لا يعرّض الدين العام الاستقرار الاقتصادي للخطر فحسب، بل يؤدّي إلى نشوء ظاهرة التبعيّة المالية البنيويّة التي تعني اعتماد الدولة على التمويل الآتي من القطاع الخاص للقيام بوظائفها الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة. ويفرض هذا الأمر قيوداً على الاستقلال النسبي للحكومة في مجال التمويل ويعطّل قدرتها على المناورة، بل إنّه يمسّ العقد الاجتماعي نفسه القائم على حقّ الدولة في الجباية في مقابل حقّ المجتمع بالرقابة والمشاركة. فضلاً عن أنّ التبعيّة يمكن أن تكون متبادلة بين القطاع المالي والدولة وقائمة في آنٍ معاً على التكامل والصراع: الدولة تعتمد جزئياً على التمويل من خلال القروض، فيما يتلقّى القطاع المالي من الدولة مجموعة كبيرة من السلع العامة التي تراوح بين صناعة السوق وضمان الاستقرار النقدي وتحقيق الأمن والحفاظ على حقوق المتعاملين.
التبعية للتمويل
في لبنان تعمّقت ظاهرة التبعيّة البنيويّة للتمويل مع التصاعد التدريجي لأزماته في ربع قرن، لكن مع فارق جوهري هو أنّ تبعيّة الدولة في الداخل كانت للتمويل الآتي من القطاع المالي الذي عانى بدوره من تبعية ماليّة بنيويّة للخارج (وبالتحديد للمصارف المراسلة والمصارف المركزية العالميّة وأسواق المال). فيما لم تظهر في البلد تبعية متبادلة بين القطاع المالي والدولة بسبب ضعف المؤسسات المسؤولة عن تقديم السلع العامة الضرورية لانتظام السوق، وعجزها عن توسيع نطاق المستفيدين من وفوراتها الخارجيّة إن وجدت.
والتبعيّة البنيويّة للقروض هي جزء لا يتجزأ من تبعيّة أوسع تشمل عموم المجتمع لا السلطة وحدها. فهذه الأخيرة إذ تستبدل الضرائب بالديون، تتحرّر من تبعات ممارسة الإكراه العلني أثناء قيامها بوظيفة الجباية، وتكتسب حصانة تجاه دافعي الضرائب، لتجد ما يكفي من القوّة للتملّص من موجبات العلاقة التعاقدية مع المجتمع على نحو يسهّل استتباعه إليها.

بافيل كوستانتين ــ رومانيا

أدّت الديون العامة في لبنان هذا الدور ولا سيما في العقد الأخير من القرن الماضي، ففي وقت كانت تزداد فيه باطّراد نسبة الإيرادات الاستثنائية (القروض) من مجموع واردات الخزينة، كانت حصّة الضرائب ولا سيما المباشرة منها، ضئيلة ومحدودة بل ومتراجعة أحياناً. لقد قوّى ذلك موقع السلطة تجاه المجتمع الذي استفاد بعضه من إنفاق ضخم مشوب بالهدر في مقابل عبء ضريبي محدود، ونَعِم بريوع السياسة النقديّة. وعلى هذا النحو سهّلت الديون العامة بوصفها بديلاً من الضرائب إفراغ العقد الاجتماعي من مضمونه، وساهمت في تعطيل قنوات إعادة التوزيع وتغييب المساءلة والمحاسبة وتوسيع نطاق الزبائنيّة، وجعلت العلاقة بين السلطة والمواطنين كذلك علاقة باتجاه واحد من الأعلى إلى الأسفل.
وبحسب الباحثة البريطانية سوزان سترينج فإنّ حامل القوة البنيوية يستطيع تغيير خيارات الأفراد من دون ممارسة ضغوط مباشرة عليهم. لكن هذه القوّة ليست في اتجاه واحد، إذ يملك المتعاملون مع القطاع المالي أيضاً، سلطة الرفض من خلال الامتناع مثلاً عن إيفاء الديون أو التهديد بالتوقف عن الدفع، وهذا ما كان متكرراً ومألوفاً حتى القرن التاسع عشر*.
يُلاحظ أنّ الدولة في لبنان فعلت ما لم يقوَ المقترضون الآخرون على فعله أي التوقّف عن الدفع، فيما اضطر الأشخاص ومؤسّسات القطاع الخاص إلى الاستمرار في تسديد ما عليهم للمصارف، وتحمّل المودعون كل الخسائر الناتجة من الانهيار المالي. وإن دلّ ذلك على شيء فإنّما يدلّ على استحواذ الدولة على جزء من القوّة البنيوية التي كان يمكلها القطاع المالي، وهذا بفعل التداخل بين القطاع المصرفي والبنك المركزي واستقواء «النخبتَين» السياسيّة والمالية بعضهما ببعض، وتبعيّة الاقتصاد للتمويل الخارجي.

