يغرق لبنان في أزمة مركّبة؛ اقتصاد مدمّر، واختناق مالي، ووضع نقدي قاتم، تزامناً مع فوضى سياسية واضطرابات اجتماعية. بنتيجة هذا الوضع، خسرت الثروات المحفوظة في الأصول نسبة مهمة من قيمتها فتملّك شريحة من الناس هاجس الحفاظ على ما تبقّى من ثرواتهم عبر تحويلها إلى النقد الورقي بالعملة الأجنبية (الدولار). فالثروة، مهما كان حجمها أو شكلها، باتت مهدّدة بالذوبان والتبخّر ولم يعد هناك مجال لحفظها سوى بتحويلها إلى النقد الذي يُسمّى «الثروة الكونية». منذ عقود كان لدى لبنان سياسات مالية ونقدية متطرّفة. كانت السمة الأبرز في النموذج الاقتصادي اللبناني سموّ السياسات النقدية والمالية على الاقتصاد الحقيقي بكل محرّكاته. جاءت هذه النتيجة بعد قرار تثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار منذ نهاية الحرب الأهلية، واستمرّ الأمر لغاية حصول الانهيار في مطلع هذه السنة. انعكس الأمر خسارة في المداخيل والمدّخرات والثروات. الأجر الوسطي في لبنان خسر أكثر من نصف قيمته، بينما المدّخرات في المصارف باتت مقيّدة بضوابط السحب والتحويل غير الشرعية، ولم يعد ممكناً الوصول إليها إلا عبر سحبها ضمن سقف محدود على سعر صرف يبلغ 3900 ليرة مقابل كل دولار، أي أقلّ من السعر في السوق المحلية بنحو 4600 ليرة (السعر في نهاية الأسبوع الماضي بلغ 8500 ليرة مقابل الدولار). ثمة فئة من المدّخرين، سواء أكانوا من المودعين ذوي الودائع الصغيرة أم المودعين ذوي الودائع الكبيرة، سحبت مبكراً مدخراتها أو قسماً منها، وحوّلته إلى دولارات ورقية يمكن تخزينها في المنازل بهدف الحفاظ على قيمتها أو استعمالها بقيمتها الفعلية في السوق.
هل نقل الثروة من مدخرات مصرفية أو من أصول ثابتة إلى نقد بالدولار هو وسيلة جيّدة لحفظ الثروة؟ نظرياً هناك عدد من الوظائف للنقد من ضمنها استعماله كوسيلة دفع، أو وسيلة لتحديد القيمة العادلة لتبادل السلع والخدمات، لكن الوظيفة الأهم هي تلك المتعلقة بحفظ الثروة. بحسب الاقتصادي الإيطالي أوغوستو غرازياني، فقد حصل تحول في التعريف المالي عند الاقتصاديين بعدما كان التعريف الأساسي يركّز على النقد كقوّة شرائية. أصبح التعريف مرتبطاً بتخزين الثروة. «إذا كان المال يُستخدم كقوة شرائية فقط فهذا يعني وجوب اقترانه بفائدة غير مباشرة ناتجة عن السلع التي يشتريها، أما إذا أردنا أن يسفر المال عن فائدة خاصة به مباشرة، فيجب عليه أن يكون أداة لتخزين الثروة». هذا هو فعلياً، ما حدث في الاقتصاد الرأسمالي. ففي ورقة بعنوان «دور المال في الرأسمالية» يشير الباحثان جيفري لاو وجون سميثين إلى أن «تراكم المال في ظل الرأسمالية كطريقة للحصول على السلطة والتأثير يتقاطع مع تراكم الأرض للحصول على السلطة و(البريستيج) في ظل النظام الاقطاعي». هكذا يظهر بأن الوظيفة الأساسية للنقد في الاقتصاد الرأسمالي، تحوّلت من وسيلة لتسهل وتبادل وتقييم السلع والخدمات، إلى وسيلة لحفظ الثروة. هنا السؤال الأهم: هل النقد هو وسيلة جيدة لحفظ الثروة؟
هل نقل الثروة من مدخرات مصرفية أو من أصول ثابتة إلى نقد بالدولار هو وسيلة جيّدة لحفظ الثروة؟


النقد يُسمى «الثروة الكونية» وأهم مسألة مرتبطة به هي أن الثروة تُحفظ به. ففي ظل النظام الرأسمالي، جرى تسليع كل شيء، وبالتالي لم يعد ضرورياً الاحتفاظ بالسلع، بل بالقيمة، والنقد هو مؤشر على ارتفاع القيمة أو انخفاضها. في ظل هذا النظام الرأسمالي لا بديل من النقد. بهذا المعنى يكون الدولار هو حافظ الثروة الكونية اليوم، أو وسيطاً لحفظ المدّخرات الكونية. ولأن الدولار صادر عن الولايات المتحدة الأميركية ولديها القدرة على تحريكه، فإن خفض قيمة الدولار أو رفع قيمته سيؤدي إلى نتيجة مماثلة في الأصول المحفوظة من خلاله. طبعاً هناك الكثير من العوامل التي تحدد سعر تداول النقد مثل سعر الفائدة. لنأخذ مثالاً على قيمة الثروة المحفوظة من خلال الدولار: في آخر الألفية الثانية، قرّر محافظ الفدرالي الأميركي بن برنانكي، خفض سعر الفائدة ما دفع المستثمرين إلى الهروب من سندات الخزينة الأميركية نحو سوق السلع. يومها ارتفعت كل أسعار السلع بما فيها النفط والقمح والأرز... وبنتيجة هذا الارتفاع تضاعفت أكلاف إنتاج هذه السلع نحو ثلاث مرات. بقرار واحد، صارت كل السلع المسعّرة بالدولار هي حافظة لثروات ولأرباح إضافية وأكلاف إنتاج ضخمة. لذا، فإن الدافع وراء الاحتفاظ بالنقد مهم في هذا الإطار. للمفارقة، إن الاحتفاظ بالمال باعتباره وسيلة شراء سلع أو خدمات يختلف عن كونه وسيلة لحفظ الثروة والاستفادة من تخزينها. يمكن تخزين النقد في المصارف مقابل سعر فائدة معينة، إلا أن الأرباح التي قد تتأتّى من ذلك مقيّدة بمجموعة أهداف تحدّدها السياسات النقدية وتفاعلها مع السياسات المالية والاقتصادية.
ما حصل في لبنان، أي التهافت على تحويل الأصول إلى نقد بالدولار وتخزينها في المنازل لحفظ المدّخرات والثروات، يتعلق بمستوى المخاطر في السوق. في لبنان مخاطر الاحتفاظ بالثروة في المصرف مرتفعة. والمخاطر أقلّ إذا كانت عملة ورقية يمكن خزنها في المنازل. إيداع المال في المصرف ينقل جزءاً من المخاطرة إلى عاتق المصرف أما اللجوء إلى إيداع المال في المنازل، فقد ينطوي على مخاطر مختلفة من أبرزها خسارة الربح الريعي الذي يولّده المال في المصرف، وارتفاع مخاطر السرقة وسواها، لكنه يبقى وسيلة أفضل لحفظ الثروة في ظل القيود المفروضة في المصارف على عمليات السحب والتحويل. فهذه القيود تعني أن الثروة الفاقدة لحرية التحرّك هي تخسر قيمتها المتداولة فعلياً في السوق.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا