ألبير داغر*بعد الحلقة الأولى التي نشرتها «الأخبار» أمس، والتي تناولت الفتنة في لبنان في مرحلة ما قبل الاستقلال وما بعده مباشرة، يتابع الباحث ألبير داغر تحليله للتجربة اللبنانية، متحدّثاً هذه المرّة عن حقبة السلم الأهلي وحقبة ما بعد القرار 1559

7. حقبة السلم الأهلي بين 1990 و2005

أهم ما استطاعت حقبة ما بعد اتفاق الطائف تحقيقه، هو تجريد الميليشيات التي كانت تقف عائقاً في وجه عودة السلم الأهلي من سلاحها. كانت المؤسسة العسكرية هي التي خلقت حالة ازدواجية سلطة في المناطق الشرقية من بيروت أواخر الثمانينيات، تطوّرت إلى مواجهة مع الميليشيات، وأدت لإجبار هذه الأخيرة على دخول «الطائف» والقبول بنزع سلاحها. وضع هذا الأمر حداً لحرب أهلية دامت خمسة عشر عاماً.
المفارقة هي أنه في ظل سلطة الوصاية، تأمنت للدولة شروط سيادتها الداخلية، أي الاحتكار القانوني لاستخدام القوة وحصر إدارة العلاقات الخارجية بمرجعية رسمية واحدة. أي أن حقبة الوصاية كانت الأفضل من وجهة نظر ممارسة الدولة اللبنانية سيادتها الداخلية.
وأعطت حقبة السلم الأهلي هذه نموذجاً عن التماس السياسيين للعلاقات الخارجية لتعويض تراجع شرعيتهم الداخلية بسبب إدارتهم النيو ــــ باتريمونيالية الطابع للشأن الداخلي. وأعطت علاقة الرئيس الحريري بالرئيس الفرنسي جاك شيراك، نموذجاً لشخصنة فاقعة للعلاقات الثنائية بين البلدين، لم تشذ في شيء عن الشخصنة لعلاقة فرنسا مع رؤساء الدول الأفريقية. وتمثل شخصنة العلاقات الخارجية نوعاً من خصخصة لها (privatization of diplomacy). وقد أتاحت هذه الشخصنة إنجاح عمليات تمويل خارجي للدين العام اللبناني، وأعطت مثالاً عن كيفية استخدام مسؤولي الدول الضعيفة للعلاقات الخارجية لمواجهة إخفاقهم الداخلي. هذه الشخصنة للعلاقات ذاتها هي التي سمحت للقرار 1559 بأن يبصر النور.

8. التدخّل الخارجي والفتنة الداخلية بعد عام 2005
يرسم كريستوفر كلافام صورة للعلاقات الخارجية لبلدان أفريقيا خلال حقبة ما بعد الحرب الباردة تتمثل بانتقال المحاسبة السياسية للنخب المحلية إلى عهدة الخارج (Externalisation of Political Accountability)، وخصخصة العلاقات الخارجية لهذه البلدان. وقد شهدت غالبية بلدان العالم الثالث التطور ذاته. ارتبط هذان التطوران في أفريقيا بتفاقم أزمة دول القارة وتحول غالبيتها إلى دول فاشلة، بمعنى تراجع سيادتها وفقدانها،

تنتمي الديموقراطية اللبنانية الى «الديموقراطية بالإنابة» التي ينتفي منها عنصر المحاسبة

