في مطلع السنة الجارية قرّرت تركيا المباشرة بمرحلة جديدة من «مشروع الأناضول الكبير» وهو عبارة عن خطة مائية ضخمة من السدود ومشاريع الطاقة الهيدروليكية. بنتيجة هذا المشروع انخفض تدفّق مياه الفرات الآتي من تركيا إلى سوريا بنسبة 60% وانخفض تدفّق مياه دجلة والفرات في العراق بنسبة 50%. هذا الأمر بات يهدّد الأمن المعيشي لنحو 12 مليون شخص يعيشون في العراق وسوريا. فقد أدّى انخفاض التدفق إلى شحّ في المياه المستعملة في الري والخدمات، فضلاً عن انقطاع التيار الكهربائي الناتج عن الطاقة المائية في البلدين. ولم تكن التداعيات محصورة بكميات المياه المتدفقة، بل بنوعيتها أيضاً، إذ ازدادت نسبة ملوحتها ومعدلات تلوّثها أيضاً ما أضرّ بالإنتاج الزراعي في البلدين.
أنقر على الصورة لتكبيرها

زيادة في الملوحة
يمثّل نهرا دجلة والفرات موردين مهمّين للمياه الجارية في البلدان الثلاثة التي يمران عبرها: تركيا، سوريا، العراق. ينبع النهران من تركيا ويمرّان عبر سوريا، ليلتقيا في العراق فيشكلان شطّ العرب الذي يصبّ في الخليج المتنازَع على تسميته بين الخليج الفارسي والخليج العربي.
يمتدّ حوض نهر الفرات بطول 3000 كيلومتر، وهو يجري في تركيا - بلد المنبع - نحو 1230 كيلومتراً، وفي سوريا نحو 710 كيلومترات، وفي العراق 1060 كيلومتراً. وتقدّر نسبة تدفق المياه من المنبع في المجرى بنحو 88.7%، بينما تقدّر نسبة المياه السورية التي تنساب في المجرى بنسبة 11.3%. ويتدفّق عبر مجرى الفرات ما يُقدّر بنحو 31.8 مليار متر مكعّب من المياه سنوياً.

70%

هي نسبة المياه من نهر الفرات المتوقّع أن يستجرها مشروع الأناضول الكبير عند اكتماله


هذه المعطيات كانت قبل مطلع السنة الجارية، أي قبل أن تباشر تركيا في تنفيذ «مشروع الأناضول الكبير». ففي المعطيات الواردة أخيراً، يتدفّق من الحدود السورية التركية نحو 200 متر مكعّب في الثانية، وهو أقل بنسبة 60% من التدفّق المتّفق عليه بين البلدين، والبالغ 500 متر مكعب في الثانية وفقاً لاتفاقية عام 1987. ويعاني نهر الفرات في سوريا، أصلاً، من ارتفاع نسبة الملوحة، ويعود ذلك إلى تسرّب مياه الري التي تحمل ملوحة عالية إليه. فبحسب موقع فاناك الذي يتابع أوضاع الموارد المائية في البلدان، تزداد الملوحة في نهر الفرات من 400 «ميلي-سيمنز في السنتيمتر» (أحد وحدات قياس الملوحة) في جرابلس على الحدود التركية، إلى أكثر من 1000 «ميلي-سيمنز في السنتيمتر» في البوكمال على الحدود العراقية. أي إنّ نسبة الملوحة في نهر الفرات تزداد مرتين ونصف بين دخول المياه إلى سوريا وخروجها منها. كما تعاني المياه من التلوّث بسبب دخول مياه الصرف الصحي عليها في عدّة مناطق من سوريا. إلّا أن انخفاض تدفّق المياه من تركيا إلى سوريا ساهم في ارتفاع نسبتَي الملوحة والتلوّث، لأن انخفاض تدفّق نسبة المياه العذبة يحرم إمكانية تعديل نسب الملوحة والتلوث.
وبالنسبة إلى نهر دجلة، فيمتدّ حوضه بطول 1850 كيلومتراً، ويجري في تركيا مسافة 400 كيلومتر، ويمر في سوريا قاطعاً مسافة 40 كيلومتراً فقط قبل دخوله العراق حيث يجري مسافة 1418 كيلومتراً. وتسهم تركيا بنحو 51% من تدفّق نهر دجلة، مقارنة مع مساهمة العراق بنسبة 49%. ويعتبر نهر دجلة غير مستقرّ وصعب التوقّع لجهة كمية التدفّق والفيضانات. ويستفيد العراق من نهري دجلة والفرات بنحو 150 متراً مكعباً في الثانية فقط، في حين يقول العراق إن الكمية المطلوبة هي نحو 500 متر مكعب في الثانية، إلّا أن معدّل التدفّق في عام 2020 انخفض إلى ما دون 150 متراً مكعّباً في الثانية. وبحسب موقع فاناك، فإن نهرَي دجلة والفرات في العراق يعانيان من نسبة ملوحة عالية، إلّا أن نسبة الملوحة في نهر دجلة أقل منها في نهر الفرات، بسبب بعض العوامل الجيولوجية، إضافة إلى أن نهر الفرات يمرّ عبر سوريا حيث يكتسب ملوحة عالية خلال مروره فيها. ويلعب انخفاض تدفّق المياه في نهري دجلة والفرات دوراً بارزاً في ازدياد نسبة الملوحة بسبب انخفاض نسبة المياه العذبة الآتية من المصدر.

