فوجئ اللبنانيون في آخر جلستين للحكومة، قبل دخولها مرحلة تصريف الأعمال، بدفعة قرارات تشرّع استباحة الأملاك العامّة البحريّة وتشوّه ما بقي من الشاطئ. فقد رخّصت الحكومة لمشروعين سياحيين ضخمين، الأوّل في الدامور (جنوب بيروت) والثاني في ذوق مكايل (شمال بيروت)، بالرغم من معارضة المجلس الأعلى للتنظيم المدني لهما بالإجماع. تتّجه الدولة، إذاً، إلى إغلاق ما بقي من الشاطئ أمام المواطنين، خلافاً لكلّ القوانين: ففي ذوق مكايل، على سبيل المثال، سمحت الحكومة بإشغال أكثر من 30 ألف متر مربّع من الأملاك العامّة في اليابسة والمسطّح المائي، ضاربةً عرض الحائط بقرار المرجعيّة الأولى في شؤون التخطيط.
جزء من خرائط المخطط التوجيهي العام للشواطئ الشمالية (1998) قبل التعديل يظهر موقع دير سيّدة الناطور: موقع طبيعي حماية نسبيّة P2 (باللون الأخضر) | أنقر الصورة للتكبير

أمام هذه «الكارثة التخطيطيّة» المخالفة لأبسط قواعد التنظيم المدني، ولعلّها سابِقَة عالميّة في ذلك، اتّجهت المخاوف نحو موقع دير سيّدة الناطور في منطقة الحريشة – أنفه، الذي قد يكون الضحية القادمة لقرارات الحكومة. فقد رفض أيضاً المجلس الأعلى للتنظيم المدني، في 16 أيار 2018، وبالإجماع أيضاً، مشروعاً جديداً يقضي بإشغال مساحة 30,990 متراً مربّعاً من الأملاك البحرية في اليابسة و38,875 متراً مربّعاً من المسطح المائي، قبالة العقار رقم 912 في الحريشة في أنفة (ملك دير سيدة الناطور)، وذلك بهدف إنشاء مشروع سياحي ضخم. فهذا الموقع ذو أهميّة طبيعيّة وثقافيّة، ولذلك حمته المخططات التوجيهيّة كافّة.

المخطط التوجيهي للشواطئ الشماليّة والخطّة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية
أرست الخطّة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانيّة توجيهات عامّة لاستعمال الأراضي وحماية المواقع الطبيعيّة والإرث الثقافي. صُدّقت هذه الخطّة بالمرسوم رقم 2366 الصادر في 20 حزيران 2009، وأصبحت بذلك تشكّل الإطار التوجيهي العام للتنظيم المدني ولاستعمالات الأراضي في لبنان. ويُلزم المرسوم الوزارات والإدارات والمؤسّسات العامّة كافة وحتّى المصالح المستقلّة باعتماد توجيهات هذه الخطّة (المادّة الثانية)، وبالتالي أي قرار مخالف لها يستدعي الإبطال أمام مجلس الشورى.
تولي الخطّة أهمّية للشاطئ من أجل تفادي «كارثة لا رجوع عنها»، نتيجة التمدّد العمراني والخصخصة المستمرّة التي تدمّر آخر ثروة طبيعيّة من الشواطئ، فحدّدت أكثر من «ثلاثين موقعاً مدهشاً» على طول الشريط الساحلي، وأوعزت بإعادة تأهيلها وحمايتها. واللافت أنّ المخطط عدّ موقع أنفه «استثنائياً»، وصنّف الملّاحات «محميّة» (Réserve des salines d’Enfeh) فهذا الجزء من الشاطئ «يرتدي أهمية بيئية كبرى، لكونه يمثل الآثار الأخيرة الباقية من الأنظمة الساحلية التي لم تتدهور أحوالها بعد بفعل تدخلات الإنسان». فملّاحات موقع دير سيّدة الناطور هي آخر ملّاحات بقيت على الشاطئ اللبناني، وهي من صلب هويّة أنفه، فجعلتها «عاصمة الملح».
ملّاحات أنفة هي الأكبر على ساحل الكورة ومساحتها 524,280 متراً مربّعاً


