الاستثمارات الأجنبية: طريق للتبعية

ليس جديداً على مصر، فتح البلد أمام الاستثمارات الأجنبية. فالتدفقات الاستثمارية التي أتت على إثر الاتفاق مع صندوق النقد الدولي في عام 2016، لم تكن سوى موجة جديدة بدأت منذ أيام الرئيس الراحل أنور السادات. والضعف الذي ترافق مع وجود هذه التدفقات في الاقتصاد المصري، ليس مستجداً أيضاً. إنما آخر مظاهره، تمثّلت في بداية السنة الحاليّة عندما رفع الاحتياطي الفيدرالي الأميركي أسعار الفائدة للمرّة الأولى منذ بداية جائحة كورونا. فقد أدّى هذا التدخّل النقدي الأميركي إلى أزمة في مصر، أساسها اقتصادي، وظاهرها نقدي. إذ إن رفع أسعار الفائدة في أميركا، أسهم في هجرة حادّة لرأس المال من مصر، وهو ما جعل الاحتياطات بالعملات الأجنبية تهبط إلى أقل مستوى لها منذ الاتفاق مع صندوق النقد في 2016. وقد انعكس هذا الأمر ضغطاً على سعر العملة المحلية، وأجبر المصرف المركزي المصري إلى خفض قيمة الجنيه المصري من 16 جنيهاً للدولار إلى 19.5 جنيهاً، علماً أنه بالكاد يقوى على المحافظة عليه مع تفاقم النشاط في سوق الصرافة الموازية، فضلاً عن توقعات بأن يتم خفض سعر الجنيه أكثر نحو 23 جنيهاً في إطار اتفاق مرتقب مع الصندوق. كما اضطرت الحكومة المصرية إلى تفعيل قانون تقييد عمليات التحويل والاستيراد.


إذاً، بدأ فتح المجال أمام الاستثمارات الأجنبية في مصر منذ عهد الرئيس الراحل أنور السادات. فهذا الأخير أراد، بعد حرب أكتوبر 1973، تحويل الاقتصاد المصري إلى النموذج الرأسمالي العالمي. قبل ذلك، أي في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، كان النموذج المصري قائماً على الإنتاج بهدف استبدال الاستيراد، بمعنى أنه كان يهدف إلى الاستقلال الاقتصادي. وهذا الأمر تطلّب مراقبة شديدة على دخول وخروج رأس المال من وإلى البلد. لكن بعد عام 1973، كان هدف السادات من سياسة {الانفتاح»، الجمع بين رأس المال العربي والتكنولوجيا الغربية، وفق ما يشير إليه الباحث مارفن وينبوم في ورقة بعنوان «انفتاح مصر وسياسة المساعدة الاقتصادية الأميركية». أي إن الهدف كان فتح الاقتصاد المصري أمام الاستثمارات الأجنبية. وبنتيجة هذا التحوّل، أصبح الاقتصاد المصري اقتصاداً استهلاكياً. إلا أنه مع فتح المجال أمام رأس المال الأجنبي، وبالأخص المساعدات الأميركية، تراجع الدافع نحو الاستثمار في الإنتاج وتحوّل نحو الخدمات. وبحلول الثمانينيات أصبح اقتصاداً معتمداً على الخارج بشكل كبير. بحسب وينبوم، فإنه في عام 1961 كانت مصر تستورد 7% فقط من الغذاء الذي تحتاجه ثم ارتفعت هذه النسبة بعد عقد واحد إلى 20%، ثم تطوّر الأمر بعد عام 1974 ليصبح البلد مستورداً لأكثر من 50% من غذائه. واستمر هذا النهج في الثمانينيات وبقي على حاله في عهد حسني مبارك.


