلك الإملاءات الرأسمالية


وبالتالي، حين يُملى على دولة تتعرّض لتقلّباتٍ شديدة في سعر العملة، عدم اعتبار ذلك أولويةً، وأن تكون وجهة تدخُّل البنك المركزي هي احتواء التضخّم، بدلاً من تثبيت سعر الصرف، فهذا يعني أنّ «ثمّة قراراً»، بضمّ هذه الدولة إلى النطاق الذي تُستَخدم فيه سياسة الإملاءات النقدية الرأسمالية، حتى ضدّ الدول الحليفة للغرب. هنا، ليس ثمّة نظام عقوبات كما في سوريا ولبنان، ولكن الأولويّات التي تُفرَض على مصر من خارج سياق الاحتياجات الخاصّة باقتصادها، تجعل من هذه السياسة، امتداداً لنظيرتها الخاصّة بنظام العقوبات، إن لم نقل إنّها مكملة لها، في سياق مغاير. هكذا، وبدل العقوبات المباشرة والقيود المُطلَقة على التبادل التجاري والتعاملات المصرفية، تحضر الأدوات النقدية وإملاءات صندوق النقد، لتضيف هذه الدولة، إلى قائمة الدول التي تسبّبت السياسات الرأسمالية الغربية بانهيار اقتصاداتها، حتى حين تزعم أنها تفعل العكس، كما في الحالة المصرية.