لا يوجد اتفاق ثلاثي بين البلدان يوضح حصّة كل بلد من المياه


اعتمادٌ كبير على النهرَين
تتميّز سوريا والعراق بمناخ شبه صحراوي، حيث لا تشهد أجزاء كبيرة من أراضيهما متساقطات كافية. لذا تعتمد سوريا بشكل كبير على نهر الفرات الذي يشكّل 85% من استخدامها للمياه المتجدّدة. ويعتمد العراق بشكل كلّيّ على نهرَي دجلة والفرات إذ يشكلان 100% من استخدامه للمياه المتجددة. تخدم هذه المياه في غالبيتها قطاعَي الزراعة في البلدين. يستحوذ القطاع الزراعي في سوريا على 87% من هذه المياه، والقطاع الزراعي في العراق يستحوذ على 75% منها. وقبل انخفاض التدفقات من النهرين، كان البلدان يعانيان من عجز في الماء؛ ففي الفترة الممتدة بين عامي 1992 و2012 كان متوسط العجز في سوريا يبلغ نحو 1.25 مليار متر مكعب سنوياً ويقدّر البنك الدولي أن يبلغ 3 مليارات في 2020. وفي العراق أيضاً يقدّر البنك الدولي أن يبلغ العجز المائي نحو 11 مليار متر مكعب بحلول 2035، علماً بأنه لا توجد أرقام مستقرّة للعجز المائي في العراق بسبب التقلّب السنوي في تدفّق نهر دجلة.

ضرب الزراعة والكهرباء
في ظلّ هذه المعطيات، تصبح التعديات التركية على النهرين وأثرها لجهة الحدّ من تدفقاتهما إلى سوريا والعراق، أكثر أهمية. فمعظم الموارد المائية في البلدين مخصّصة للري. والقطاع الزراعي شكّل في عام 2017 نحو 26% من الاقتصاد السوري و11% من الوظائف فيه، بحسب منظمة الغذاء العالمية. كذلك تقول المنظمة إن القطاع الزراعي في العراق يشكّل نحو 5% من الاقتصاد العراقي في عام 2019، ونحو 20% من الوظائف فيه. لذا، يمكن لشحّ المياه أن يضرب النشاط الزراعي القائم على النهرين في سوريا والعراق، علماً بأنه لا بدائل مُتاحة في بلدين يسيطر عليهما مناخ صحراوي. فالتلوّث والملوحة الناتجان من انخفاض تدفقات المياه إلى البلدين ينعكسان مباشرة في نوعية الزراعة وفعاليتها وجودة المنتجات الزراعية. وهذا له أثر كبير على دور هذا القطاع الاقتصادي لناحية الإنتاجية وتوفير فرص العمل.
ومن ناحية أخرى، يغذّي هذان النهران محطّات توليد للكهرباء تعمل على الطاقة المائية. فسوريا، مثلاً، تنتج نحو 1500 ميغاوات من السدود المبنية على نهر الفرات. العراق ينتج نحو 2500 ميغاوات من السدود المبنية على نهري دجلة والفرات. لذا فإن شحّ مياه النهرين سيسبّب انخفاضاً في التغذية بالتيار الكهربائي يُضاف فوق ضعف التغذية القائمة حالياً، ما سيكون له أثر اقتصادي واسع.