حركيّة رأس المال
ولا يقف الأمر عند دور الديون العامة، بل يتعدّاه إلى نتائج «أموَلة» النظام العالمي Financialization التي يعدّ لبنان مثالاً على الصعوبات الإضافية التي تتسبب بها في ظروف التعثّر. وتنطوي ظاهرة الأمولة على ثلاثة وجوه:
- الأول، زيادة تأثير الأسواق المالية ونُخبها ودوافعها على السياسات الاقتصاديّة وأولوياتها.
- الثاني، استحواذ القلّة على أسواق الائتمان الدولية، ومضاعفة قدرة المؤسسات الرسميّة والدوليّة على التدخل في عملها (المصارف المركزيّة والحكومات والمؤسسات المالية الدولية...).
- الثالث يمثّله ما ذُكر سابقاً عن الاعتماد المتزايد على التمويل الآتي من القطاع الخاص عوضاً عن اللجوء إلى الضريبة.
والأمولة ليست تطوّراً عابراً في الاقتصاد السياسي العالمي، بل إنّها جزءٌ لا يتجزّأ من التحوّل من الدولة الكلاسيكيّة القائمة على الضريبة Tax State إلى دولة الاقتراض النيوليبرالية. فالدائنون في هذه الدولة هم ناخبون كبار، وأثرهم على السياسات يساوي أو قد يفوق تأثير مجموع الناخبين - المواطنين. لكن اللافت في لبنان هو أنّ المصرفيين تمتّعوا بنفوذ واسع في رسم السياسات الاقتصادية للبلد قبل الانهيار، فيما تبدّدت قوّتهم البنيوية بعده، والتي يستعملون ما تبقّى منها في الدفاع عن مصالحهم المباشرة.
لا يمكن فهم ما يمرّ به لبنان وأسبابه، بمعزل عن التداعيات الكبيرة لتسارع حركيّة رأس المال التي تقيّد سلوك الدولة في النظام الاقتصادي العالمي وتعرّضها لطائلة الثواب والعقاب


ولا يمكن فهم ما يمرّ به لبنان وأسبابه، بمعزل عن التداعيات الكبيرة لتسارع حركيّة رأس المال التي تقيّد سلوك الدولة في النظام الاقتصادي العالمي وتعرّضها لطائلة الثواب والعقاب. وفي سياق ذلك يظهر الترابط الملحوظ بين القوّة البنيوية للتمويل وحركيّة رأس المال التي تنمّي تمركز عمليّات الإقراض والتوظيف وتحصرها بأقلية متناقصة العدد من المؤسسات والبنوك**. لكن هذه الحركيّة خفتت تدريجيّاً بعدما وصلت إلى حدّها الأقصى خلال ذروة العولمة في النصف الأول من التسعينيات، وقد ارتبط تراجعها بالأزمات الناتجة عنها أو المرتبطة بها، مثل أزمة الأسواق الآسيوية في أواسط العقد الأخير من القرن الماضي، وانفجار فقاعة الإنترنت، المعروفة أيضاً بانهيار الدوت كوم، حين فقدت بورصة «ناسداك» التي تُتداول فيها أسهم شركات التكنولوجيا الجديدة أكثر من 80% من قيمتها في بداية الألفيّة الثالثة، ثم الأزمة المالية الكبرى عام 2008.
أمّا لبنان، فبقي يخوض في بحر الأموَلة المتلاطم ويدور في رمالها المتحرّكة من دون تحسّب للعواقب، بل من دون قراءة متبصّرة للمؤشرات، ومنها المستخرجة من بيانات المصارف ومصرف لبنان، التي دلّت على امتلاكنا نموذجاً مقلوباً للاقتصاد المالي، فالأصول الحقيقيّة كانت تذوّب ضمن أوعية محليّة غير مدعومة لا بإنتاج محلي للقيم القابلة للتبادل ولا بقدرة متجدّدة على الاقتراض من الخارج، فيما الأموَلة في نسختها الأصليّة ترتبط بالإنتاج الفعلي ربطاً بأداء الاقتصاد، أو الإنتاج الممكن مستقبلاً بناء على ما يملكه بلد ما من مزايا وخصائص تجذب إليه الموارد.



* خلال الكساد الكبير وما بعده في عقد الثلاثينيات من القرن الماضي أعلنت 32 دولة توقّفها عن الدفع، منها تسع أكثر من مرّة (Reinhart and Rogoff. This time is different 2009). ويرصد جيروم روس (روس، 2019، ص 96 ) ثلاث موجات من الامتناع عن دفع الديون السيادية:



** كانت المصارف الخمسة الأكبر في الولايات المتحدة تستحوذ على 17% من الموجودات الإجماليّة للمصارف في عام 1970، ثم ارتفعت إلى 52% في عام 2010، فيما انخفضت حصّة المصارف الأصغر من 46% إلى 16% (12500 مؤسّسة). ونلاحظ أيضاً نموّ قروض صندوق النقد الدولي من أقل من ملياري دولار سنويّاً عام 1973 إلى 140 ملياراً عام 2001 قبل أن يتراجع بعد الأزمة المالية إلى نحو 100 مليار. أمّا الديون الخارجية للدول متوسطة الدخل فارتفعت من أكثر بقليل من 10% من الناتج القومي في عام 1970 إلى ما يزيد عن 40% منه مع بداية الألفية قبل تراجعها إلى نحو ربع الناتج بعد ذلك، فيما نمت ديون مجموع من 12 دولة رئيسية من OCED من نحو 42% من الناتج المحلي الأجمالي عام 1970 إلى أكثر من 90% عام 2010 (OCED Economic outlook; World Bank 2017; IMF 2017).