بوجهيها الداخلي والخارجي. وقد شعرت الدول الغربية بالحاجة للتدخل بطرق أو بأخرى في هذه البلدان التي باتت مشكلة للغرب أيضاً. وبمقدار ما تحررت الدول الغربية من التقييدات التي كانت تلزمها بها شروط الحرب الباردة، فإنها شجعت إدخال التعددية السياسية إلى الأنظمة السياسية القائمة في بلدان أفريقيا وغيرها. ولم تجرِ عمليات تغيير أو «دمقرطة» الأنظمة السياسية في أفريقيا وفي غيرها على يد المؤسسات الدولية، بل حصل الكثير منها بمبادرة مباشرة من سفارات الولايات المتحدة في هذه البلدان. ويرى كلافام أن تدخل القناصل الأميركيين في الشأن المحلي لهذه البلدان كان سافراً، لا يقيم اعتباراً لما تبيحه أو تحظره الأعراف الدبلوماسية. وقد أرست حقبة ما بعد الحرب الباردة واقعاً جديداً تمثّل بتعوّد النخب المحلية على طرق أبواب السفارات (politics of extraversion)، لاقتناعها بأن الوصول إلى السلطة يتطلب توفير الدعم الخارجي.
وينسب المتابعون إلى إدارة الرئيس جورج بوش إطلاق اسم «ثورة الأرز» على التعبئة للشارع التي بدأت مع صدور القرار 1559، وخصوصاً بعد اغتيال الرئيس الحريري في عام 2005. ما هو القرار 1559؟ إنه عنوان المشروع الفرنسي ــــ الأميركي الذي صمم بمبادرة الفرنسيين لمعاقبة سوريا على دورها في العراق، من خلال الضغط عليها في لبنان، وصولاً إلى إحداث تغيير للنظام في سوريا. أي أن النخبة اللبنانية أو جزءاً منها، وافق على أن يكون طرفاً في معركة شنتها دول غربية ضد بلد عربي لمعاقبته على موقفه في الصراع الإقليمي القائم.
ولم تشذ الإدارة الأميركية في هذه الحالة بالذات عن الثوابت التاريخية للعلاقات الخارجية الأميركية مع لبنان. وهي التي تمثلت بالتمسك بنخبة اعتبرها الأميركيون على الدوام الأكثر انفتاحاً على السياسات الغربية في المنطقة والتزاماً بأجندات «العالم الحر». وقد أدار السفراء الأميركيون مباشرة ومن دون تحرّج المواجهة المشرعة بموجب القرار 1559.
تقول الباحثة جندزير إن قراءة تاريخ لبنان المعاصر لا يمكن أن تكون مكتملة أو تتحقق تحققاً وافياً، ما لم يؤخذ بالاعتبار الدور المباشر للولايات المتحدة في صنع هذا التاريخ. وإن مزيداً من المعلومات عن تمويل انتخابات عام 1957، أو إنشاء خلية متخصصة للسي أي آي كانت ضالعة في افتعال أحداث عام 1975، أو دور السفير الأميركي في تأليب الميليشيات ضد المؤسسة العسكرية في عام 1990، أو دور عناصر الاستخبارات الأجنبية الذين نقلتهم الطوافات من مبنى السفارة الأميركية إلى عرض البحر عقب مواجهات 7 أيار 2008، لسوف يثبت أن الدور الأميركي كان أساسياً كل مرة في افتعال الحرب الأهلية في لبنان. ولعله يأتي يوم يتمكن فيه اللبنانيون من ملاحقة الولايات المتحدة أمام القضاء الدولي لدورها المباشر في افتعال حروب لبنان الأهلية.

