«هوّة الدولار» التي يغرق فيها الاقتصاد اللبناني على نحو متزايد على مدى عقد كامل، وتحديداً منذ انفراط عقد التوافق الداخلي وبعده اندلاع الحرب السورية، تضع البلاد المأزومة سياسياً أمام استحقاقات جمّة أثبتت أن الإفلاس أضحى واقعاً ملموساً وليس تمريناً نظرياً.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

إزاء هذا الوضع، تبحث الحكومة عن آليات لتأمين الدولار، ومعه الاستقرار الاجتماعي الهشّ، بعدما هوت احتياطات مصرف لبنان إلى 22 مليار دولار فقط وانكشفت كلياً لعبة النظام المالي، وأضحى لبنان وحيداً من دون دعم سياسي ومؤتمرات مالية دولية. من الخيارات المطروحة أو الممكنة، التفاوض مع صندوق النقد الدولي؛ وهو خيار مثير للجدل وللشكوك نظراً إلى الصيت السيّئ الذي تتمع به هذه المؤسسة الدولية. غير أن بلداً شهد الترشيق الهيكلي الذي هندسه وزير المال السابق فؤاد السنيورة خلال التسعينينات، لا يجب أن يخشى أبداً التفاوض مع الصندوق، حتى وإن كان الأخير يتمتّع بقوّة مالية تصل إلى 1000 مليار دولار، وتُعدّ الولايات المتّحدة بالتعاون والتعاضد مع أوروبا الغربية الموجّهة لسياساته وأجندته.

خمس توصيات
تُشكّل حالة آيسلندا مثالاً قريباً من الوضعية اللبنانية. فما تعرّض له هذا البلد الأوروبي الصغير خلال الأزمة المالية العالمية يُعد صدمة خارجية على اقتصاده العام وتحديداً على قطاعه المصرفي الذي كان محرّك الاقتصاد الأول. خلال السنوات الأولى من الألفية اعتمد الاقتصاد السياسي الآيسلندي برمّته على نشاط المصارف. فاقت قيمة أصول المؤسسات المالية ثمانية أضعاف الناتج المحلي الإجمالي، في ظلّ تركّز هائل وسيطرة ثلاث مؤسسات مالية على 90% من الأصول، أي ما يعادل سبعة أضعاف الاقتصاد برمّته.
أكثر من ذلك، خلال السنوات المؤدّية إلى وقوع الأزمة المالية كان النشاط التمويلي بالعملات الأجنبية في نموّ مستمر ليصل إلى 48% من إجمالي القروض المحلية الممنوحة؛ هذا يعني أنّ قرابة نصف المديونية المحليّة هو بعملة أجنبية، وهذا رقم هائل، نظراً إلى أن معدّل الديون المحلية إلى الناتج عشية الأزمة المالية كان يفوق 280%.
تُصنّف هذه الحالة على أنها تضخّم اقتصادات الحجم في البلدان الصغيرة لدرجة التأثّر الحساس أمام الصدمات الخارجية والداخلية على حدّ سواء، ولها تأثيرات مضاعفة على الاقتصاد برمّته والاستقرار الاجتماعي. في حالة آيسلندا الصدمة كانت خارجية نتيجة انهيار سوق الرهون العقارية، أما في لبنان فمسوّغات الأزمة هي أكثر تعقيداً، بحكم ارتباط نظام الحكم بالخارج وإدارة شؤون الاقتصاد والسياسة في بيئة إدارية يعتريها فساد يقضي على الإنتاجية ويتغذّى من بنية النظام الطائفي.
ولكن في كلتا الحالتين يُمكن التوصل إلى خلاصات مشتركة من شأنها أن تُحسّن وضعية التفاوض مع الصندوق باتجاه تأمين التمويل الطارئ للعجز أو الدعم المالي الحساس لميزان المدفوعات.
ــ أولاً، العراضات السياسية في مرحلة الأزمة والبحث في سبل الخروج منها لا تفيد بشيء. ففي حالة آيسلندا، ما انفكت الحكومة تبحث عن كبش فداء للتملّص من مسؤوليتها وتجنّب اللائمة على مصائب البلاد المالية، إلا أن تلك الجهود لم تلقَ تجاوباً شعبياً واضطرت الحكومة إلى الاستقالة، ليتعرّض الفريق السياسي الحاكم لمذلّة جديدة في الانتخابات النيابية التي نُظّمت في عام 2009. كلّ هذه المعمعة السياسية النابعة من سوء التقدير والاستمرار بنهج التجاهل والهلوسة نفسه أمام المصيبة، يُضعف وضعية البلد في المفاوضات مع صندوق النقد.
