في كل الغرب المزدهر، والشرق المتقدّم في النمو، وفي الدول الثرية في شمال أوروبا أو الخليج العربي، كما في كل الدول النامية والفقيرة في العالم، ما من بلد ليست لشعبه مطالب محقّة. والمطالب، هنا، لا تتعلق فقط بحسابات ذات خلفية اجتماعية أو اقتصادية، بل تلامس كل ما له علاقة بالحريات والحقوق البديهية للناس.وعبر التاريخ، لم يخلُ قرن من ثورات كثيرة لقلب أنظمة أو إسقاط آليات حكم أو تحسين سلوك الإدارة العامة. صحيح أن الغالبية الساحقة من الثورات فشلت في تحقيق أهدافها، لكنّ الصحيح أيضاً، أنه لم يحدث في التاريخ المعاصر، باستثناء تجارب قليلة جداً، أن تمكّن شعب من تحقيق ما يريده من دون أن يكون ملتحقاً بمحور لديه مشكلة مع نظام بلده. من بين هذه التجارب القليلة، كانت الثورة في إيران قبل 43 عاماً، عندما نجح شعب في إسقاط نظام كان قد عمّر طويلاً، وفي فرض نظام إسلامي حظي بموافقة غالبية الناس، لكنّه لم يكن محل إجماع. وكان له على الدوام معارضون داخليون وخارجيون، ما جعله هدفاً دائماً.
مشكلة إيران لا تتعلق بطبيعة التشريعات التي تحكم بها الدولة شعبها. مشكلتها مع الخارج، القريب والبعيد، أن نموذجها الثوري وطبيعة دورها الإقليمي والدولي جعلاها قبلة لقوى تحرّرية وحكومات معارضة للهيمنة الأميركية على العالم. وهي أظهرت قدرة خاصة على الصمود في وجه الحصار الكبير الذي تتعرض له منذ انتصار ثورتها، شأنها شأن كوبا وكوريا الشمالية وحكومات عدة في العالم رفضت الانضمام إلى النادي الأميركي. وقد تجاوز التأثير الكبير لإيران حدود الأفكار التي غذّت الوجهة الحركية للتيار الإسلامي في العالم، إلى التأثير النوعي الذي جعل كل الأنظمة القائمة على الاستعباد والقهر والنهب والهيمنة على مقدّرات الشعوب، تتصرف على أساس أن الجمهورية الإسلامية دولة داعمة لكل حركة اعتراضية، بدءاً من معركة العرب والمسلمين لاسترداد فلسطين، وصولاً إلى دعم بقاء دول كثيرة في منطقتنا العربية، من سوريا والعراق وغيرهما، خارج منظومة الهيمنة الأميركية.
كانت إيران، عملياً، في قلب معركة مفتوحة ضدها منذ اليوم الأول لانتصار ثورتها. الاضطرابات الداخلية المدعومة من الخارج تواصلت إلى أن نجح النظام في محاصرتها، والحرب العراقية - الإيرانية انتهت إلى كارثة على الشعب العراقي جعلته لقمة سائغة، فيما تمكّنت إيران من استعادة عافيتها رغم الجراح الكبيرة التي تسبّبت بها الحرب.
لكنّ المشكلة، أن كل دول الجزيرة العربية وضعت نفسها في موقع العداء لإيران. وكما تورّطت هذه الدول في دعم نظام صدام حسين في حربه ضد الجمهورية الوليدة، تورّطت لاحقاً في دعم المنظمات المناهضة للحكم في إيران، والتي اتخذت من أراضي دول مجاورة مقرّات لها. ووصل الأمر بدول الخليج، وفي مقدّمها السعودية، إلى البحث في كل الوسائل لضرب إيران من الداخل والخارج. وكان آخر الأسلحة «الدعم الذكي» الذي وفّرته للمنظمات التكفيرية التي انتهت على شكل «داعش»، فيما المواجهة المفتوحة مع إيران لم تتوقف للحظة داخل إيران نفسها.
خلال العقد الأخير، تصرّف الغرب، ومعه حلفاؤه في المنطقة من إسرائيل إلى السعودية والإمارات العربية المتحدة ودول أخرى، على أساس أن هؤلاء أمام استحقاق داهم بضرورة تدمير النظام الإيراني. ورُسمت كثير من الخطط، وصولاً إلى ما سُمِّي «خطة تقويض إيران من الداخل»، وهو برنامج تحمّست له السعودية وإسرائيل، بمشاركة إماراتية، وبدعم ورعاية كبيرين من البريطانيين والفرنسيين والألمان... وهذا كله، طبعاً، تحت إشراف الولايات المتحدة.