9. المحاسبة السياسيّة في عهدة الخارج

مرت خمسة عشر عاماً هي أعوام الحرب كانت للزعماء فيها سلطة الحياة أو الموت على الناس. وتبعتها خمس عشرة سنة سلماً هي أيضاً سنوات تحكيم لهؤلاء الزعماء في رقاب اللبنانيين. أي أن الحرب الأهلية الطويلة أسست لممارسات وواقع ما زال قائماً حتى الساعة. خلال تلك الفترة بطولها، تمكن اللاعبون من البقاء في الساحة كائناً ما كانت أفعالهم. اعتادوا ألا يحاسَبوا. وتنتمي الديموقراطية الليبرالية التي يفترض أن تؤمن المشاركة السياسية (Political participation) للبنانيين إلى الصنف الأكثر رداءة من هذه الديموقراطيات. وتصنّف في فئة «الديموقراطية بالإنابة» (delegative democracy) التي تقتصر على الانتخابات والتعبير السياسي، وينتفي منها عنصر المحاسبة بأشكالها الثلاثة: العمودية والأفقية والمجتمعية. وتبدو الانتخابات اللبنانية التي يفترض أن توفر المحاسبة العمودية أقرب إلى المسخرة، لجهة إغراقها بالممارسات الدالة على الفساد السياسي، وتدخل الخارج فيها.
في معرض انتقاده للتجربة التي خاضها والتي كان المايسترو فيها على مدى أكثر من 4 سنوات، لم يقل النائب جنبلاط إن القرار 1559 كان سيئاً لأنه كان المدخل إلى تدخل خارجي وفتنة داخلية. قال إنه ملعون لأنه قتل صديقه رفيق الحريري. لم تكن مواجهة انخرط فيها النائب جنبلاط لوجه الله. قال للملك السعودي: «لقد خضت معركتكم ضد سوريا ورفعت سقفي، وهي كانت معركتكم، وأنتم أجريتم مصالحة مع سوريا (...)»، طالباً التوسط بينه وبين السوريين (الأخبار 18 أيار 2009).
وبالنظر لدرجة اختراق القوى الخارجية للنظام السياسي اللبناني، لا يشعر السياسيون اللبنانيون أنهم يحتاجون إلا إلى أن يعرفوا كيف يتموضعون تجاه هذه القوى. وليست لديهم ثقافة سياسية غير التي تعينهم في مساعيهم هذه. بل هم لا يحتاجون حتى لأن يبلوروا برامج حكم وطنية توفر أجوبة على حاجات المواطنين وتؤمن دفع البلاد باتجاه التقدم.
وقد تعودوا أن يمدوا أيديهم إلى أموال الأجانب دون حرج أو تهيّب، وأصبح هذا الأمر واقعاً عادياً ومتداولاً لا يثير استهجان أحد. أن يرسل البلد كذا أموالاً للناس يصار لتوزيعها علناً وعلى قارعة الطريق لحل منازعات أو لكسب ولاءات، فذلك بات شأناً أكثر من طبيعي. مقابل هذا التحلل من أية ضوابط أو حدود في استدراج الدعم الخارجي، فقد السياسيون القدرة على التقرير في أبسط الأمور ارتباطاً بإدارة بلادهم. باتت الدولة كذا هي التي تعين رئيس وزرائهم، وهي التي تقرر ما إذا كان فلان يعود إلى الحكم أو يذهب منه، بصرف النظر عن أدائه تجاه مواطنيه وموقف هؤلاء منه. وباتت مداخلات شخصيات خارجية هي التي تحسم في أمر من يعود إلى لبنان من أفراد النخبة، وفي شأن من تلغى بحقه الملاحقات القانونية المحلية. باتت هذه الأمور تحسم وفقاً لنفوذ هذا الطرف الخارجي أو ذاك، وقدرة هذه الشخصية اللبنانية أو تلك على الاستفادة منها. أي أن الاحتكام إلى القانون الذي يحدد ما هو الجرم وما هو الأمر الذي يعرض صاحبه للملاحقة، بات غائباً أو غير معتمد في الأمور الداخلية.
فهم السياسيون أيضاً، منذ تجربة مذابح عام 1860، ولا سيما المسيحيين منهم، أنه يمكنهم خوض كل المغامرات التي يدفع ثمنها أبناء دينهم، دون التعرّض للمحاسبة. بل أكثر من ذلك، إنه يمكنهم استثمار المآسي التي يسببونها لتثبيت مواقعهم في الساحة السياسية.

10. خاتمة

ينطلق العديد من المواقف من فكرة أن إصلاح النظام يبدأ بعد إلغاء الطائفية السياسية. بل قد تكون هذه الفكرة هي الأكثر رواجاً في أوساط من يهتمون بالشأن العام. تأتي الشكوى من الطائفية لتختم غالباً كل قول أو مقال أو تصريح يدين الواقع السياسي في لبنان. نقرأ في عدد الأخبار مثلاً بتاريخ 20/ 7/ 2009 ثلاثة مواقف لثلاثة أشخاص مختلفين، هم الرئيس بري والنائب حردان والكاتب حسن خليل مضمونها إدانة الطائفية. نجد الإدانة ذاتها في ختام مقالة الكاتب الياس خوري في ملحق النهار في 23/ 8/ 2009. في هذه الحالات وفي غيرها، تأتي الإدانة في صيغة من أسقط في يده، وللقول أن لا شيء ينفع مع هذا النظام، ولتختم التفكير في ما يمكن عمله أو لتعلقه.
يبحث أسامة مقدسي عن جذور التعميم أو الاختزال المتمثل باستخدام تعبيري الطائفة والطوائف في معرض الحديث عن اللاعبين المحليين. يرى أنه اختصار من اختراع القناصل آنذاك دأبوا على استخدامه في مراسلاتهم. وينتقد الذين استخدموا هذه المراسلات ونسجوا على هذا المنوال من بعدهم.
يحاول العرض الذي سبق أن يوضح أن ثمة ما يمكن عمله ضمن نظام طائفي كالنظام اللبناني. وقد عالج هذا النص مسألة إدارة العلاقات الخارجية ضمن هذا النظام، وأظهر أن الممارسة اللبنانية في هذا المجال تمثل انتقاصاً من سيادة الدولة الداخلية، وأنها لهذا السبب بالذات عائق رئيسي أمام بناء الدولة في لبنان. وهذه مشكلة يمكن معالجتها بتغيير هذه الممارسة، وفق نصوص قانونية ملائمة.
* أستاذ جامعي