ــ ثانياً، من الخطأ الاستمرار في تقييم صندوق النقد الدولي كلياً على أنه المؤسسة النيوليبرالية التي أسستها الإمبريالية بأجندة معدّة وثابتة منذ الثمانينيات، أو حتّى منذ نشأته عشية انتهاء الحرب العالمية الثانية. هناك الكثير من الشغل الدائر في أروقته، حتى منذ قبل اندلاع الأزمة المالية العالمية، باتجاه مقاربات مختلفة في إدارة الطلب والاستثمار. وبدأ ذلك بالظهور تحديداً منذ عام 2010، عبر تقرير النموذج المالي العالمي العام الذي دعا إلى التوسع في الإنفاق العام والانكفاء عن التقشّف حتى مع ارتفاع المديونية نظراً إلى المردود العالي نسبياً لهكذا سياسة. وبرغم أن التقارير اللاحقة شكّلت ردّة صوب مقاربة أكثر تحفّظاً، إلا أن كلّ ذلك يعني أنه لا بدّ من التحضير جيداً للتفاوض مع الصندوق عبر قراءة أبحاثه ومواجهته بسلاحه، وهي أساساً مواجهة غير سهلة كونه الملجأ الأخير للتمويل.
أيّ مفاوضات مع طرف ثالث ممكن قد تُعقّد المسائل أكثر، وأساساً هي صعبة جداً في ظلّ المصاعب الاقتصادية التي يمر بها العالم وتراجع أسعار النفط


- ثالثاً، لا بدّ من الاعتراف أن خيار اللجوء إلى صندوق النقد هو آخر الأدوية المتاحة، وهو دواء مرّ لا لذّة فيه إلا إذا حالف البلد المعني الحظ وتزامنت إجراءات التصحيح مع موجة نمو وإدارة سياسية حكيمة تعي أهمية قطف ثمار الراحة المالية النسبية التي يؤمّنها التمويل الطارئ.
- رابعاً، وربطاً بالفقرة السابقة، أي مفاوضات مع طرف ثالث للحصول على تمويل ممكن وتحسين شروط التباحث مع صندوق النقد قد تُعقّد المسائل أكثر. شهد العالم أمثلة كثيرة عن تمويل وتسهيلات بين الدول، وتحديداً مع تلك التي تصبو إلى تحقيق النفوذ الإقليمي. في عام 2018 مثلاً، طلبت باكستان من السعودية والصين والإمارات العربية المتحدة المساعدة لدعم احتياطاتها من العملات الأجنبية قبل أن تدقّ باب صندوق النقد. لكن، حالياً إن هكذا مساعدات ثنائية أو متعدّدة الأطراف خارج الإطار المؤسساتي للمنظمات المالية والتنموية الدولية تبدو صعبةً جداً، في ظلّ المصاعب الاقتصادية التي يمرّ بها العالم حالياً وتراجع أسعار النفط. وتزداد الصعوبة في حالة لبنان كونه كان يعتمد تقليدياً على التوازنات السياسية في نظامه والارتباطات الخارجية بها للحصول على المساعدات عبر المؤتمرات الدولية عوضاً عن الاعتماد حصراً على صندوق النقد. إضافة إلى ذلك، فإنّ أي طلب من طرف ثالث قد يُحتّم على لبنان الاحتكام إلى المعايير التي يفرضها صندوق النقد وتنفيذها باعتبارها شرطاً إصلاحياً أساسياً لا بدّ من تلبيته قبل تحرير الأموال.
- خامساً، ما يهم صندوق النقد عملياً وفي ختام يوم التفاوض، هو كيف ستقيّم الصناديق الاستثمارية ومعها تجار السندات، السياسة الاقتصادية المالية التي يتم التوصل إليها، ولذلك هناك قاعدة تبقى سارية مهما تم تحقيق خصومات على معدلات الفوائد، وهي أن صندوق النقد، في نهاية المطاف، يقيّم قراراته بمقارنتها مع ما تقرّه السوق. لذا لا بدّ من حماية الأصول والخدمات المحلية التي تُشكّل مصلحة عامة قصوى مثل التعليم الرسمي والصحة والمرافق العامة، وأموال المتقاعدين، والودائع في القطاع المصرفي.
أمام هذه الشروط والمعطيات، من الضروري التشديد على مسألتين حساستين؛ الأولى هي أن الأهمية الاستراتيجية للدولة المعنية تعكس دوراً كبيراً في كيفية إجراء المفاوضات وأهمية التوصل إلى حلّ من بعدها. كذلك، فإن مدى قدرة صندوق النقد على تأمين احتياجات البلد المعنية من التمويل، لها أثرها على جولات التفاوض، علماً بأنه مع التسليم بأن حاجات الدول الصغيرة لن تكون أبداً أكبر من قدرة الصندوق على التمويل، تُصبح من مصلحة الدولة المعنية إشراك طرف ثالث في المعادلة.
المسألة الثانية هي أن صندوق النقد الدولي عبر تاريخه الممتدّ أكثر من 75 عاماً، لعب أدواراً ذات انعكاسات سياسية كبيرة على مستقبل بلدان وأقاليم، ولذا فهو يُعدّ أداة مالية اقتصادية ممتازة لتنفيذ سياسات النظام العالمي مع بعض الهوامش التي يُمكن للبلدان الصغيرة والاقتصادات المفتوحة أن تستغلها بشرط تنفيذ السياسات الشفافة والملائمة على المستويات المحلية. وبالإمكان تلمّس هذا الواقع عبر حركة التاريخ في عدة لحظات.

رهائن في الاتجاهين
شملت أزمة بلدان شرق آسيا كوريا الجنوبية وهي الوحيدة بينها التي انضمت إلى عضوية منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وهو نادي البلدان الغنية. غير أن سيول، متجاهلة حدّة حركة رؤوس الأموال وانعكاسها على الاقتصاد الوطني والاستقرار المالي، رفضت حينها مساعدة صندوق النقد. الوضع لم يطل على هذا النحو، فقد هبطت في مطارها نهاية ذلك العام طائرة تقلّ بعثة من الصندوق يرافقها ممثّل عن الإدارة الأميركية. خلال أيام، وتحت ضغط تسيير سعر صرف اليوان أمام الدولار لتسوية المدفوعات الدولية، وقّعت السلطات الكورية على رسالة إظهار نوايا تقضي باقتراضها 40 مليار دولار. المسألة تضمّنت إقراراً بسوء إدارة الاقتصاد الكوري وفي الوقت نفسه إجراءات تصحيح هيكلي في سوق العمل وفي إدارة الشركات الكبرى. صحيحٌ أن البلد عاد إلى معدلات النموّ الصحيح، غير أنه لا يزال يعاني من تبعات التصحيح الهيكلي في سوق العمل كونه أنتج فئتين من العمال؛ الثابتين والمتعاقدين بحقوق هشة، كما أنه رفع معدّلات اللامساواة بشكل كبير بين بداية التسعينيات والوقت الراهن. كذلك فإن البصمة لا تزال راسخة في أذهان الكوريين حيث يرى قرابة الثلثين أن الأزمة أثّرت سلباً على حياتهم.
غير أن حيثية كوريا بالنسبة إلى الغرب كانت أهم، واستقرار النمور الآسيوية في تلك المرحلة المهمة من العولمة لاستقبال الأموال الحامية والرساميل تطلّب إجراءات خاصة. وكان العالم قد شهد المثال نفسه تقريباً في روسيا حيث يُصنّف البعض تجربة الصندوق في مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي مع الاتحاد الفدرالي الروسي على أنه «رهينة رغبات الحكومات الغربية». فبرغم أن روسيا لم تكن تطابق المعايير الاقتصادية المطلوبة لإطلاق رزمات إنقاذية بمليارات الدولارات، إلا أنها حصلت عليها، مرّة في ربيع 1996، ثلاثة أشهر قبل انتخاب بوريس يلتسين رئيساً لولاية ثانية، ومرّة في صيف 1998 بهدف الدفاع عن الروبل؛ النتيجة كانت سلبية في الحالتين، فبرغم المليارات التي استخدمتها السلطة في موسكو للبقاء صامدة، انتهى زمن بوريس يلتسين باستقالته وبنسبة تأييد شعبي عند 2% فقط بحسب بعض التقديرات، أما العملة الوطنية فانهارت في جميع الأحوال، خلال الأزمة العالمية التي أشرف صندوق النقد على الظروف التي مهّدت لها وعلى الإجراءات التي كان من المفترض أن تعالجها.
ومن كوريا وروسيا وصولاً إلى أزمة الأرجنتين، حيث أظهرت الأبحاث والمراجعات أن أداة صندوق النقد التمويلية القائمة على المبدأ الإقراض عبر المتأخّرات - وهو مبدأ يعكس ظروفاً يقوم فيها الصندوق بتقديم المساعدة المالية إلى بلد ما يعاني من تراكم المبالغ المتأخّرة عليه لصالح دائنين آخرين - تصبّ إجمالاً في صالح هؤلاء الدائنين أنفسهم. ولكن حتى في هذا المجال يُمكن المناورة وإيجاد المخارج كما فعلت الأرجنتين حيث رفضت تسديد ديونها في حال رفض الصندوق تجديد الاستحقاق، ما دفع بالصندوق للرضوخ لمطالبها. كذلك تشدّدت لاحقاً في موقفها في التفاوض على شروط الإصلاحات الهيكلية وخلصت إلى شراء صمت الصندوق وتفرّغت للتفاوض مع الدائنين الآخرين.
هذه التجارب والمعطيات تُفيد بأن صندوق النقد الدولي عمل تاريخياً وفقاً لأجندات محدّدة ومرعية سياسياً، ولكن في الوقت نفسه هناك آليات وأسس للتعامل مع الصندوق والتفاوض مع ممثليه باتجاه الوصول إلى سلة دعم مالي ونقدي لا تكون حصراً نتاج وضعية التفاوض والمسدّس مصوّب إلى رأسك.