في نهاية عهد مبارك كان الاقتصاد المصري قد أصبح معتمداً على قطاع الخدمات أكثر من الصناعة والزراعة، وبشكل أساسي على السياحة والقطاع المالي والعقاري. وبحلول عام 2011 كانت قطاعات الخدمات تمثّل 46% من الناتج المحلّي المصري. ومع الثورة التي أدّت إلى تغيير نظام الحكم وما تلاها من هجمات إرهابية، تأثّرت السياحة بشكل كبير في مصر وانقطعت تدفقات رأس المال إلى البلد، ما أدّى إلى تدهور قيمة العملة وتضاؤل القدرة على الاستهلاك. وهو ما دفع الحكومة المصرية في نهاية عام 2016 إلى الاتفاق مع صندوق النقد. عملياً كان الهدف من هذا الاتفاق، أخذ موافقة الصندوق بهدف إعادة جذب الاستثمارات الأجنبية إلى البلد، في محاولة للعودة إلى الدورة الاستهلاكية السابقة نفسها. وبالفعل ساهم هذا الأمر في دخول رؤوس الأموال الأجنبية، وخصوصاً الخليجيّة، على شكل ديون واستثمارات. وهو ما حسّن وضع الاحتياطات بالعملات الأجنبية. لكن، ما يعزّز الكلام عن استمرار النهج الذي أرساه السادات، أنه بعد توقيع مصر اتفاق مع صندوق النقد الدولي، لم تتحسّن حصّة القطاعات الإنتاجيّة من الناتج المحلّي، بل انخفضت وتعزّز الاعتماد على قطاع الخدمات. فالهدف من الاتفاق لم يكن حلّ المشكلات الجذريّة الموجودة في الاقتصاد المصري والتي تعود أصلاً إلى تحرير حساب رأس المال في السبعينيات، بل تعزيز هذه التبعية.
الاتفاق مع الصندوق زاد من حدّة المشكلة البنيوية في الاقتصاد المصري، وقد جعل مصر رهينة عنده


لم تأتِ هذه الاستثمارات إلى القطاعات المنتجة، ولم توجهها الدولة إلى هذا الطريق. بهذه العملية كان الكل مرتاحاً. فالدولة كسبت الوقت من خلال تحسين الوضع، نسبياً، عبر إعادة جزء بسيط من القدرة الاستهلاكية للمواطنين، والمستثمرين وضعوا أموالهم في قطاعات يستطيعون الخروج منها بسهولة، مثل الأسواق المالية، وهو ما حدث عند أوّل مفترق طرق في بداية السنة الحالية. في المقابل لم يتم العمل على الاستقلال الاقتصادي، على الأقل بشكل جدّي، ويؤكد ذلك استمرار العجز في الميزان التجاري المصري حتى اليوم.
بشكل عام، الاتفاق مع الصندوق زاد من حدّة المشكلة البنيوية في الاقتصاد المصري، وقد جعل مصر رهينة عنده بسبب انكشافها على هذا النموذج.

تركّز التبعيّة للخارج عبر الخصخصة

في عام 1991، أطلقت الحكومة المصرية برنامج «الإصلاح الاقتصادي والتكيّف الهيكلي» بعد اتفاق على حزمة إنقاذ من صندوق النقد الدولي. يتضمّن البرنامج ركيزة أساسية هي الخصخصة. وحتى عام 2009 لم تكن الحكومة قد تقدّمت بشكل واسع في هذا المجال، إلا أنه جرى خصخصة 382 شركة حكومية بقيمة 9.4 مليارات دولار.

39.6 مليار دولار

هو حجم العجز في الميزان التجاري المصري في عام 2021 وهو يمثّل 9.8% من الناتج المحلّي الإجمالي في تلك السنة

وفي عام 2016، لجأت مصر مجدداً إلى صندوق النقد الدولي واتفقت معه على برنامج تمويلي إنقاذي، كان أحد شروطه الأساسية استكمال الخصخصة. وسرعان ما استعادت الحكومة نشاطها في بيع مؤسسات تملكها، وقال وزير المال في 2018 إن الحكومة المصرية تهدف إلى طرح أسهم 23 شركة حكومية في البورصة بنسب تتراوح بين 15 و30% من الأسهم، وإنها تسعى إلى جمع نحو 80 مليار جنيه مصري من هذه العملية. كما أنه في الفترة الأخيرة، أعدّت الحكومة المصرية خطّة تتضمن عرض أصول للدولة على مستثمرين في القطاع الخاص بهدف جمع 40 مليار دولار خلال السنوات الأربع المقبلة. والأصول التي ستخصّص تشمل مؤسّسات من كل القطاعات الحيوية في الدولة، من التعليم والاتصالات، وفي مجال البنية التحتية أيضاً، والطاقة والمياه والنقل. وبحسب ما كشفته وزيرة التخطيط ورئيسة مجلس إدارة صندوق مصر السيادي هالة السعيد، في مقابلة مع «بلومبرغ»، فإن الحكومة المصرية تستهدف جمع ما يصل إلى 6 مليارات دولار من خلال بيع حصص في شركات مملوكة للدولة في منتصف عام 2023.