منذ عام 1975 أيّ بعد بناء أول سدّ تركي على نهر الفرات انخفض تدفّق المياه إلى العراق بنسبة 80% وإلى سوريا بنسبة 40%


ويضاف إلى الأزمة المترتبة على البعد الاقتصادي أزمة إنسانية منتظرة، في حال استمرّ هذا التعدي التركي على مياه النهرَين. فبحسب عدّة منظمات حقوقية، يعاني 12 مليون شخص بين العراق وسوريا من مخاطر عدم الحصول على المياه والغذاء والكهرباء بسبب هذه الأزمة. فإضافة إلى الأثر المباشر الذي يشكّله انخفاض تدفّق المياه في النهرين على حصول الناس على المياه، هناك ضرر غير مباشر على هذه الشريحة من الناس، فانخفاض التدفق في النهرين سيؤثّر على السكان حرماناً من الحصول على الطاقة الكهربائية، بالأخص أولئك الذين يعيشون قرب السدود المولّدة لهذه الطاقة والذين يستفيدون بشكل كبير منها. أضف إلى ذلك أن الأثر على القطاع الزراعي وإنتاجيته، سينعكس أيضاً على الأمن الغذائي للبلدين، وبشكل خاص على سوريا التي يمنعها الحصار الأميركي من استيراد الغذاء بشكل طبيعي، وهو ما يدفعها إلى الاعتماد على الإنتاج الداخلي.

صراع قديم
تاريخياً، كان العراق أكثر المستفيدين من مياه دجلة والفرات بين البلدان الثلاثة. وفي الستينيات كان العراق يستفيد من مشاريع ري عملاقة على النهرين تسبق بحجمها مشاريع الري في تركيا وسوريا، إلا أن هذا الواقع تغيّر مع انخراط سوريا والعراق وتركيا في محادثات حول حقوق استعمال مياه دجلة والفرات، انطلاقاً من رغبات تركيا وسوريا بناء السدود للاستفادة من الموارد المائية التي تمرّ عبر أراضيهما. لكن المشكلة تكمن في أنه لا يوجد اتفاق ثلاثي بين البلدان يوضح حصّة كل بلد من المياه. فاللجنة المشتركة التي أُنشئت في عام 1980 بهدف تحقيق اتفاق عام بين الدول المعنية والتأكد من أن أي إجراءات ثنائية مستقبلية يجب أن تتوافق مع القانون الدولي، لم تستطِع أن تتوصل إلى اتفاق لغاية يومنا هذا.

30%

هي نسبة مياه نهري دجلة والفرات من المياه السطحية الجارية في تركيا


كل ما هو موجود لا يتجاوز الاتفاقات الثنائية، مثل تلك التي بين سوريا وتركيا في عام 1987 وبين سوريا والعراق في عام 1990. فقد أفضى الاتفاق التركي - السوري إلى التوافق على أن يصل إلى سوريا 500 متر مكعّب في الثانية من مياه نهر الفرات، أي ما نسبته 56.2% من التدفق الطبيعي للنهر. أما الاتفاق السوري العراقي في عام 1990 فقد نتج عنه توافق بين الجانبين على أن يحظى العراق بنسبة 58% من التدفق الآتي من تركيا، في حين يحظى الجانب السوري بنسبة 42% من هذا التدفّق. والمنطق الطبيعي هو أن يكون الاتفاق ثلاثياً وواضحاً في توزيع الحصص وفقاً للأعراف والقانون الدولي. ولأن هذا الاتفاق لم يحصل تم خرق الاتفاقات الثنائية من الجانب التركي من دون أيّ رادع، وهو ما لا يقتصر على ما حصل أخيراً، بل سبق ذلك في عام 1990 حين بدأت تركيا بملء سد «أتاتورك» ما أدّى إلى انخفاض تدفّق النهر إلى نحو 165 متراً مكعباً في الثانية، ما شكّل انتهاكاً لاتفاقية 1987 مع الجانب السوري.
يقول مارك دورمان وروبرت حاتم في ورقتهما البحثية «تأثير السياسة المائية على العلاقات بين تركيا والعراق وسوريا»، أن تركيا تعتبر نهري دجلة والفرات نهرين وطنيين، أو حدوديين، وتتذرّع لذلك بما يسمى بـ«عقيدة هارمون». هذه العقيدة تُنسب إلى رأي المدّعي العام الأميركي جادسون هارمون، التي أطلقها منذ 100 عام وتنصّ على أن الدول تتمتع بالسيادة المطلقة على المجاري المائية داخل حدودها. لذا، تدّعي تركيا أن مواقع النهرين الناشئين داخل حدودها، تمنحها حقوقاً سيادية على مياههما. هذه النظرة، بطبيعة الحال، تجعل الوصول إلى اتفاقات بين تركيا وباقي دول المصب أمراً مستحيلاً. لأن وجود هذه الخلفية في التعاطي التركي، يجعلها تتعامل مع الأطراف الباقية على أساس أنها هي من تمنحهم المياه، وليس على أساس أن هذه المياه هي من حقهم.