لائحة المراجع


1. البر داغر، “التجربة اللبنانية في ميدان ممارسة الدولة لسيادتها”، مقالة نشرت في النهار بتاريخ 15 نيسان 2008 تحت عنوان: “المؤسسة العسكرية في نظامنا السياسي”، وأعيد نشرها في البر داغر، حول بناء الدولة في لبنان، بيروت، “المركز اللبناني للدراسات”، 2008، 144 صفحة، ص. 27 ـــــ 35.
2. Christopher Clapham‚ Third World Politics: An Introduction‚ Routledge‚ third edition‚ 1992.
3. R. Jackson‚ G. Sorensen‚ “New Issues in IR: Sovereignty”‚ in : Introduction to International Relations: Theories and Approaches‚ Oxford univ. press‚ 2002‚ pp. 279-293.
4. Christopher Clapham‚ Africa and the International System: the Politics of State Survival‚ Cambridge‚ Cambridge University Press‚ 1996.
5. Robert H. Jackson‚ Quasi-states : sovereignty‚ international relations‚ and the Third World‚ Manchester England : Columbia University Press‚ 1990.
6. Buheiry Marwan‚ “External Intervention and International Wars in Lebanon: 1770-1982”‚ in Lawrance Conrad (ed.)‚ The Formation and Perception of the Modern Arab World: Studies by Marwan Buheiry‚ Princeton‚ N.J.‚ Darwin Press‚ 1989.
7. Ussama Makdisi‚ The culture of sectarianism: community‚ history‚ and violence in nineteenth-century Ottoman Lebanon‚ Berkeley‚ CA :University of California Press‚ 2000.
8. البر داغر، مراجعة لكتاب أسامة مقدسي، قضايا النهار في 21 و22 نيسان 2009.
9. Michael Gilsenan‚ “ Law‚ Arbitrariness and the Power of the Lords of North Lebanon”‚ History and Anthropology‚ 1‚ 1985‚ pp. 381-400.
10. جورج قرم، لبنان المعاصر، تاريخ ومجتمع، بيروت، المكتبة الشرقية، 2004
11. Buheiry Marwan‚ “ From Truman to Kissinger: American Policy Making and the Middle East”‚ in Lawrance Conrad (ed.)‚ The Formation and Perception of the Modern Arab World: Studies by Marwan Buheiry‚ Princeton‚ N.J.‚ Darwin Press‚ 1989.
12. Gendzier Irene‚ “ The Declassified Lebanon 1948-1958: Elements of Continuity and Contrast in US Policy Toward Lebanon”‚ In Shehadi N.‚ Haffar-mills D. (eds.)‚ Lebanon: a History of Conflict and Consensus‚ London: I.B. Tauris‚ 1988.
13. Salem Paul‚ “Reflections on Lebanon’s Foreign Policy”‚ in Dierdre Collins (ed.)‚ Peace for Lebanon ? From War to Reconstruction‚ Boulder‚ Co: L. Rienner‚ 1994.
14. Michael Johnson‚ “ The Neo-Patrimonial Lebanese State before 1975”‚ Contribution to the L.C.P.S. Workshop on: “ the Developmental State Model and the Challenges to Lebanon”‚ Beirut‚ February‚ 15-16‚ 2002.
15. جوزيف أبي خليل، قصة الموارنة في الحرب: سيرة ذاتية، بيروت، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 1990.
16. Wilber Eveland‚ Ropes of Sand : America’s failure in the Middle East‚ W.W. Norton and Company‚ N.Y.‚ 1980.
17. البر داغر، “الدولة اللبنانية وفقاً لمفهوم دولة القانون الديمقراطية”، فصل في كتاب، حول بناء الدولة في لبنان، بيروت، “المركز اللبناني للدراسات”، 2008، 144 صفحة، ص. 49 – 64.