عكست الحرب التي شنّها التحالف الأميركي - السعودي - الإسرائيلي - الإماراتي على اليمن أحد وجوه الحرب ضد المحور الذي تقوده إيران. ولم تقف طهران مكتوفة اليدين، بل دعمت صراحة كل خصوم المحور المعادي. وكما دعمت المقاومة في لبنان وفلسطين، قدّمت كل الدعم الممكن في سوريا والعراق لإلحاق الهزيمة بالخيار التكفيري أو بديله الأميركي. وفي اليمن، وقفت إلى جانب «أنصار الله»، أقوى حركة معارضة في التاريخ الحديث للجزيرة العربية، ومكّن الدعم الإيراني هذه المجموعة الوليدة من الصمود والتطور حتى أصبحت، في حد ذاتها عنوانَ خطر حقيقي، بل وجودي، على نظام آل سعود وبقية إمارات القهر في الجزيرة العربية.
في كل هذه المواجهة، كان الغرب يسعى إلى إيجاد وسائل تمكّنه من تكبيل طهران. في فترة معينة، راهن الأوروبيون والأميركيون على أن إبرام الاتفاق النووي مع ايران ورفع الحصار عنها من شأنهما دفعها ليس إلى سياسات جديدة، بل إلى سلوك اقتصادي واستهلاكي مختلف سيبعدها تدريجاً عن المحور الذي تدعمه في المنطقة. ومع التأكد من فشل هذا الرهان، سارع الغرب إلى نقض هذا الاتفاق، وانتقل إلى الخطة الأكثر وضوحاً: إدخال النظام في إيران في مواجهة داخلية مع شعبه. لذلك، قامت المعركة المستمرة منذ توقيع الاتفاق النووي، والتي تعزّزت بعد إعلان أميركا الخروج منه، على إثارة اضطرابات داخلية تقوّض النظام بعد إنهاكه بمواجهات داخلية متنوعة، يقوم بعضها على عناوين الحريات الفردية والسلوكيات الخاصة وحقوق المرأة وغيرها، وبعضها الآخر على إحياء الحساسيات القومية التي ترفض العيش في ظل نظام إسلامي على «الطريقة الخمينية». لذلك، لم ينحصر تركيز هذا البرنامج على الحركات الشبابية، بل شمل القوميين من الأكراد ومن أهل بلوشستان، وجُهِّزت ماكينات إعلامية وأمنية ورُصدت موارد مالية هائلة لإدارة هذه المعركة.
ما خبرناه من تجارب سوريا ومصر وتونس وليبيا أن الركون إلى الشعارات ليس سوى انخراط في مذبحة قادمة


نهاية عام 2015، بدا أن كل أعداء إيران يريدون التسريع في خوض هذه المعركة. خلال عامَي 2016 و2017، بدأت تجارب على مجموعة من العناوين التي أخذت طابعاً إعلامياً ودعائياً، وترافقت مع عمل أمني حثيث لبناء شبكات إرهابية في كل أنحاء إيران، وتعاون على ذلك الأميركيون والإسرائيليون مع كل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا والسعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين، ومع جهود غير رسمية لأجهزة من دول أخرى، إضافة إلى جماعات ضغط فاعلة في العالم، ركّزت على الجاليات الإيرانية بوصفها رافداً رئيسياً ليس لدعم حركات الاعتراض داخل ايران، بل لشرح آليات التفكير المناسبة، والمشاركة في تأهيل المجموعات داخل ايران. وقد تبيّن أن مزدوجي الجنسية من الإيرانيين ممن يقيمون في الغرب ويزورون بلدهم، لعبوا دوراً محورياً في توجيه الاضطرابات الأخيرة، فيما كانت أجهزة أمنية تدير العمليات الإرهابية في مناطق أخرى من البلاد.
صحيح أن النقاش في إيران يجب أن يكون حول ما يجب أن تقوم به الحكومة في شأن قضايا ومطالب محقّة للناس، لكن ما خبرناه من تجارب سوريا ومصر وتونس وليبيا، أن الركون إلى هذه الشعارات ليس سوى انخراط في - أو صمت عن - مذبحة قادمة كالتي شهدناها في دول كثيرة، والتي كان لبنان والعراق مرشحين لأن يشهدا مثلها منذ تشرين الأول عام 2019، بمعزل عن أي نقاش آخر حول النظام والحكّام والفاسدين.
ليس هناك أي التباس بأننا أمام فصل جديد من المواجهة المفتوحة بين المحور الذي تقوده إيران وبين محور صار أكثر وضوحاً من السابق. وهي مواجهة تأكّدنا سابقاً أن الأعداء فيها لا يهتمّون لأمر أحد، وأنهم مستعدون لإحراق كل شيء لتحقيق هدفهم. وهذا يعني أن علينا الاستعداد لمواجهتهم، ليس بأسلحتهم كما يفضّلون، بل بما يتناسب وطبيعة المعركة. وإذا كان الغرب فالحاً في الحروب الناعمة، فإن يدنا الخشنة تنفع في الردع، كما في العقاب.