يُظهر تقرير لصندوق النقد الدولي أن الدولة تملك أكثر من 300 شركة خاصّة بها. ويعود ذلك إلى رواسب النموذج الاقتصادي الذي بنى عليه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الدّولة المصريّة. فمن الواضح، أنه حتى بعد محاولات الرؤساء المتعدّدين، من السادات إلى مبارك، وصولاً إلى السيسي اليوم، فإنّ الاقتصاد المصري لم يتخلّص من خصائص النموذج الناصري للدولة. وقد يكون هذا الأمر نقطة انطلاق جيدة لإعادة بناء اقتصاد منتج وقوي ومستقلّ. إلا أن المسار الحالي، القائم على نموذج صندوق النقد الدولي، يأخذ الدولة المصرية في اتجاه تفكيك ما تبقى من النموذج الناصري وبيع المؤسسات للقطاع الخاص، ولا سيّما الأجنبي. وهذا المسار، الذي أوصل مصر إلى الاعتماد المفرط على رأس المال الأجنبي، أثبت أنه غير مستدام في مراحل عدّة، فضلاً عن أنه أدّى إلى تركّز التبعيّة للخارج.
أراضي القاهرة للبيع

كشفت دراسة نشرها «مرصد العمران» في مصر، أن نصف الأراضي في القاهرة صارت مملوكة من أجانب. ملكية الأراضي في العاصمة المصرية تتوزّع بين استثمارات لمؤسّسات تعود ملكيتها للدولة بنسبة 25%، ومستثمرين في التداول الحرّ (البورصة) بنسبة 34%، وأفراد وعائلات بنسبة 36%، وتستحوذ شركات مدرجة وخاصة على 5%. أما جنسيات المستثمرين الذين يملكون نصف الأراضي في القاهرة، تظهر الإمارات كأكبر مالك أجنبي 16%، والجنسيات غير المعروفة كثاني أكبر مالك أجنبي 15%، أما ثالث أكبر مالك هي المملكة العربية السعودية 6.7%، تليها جزر كايمن 4.7%، والولايات المتحدة 3%، والمرتبة السابعة للنروج بنسبة 2%، أما الكويت وجزر العذراء البريطانية ومستثمرون آخرون معظمهم من أوروبا، يملكون 2.5%.

93 عائلة مصرية

تملك في القاهرة 36% من الأراضي، وهو مؤشّر على التفاوت الكبير في توزيع الثروة في مصر


تزامن هذا التغيّر في بنية الملكية، مع تدفّق كبير لرأس المال الخليجي إلى مصر، خصوصاً بعد توقيع الاتفاق مع صندوق النقد الدولي في نهاية عام 2016. وتتملّك الشركات الخليجية الأراضي في القاهرة من خلال شركات عقارية تملك فيها حصّة وازنة. وبحسب وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية في مصر، تحتل الأنشطة العقارية 11% من حصّة الأنشطة الاقتصادية من الناتج المحلي الإجمالي في مصر. وتستحوذ 10 شركات عقارية على متوسط 88% من صافي أرباح الشركات العقارية المدرجة في البورصة المصرية. بين هذه الشركات، هناك شركتان أكثرية أسهمها مملوكة من إماراتيين؛ الأولى شركة «سوديك» التي تملك 15174.6 دونماً في القاهرة الكبرى، وحصّة الإماراتيين فيها تبلغ 78.81% من الأسهم. والثانية هي شركة «مصر للتنمية» التي تمتلك 10878 دونماً في القاهرة، وتبلغ حصّة الإماراتيين فيها نحو 72.93% من الأسهم. أما باقي الشركات العقارية، ففيها حصص وازنة لمستثمرين سعوديين؛ فمثلاً تبلغ حصّة المستثمرين السعوديين 24.44% من مجموعة «طلعت مصطفى القابضة» التي تملك 69043 دونماً من الأرض في القاهرة الكبرى.