مشروع الأناضول
يعدّ مشروع الأناضول السبب الأساسي لشحّ المياه في نهري دجلة والفرات في السنوات الخمسين الأخيرة. فمنذ عام 1975، أي بعد بناء أول سد تركي على نهر الفرات، انخفض تدفّق المياه إلى العراق بنسبة 80% وإلى سوريا بنسبة 40%. وهذا المشروع، القائم على بناء 22 سداً، هو السبب الأساسي في الشحّ الأخير الذي يعاني منه نهرا دجلة والفرات في سوريا والعراق.

112

مليار متر مكعّب هي إجمالي موارد المياه السطحية والجوفية في تركيا، بما في ذلك 98 مليار متر مكعّب من المياه السطحية و14 مليار متر مكعب من المياه الجوفية، وفقاً لبيانات لجنة الأشغال المائية الحكومية في تركيا عام 2005


فمنذ نشأتها، سعت الجمهورية التركية بشكلها العصري إلى أن تطوّر من مواردها المائية في سبيل الوصول إلى أهدافها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وقد تبلور هذا الأمر في «مشروع الأناضول الكبير» الذي طُوّر كفكرة نهائية عام 1977. في الواقع بعض مشاريع السدود التي أقيمت قبل تلك السنة، أصبحت جزءاً من هذا المشروع المتكامل.
ويعتبر مشروع الأناضول أكبر مشروع تطويري في تركيا، وهو أحد أكبر المشاريع التطويرية في العالم. في عام 2005 جرى تعديل على هذا المشروع، ليصبح موعد إكماله بحلول عام 2023. ويضم هذا المشروع بناء 22 سداً، منها 13سداً ضخماً. من بين هذه السدود الـ13، هناك 7 على حوض الفرات و6 على حوض دجلة. كما تضم الخطة 19 مشروعاً لتوليد الكهرباء عبر الطاقة المائية. يغطي المشروع نحو 75 ألف كم مربّع وهو ما يمثّل نحو 10% من الأراضي التركية، كما يهدف إلى توليد 7500 ميغاوات من الكهرباء الناتجة من الطاقة المائية. وقد استثمرت الدولة التركية في مشروع الأناضول بشكل كبير، فقد استحوذ على 7% من الإنفاق العام منذ التسعينيات حتى اليوم. ويدل هذا الأمر على الأهمية التي تعوّل عليها تركيا في هذا المشروع رغم المخاطر التي يحملها لجهة التسبب بتوترات مع دول المصب.
وقد كان هذا المشروع سبباً أساسياً في تدهور العلاقات بين تركيا وكل من سوريا والعراق. فمنذ بدايته، أبدى العراق وسوريا قلقهما من انخفاض تدفّق المياه إليهما، وقد وصلت الأمور إلى حدّ تهديد العراق بضرب سدّ أتاتورك عندما بدأت تركيا بملئه، وهو ما جعل تركيا تهدد بقطع المياه كلياً، إلا أن هذه المشادّة بقيت في إطار التهديدات المتبادلة ولم تتطوّر بشكل فعلي.