وتسمية «محميّة ملّاحات أنفة» في المخطط التوجيهي الشامل لترتيب الأراضي اللبنانية ما هي إلّا تكريس لما أقرّه المخطط التوجيهي العام للشواطئ الشماليّة (1998)، الذي يصنّف موقع دير الناطور والملاحات وبساتين أشجار الزيتون المحيطة «موقعاً طبيعياً» (Natural Park) ضمن منطقة ارتفاقيّة ذات «حماية نسبيّة» (Zone P2). واللافت أنّ المخطط التوجيهي لم يحددّ معدلات استثمار للبناء أو مساحات دنيا للضم والفرز لهذه المنطقة أسوةً بسائر المناطق الارتفاقيّة المحدّدة على الشاطئ، ما يؤكّد الرؤية المتجانسة للتخطيط في بقاء هذا الموقع الرائع محمية طبيعية وثقافيّة لأنّه جزءٌ من الذاكرة الجماعيّة، ويحوي ثروة إيكولوجية كبيرة. هذه الرؤية المتجانسة للشاطئ اللبناني وتحديداً في جزء ساحل الكورة شُوّهت عام 2016 حين صدّقت حكومة الرئيس تمّام سلام على «المخطط التوجيهي والنظام التفصيلي العام لقسم من منطقتي أنفة والحريشة العقاريّتين» (مرسوم رقم 3478 تاريخ 12 أيار 2016) الذي «ألغى كل تصميم سابق مخالف لمضمون المرسوم» وصنّف منطقة الشاطئ سياحيّة (zone E)، خلافاً لمرسوم الخطّة الشاملة الذي يشكّل المرجعيّة الأولى للتنظيم المدني واستعمال الأراضي ويفرض امتثال كل المخططات التوجيهيّة له من دون استثناء. إلا أن المخطط الجديد أعطى القرار النهائي للمجلس الأعلى للتنظيم المدني، إذ «تخضع منطقة الشاطئ للموافقة المسبقة من المجلس الأعلى للتنظيم المدني». المجلس رفض المشروع السياحي بالإجماع وقراره مُلزِم، أي على الحكومة التقيّد به وإلا كان قرارها غير قانوني.
إذا كانت المخططات المحليّة تُجمِع على حماية هذا الموقع من بناء المشاريع السياحيّة التي ستشوّهه من دون منازع، فإن الاتفاقيّات الدولية، التي وقّعها لبنان من جهةٍ أخرى، تُلزِم بحماية الشاطئ من التمدّد العمراني عليه في شكلٍ عام، وخصوصاً حماية الملاحات والمواقع الرطبة.

التزام لبنان الدولي: بروتوكول مدريد واتفاقيّة رامسار
وقّع لبنان بروتوكول مدريد للإدارة المتكاملة للمناطق الساحليّة في حوض البحر المتوسّط، وأصبح نافذاً منذ 31 آب 2017. يهدف البروتوكول إلى تعزيز الإدارة المتكاملة للمناطق السّاحليّة في حوض البحر الأبيض المتوسّط، مع الأخذ بالاعتبار حماية المناطق ذات الأهمّية الإيكولوجيّة والمناظر الطبيعيّة والاستعمال الرّشيد للموارد. يطرح البروتوكول تدابير متعدّدة لحماية المناطق الساحليّة، أبرزها على صعيد التخطيط المدني الحدّ من التوسّع العمراني الأفقي على طول الشاطئ وتكريس مبدأ الشريط الساحلي بعرض 100 متر حيث يمنع البناء (المادّة 8).
انضمّ لبنان أيضاً إلى اتفاقيّة رامسار في 1/03/1999 (قانون رقم 23/1999)، وهي اتفاقية دولية للحفاظ والاستخدام المستدام للمنطقة الرطبة، وتهدف إلى «المحافظة على الأراضي الرطبة، نظراً إلى الدور الذي تؤديه هذه الأراضي في توفير أسباب الحياة لمجموعات مميزة من النباتات والحيوانات والطيور»، ودورها الاقتصادي والثقافي والعلمي في التنمية. وقد أدرج لبنان على «لائحة رامسار» ثلاثة مواقع: مستنقع عمّيق في البقاع، وشاطئ صور الرملي، ورأس الشقعة في شكا. إلا أن الحركة البيئيّة اللبنانية طالبت الحكومة «إعلان ملّاحات رأس الناطور في أنفة تراثاً وطنيّاً ومحميّة طبيعيّة»، انسجاماً مع التزام لبنان معاهدة رامسار، لكون ملّاحات أنفه مهدّدة بالانقراض بعد أن كانت شاهداً على حرفة تراثيّة اشتهرت بها المنطقة في الستينيات والسبعينيات، وكانت تعطي أفضل نوعيّة ملح بحري في العالم، ولا سيّما زهرة الملح العالية النقاء والجودة.

«ثورة الملح»
بعد فقدان الملّاحات في «رأس الملاليح»، أطلق الناشط البيئي حافظ جريج حركة «ثورة الملح» لحماية ما بقي من ملّاحات أنفة، أقلّه كحد أدنى في دير الناطور، وهي الأكبر على ساحل الكورة، إذ كانت مساحتها 524,280 متراً مربّعاً، أي 41.13% من منطقة الحريشة العقاريّة (حسب المخطط التوجيهي للشواطئ الشمالية – 1998). الحلّ اليوم بيد الحكومة لإنقاذ ما بقي. المجلس الأعلى للتنظيم المدني رفض نهائيّاً تدمير هذا الموقع الاستثنائي، فهل تعيد الحكومة الخطأ برفض قراره والترخيص للمشروع؟ هل تبقى الدولة رهينة المطوّرين العقاريين؟ أم تبادر إلى خطّة إنقاذيّة للشاطئ اللبناني وبيئته الطبيعيّة والثقافيّة والاجتماعيّة، فتعمل بتوصيات الخطّة الشاملة عبر إزالة التعديات على الأملاك العامّة البحريّة والتوقّف عن إعطاء التراخيص الاستثنائيّة وإقرار مجلس النواب «قانون حماية الشاطئ» (Loi littoral) كما نصّت هذه الخطّة.
* مهندسة معمارية