هل أصبح الأسوأ وراءنا فعلاً؟ من يجد سبيلاً إلى الثقة بالكلام الصادر أخيراً عن رياض سلامة لعله يتأمل خيراً وهو يحصي آخر دولارات أو ليرات موازية - وهي تختلف وفق المعادلة المعتمدة - في جيبه. حاكم مصرف لبنان حسم المعادلة من جانبه عندما قرّر البقاء والمواجهة. فمع تأقلم الاقتصاد اللبناني مع ثلاث أسواق صرف بالحد الأدنى، يراهن الحاكم على تعطش المواطن لسعر صرف مستقرّ يكون ربما ثلاثة أضعاف السعر الرسمي السائد حالياً، ويراهن أيضاً على حاجة الطبقة السياسية إليه (وعلى خشيتها منه في آن)، وعلى تطلعها إلى انتخابات رئاسية أميركية ستفتح المشهد اللبناني على التحول باتجاه أو بآخر، مهما كانت نتيجتها. فبعدما تأكّد مجدداً أن أي برنامج اقتصادي نقدي متكامل للبنان لا يُمكن أن يمرّ إلا عبر واشنطن وذلك لضمان التسويات المقابلة، توافق جميع الأفرقاء على أن لا مشكلة في أن يعاني فقراء البلاد وطبقتها الوسطى ويتكبدون المزيد من الخسائر، بانتظار الإشارة الأميركية. ومع اقترابها يجزم رياض سلامة بأن الأسوأ انتهى. ولكن أين أضحت البلاد بعدما تخلى عنها ساستها كلياً منذ عام كامل؟

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

الأزمة المركّبة والمعقّدة التي تفاقمت منذ الخريف الماضي، ستؤدي إلى تقلّص الاقتصاد بواقع الخِمس تقريباً هذا العام، ما يعني أن نشاطات إنتاجية تولد أجوراً وأرباحاً وريوعاً بأكثر من عشرة مليارات دولار ستتبخر كلياً. هكذا يؤثر الركود على الفئات الهشّة مباشرة ويُتوقع أن يتضاعف تقريباً معدل الفقر والفقر المدقع مقارنة بمستويات عام 2012، ليبلغ 45% و22% على التوالي.
وفي ظل البحث محلياً عن آليات للتمنّن على المواطن عبر مشاريع مثل بطاقة الدعم وسعي الأحزاب والزعامات إلى شراء الولاءات السياسية والطائفية عبر سلل المساعدة، تُقارب المنظمات الدولية هذا الوضع بشكل عملي ولكن مسطّح في آن. فبرنامج البنك الدولي للدعم الطارئ لشبكات الأمان يعتمد المقاربة نفسها، ويرصد 206 ملايين دولار في مرحلته الأولى لكي توزع عبر الأنظمة المختلفة. وإذ يتباهى معدّوه بأن نطاق التغطية سيرتفع ليشمل 112 ألف عائلة فقيرة جداً، أي من 1.5% إلى 22%، يتناسون أن ازدياد عدد الفقراء هو العامل المتحول الأساسي وليس نسبة النجاح في الوصول إليهم لمساعدتهم. وأيضاً يعتمد البنك سعر صرف موازياً خاصاً هو 3850 ليرة أمام الدولار؛ هل هو عملي فعلاً للفقراء؟
هذا ما ينقلنا إلى جذر «الأزمة الحادة (التي) أضحت وراءنا» بحسب رياض سلامة. إذ ما استمر بمفاقمة الوضع هو قرار واضح من المصرف المركزي والسلطة السياسية لتحرير سعر الصرف وضرب القدرة الشرائية لفرض توازن جديد في إطار من المفاوضات المبطنة مع فقراء هذه الأرض. في المبدأ، عندما يُترك سعر الصرف الرسمي لآليات السوق كي تحسم مستوياته عند مقاصات نتيجة العرض والطلب، لا يشهد السعر هبوطاً حرّاً بالكامل، إلا إذا كانت السوق الموازية التي ستحدد بنهاية المطاف هذا التوازن تعيش بدورها حالة هبوط حرّ.
ينطبق هذا السيناريو على لبنان. فهو ضمن مجموعة تضم أيضاً الأرجنتين وزيمبابوي، والتي سجّلت أخيراً حالات تدهور سريع في سعر الصرف في السوق الموازية. غير أن حالة لبنان استثنائية لكونها تعكس سياسة «الموت بألف طعنة» وفقاً للتعبير المستخدم في ورقة نشرها صندوق النقد الدولي أخيراً وهو تعبير بارد وملائم في آن. يعني هكذا خيار، عملياً، أنه إذا لم تعمد السلطات النقدية والسياسية والمالية إلى تبنّي التعديل المباشر لسعر الصرف على نحو وثيق وسريع لتخفيف الكلفة، فإن البديل هو مقاربة تدريجية تكبّد الاقتصاد عموماً وفئاته الأكثر هشاشة خصوصاً أكلافاً عالياً لا يُمكن احتواؤها سوى برفع معدلات الفوائد بشكل كبير لكبح توقعات تراجع سعر الصرف مستقبلاً. غير أن هكذا مقاربة قد لا تصل أبداً إلى التوازن المنشود وتُبقي البلاد معلّقة بين أسواق رسمية وموازية بدون أفق، كما هي حالة لبنان حالياً.
وإذا استمرت العوامل التي تُشكل ضغطاً على سعر الصرف، فمن المتوقع أن يضعف السعر أكثر إلى حين معالجة المشاكل الهيكلية - سياسية كانت أم اقتصادية - أو تحقيق نتائج مالية ونقدية مباشرة تنعكس إيجاباً على عمليات الحساب الجاري ووضعية البلاد بالنسبة إلى الخارج والعملات الصعبة. المعضلة اللبنانية هي أن النظام السياسي القائم لم يعد صالحاً للإدارة، ناهيك بطمأنة السوق بشأن العملة الوطنية. ولربما أمام الليرة أشواط طويلة، وألف طعنة إضافية، قبل الاستقرار النهائي.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا