في عجقة البذلات المرقّطة على أرض القصير، لن تجدهم. لن ترى راياتهم الصفراء، ولن تتعثّر بـ «خيبرهم» أو «زلزالهم»، ولن تعرف هويّاتهم طبعاً، لكنّك إن كنت آتياً من الجنوب، فحتماً ستصطادك اللكنة، ستشدّك «السّلام عليكم» الجنوبية في موسم الهجرة إلى القصير.
اِخْترِع سؤالاً لكلّ جندي تراه على حاجز أو خلف متراس. راقب البندقيّة، الجعبة، القبّعة، الحذاء العسكري، الجهاز اللاسلكي، العيون، ارصد كل شيء. كد كيدك، فالحنكة وحدها ستوصلك إلى قصدك في رحلة البحث عن جنود حزب الله بين جنود الجيش السوري.
قطع البلاط الأزرق المتناثرة من منزل مدمّر في الحارة الشرقيّة من المدينة، لا تمنع ساجد من تثبيت قدميه بصلابة على الأرض ـــ الحطام. كلاشنيكوف ساجد يحمل مثله أي جندي من جنود الفرقة 14 أو 15 في القوات الخاصة السورية، الذي يقف على بعد أمتار منه. «قرّب لتحت السقف، أحسن ما يوقع الحجر عليك من ضغط القصف»، يبتسم المقاتل الثلاثيني: «معقول تزمط من شظيّة وتموت من حجر؟». لن تعرف طبعاً من أين أتى ساجد. لهجته بعلبكيّة، يحاول إخفاءها بسؤالك «شلونك» مرّتين في الدقيقة، ثمّ يبتسم، وتبتسم أنت.
لم يأت ساجد إلى القصير لمساندة «النظام الغاشم ضدّ الشعب السوري». تضحكه «تهمة الزور» هذه، وتحزنه في آن واحد. ساجد وإخوانه يقاتلون «للدفاع عن محور المقاومة، لأن الحرب على سوريا هدفها كسر ما نجحت سوريا وحزب الله في فعله في العقود الأخيرة». يقترب جواد: «بلا أسئلة كتير، شو بدك تعرف؟ نحن والجيش واحد». يبدو جواد على قدر عالٍ من المعرفة، يجيب عما يُسأل عنه باتقان على جهازه اللاسلكي، يهمس في أُذن رفيقه، وحين يضع يده على كتفك، يخبرك بأن النصر له ثلاثة شروط: القضيّة العادلة، الإرادة والعقل.
بعيداً عن جواد وساجد، يجلس حسين مع عدد من الجنود السوريين على مطلع درج بناء نصفه مهدّم قرب الدوار الرئيسي في المدينة. الشاي عند الشباب لا يزال ساخناً، وحالما ينزل من الإبريق في الكباية البلاستيكيّة الشفافة، تدرك من لونه الغامق كم بقي على النار. حسين والجنود أكثر من رفاق سلاح، هو اليوم السادس على التوالي للكتف على الكتف، والطلقة مع الطلقة، واللقمة مع اللقمة.
من بعيد، ترى «الحاج حسن» يسير إلى جانب الرائد فارس. لا يظهر بيديهما سلاح، والمسدسان على خصريهما مخفيان حتى. حين يتكلّم فارس، يهزّ الحاج رأسه، وحين يستمع فارس، يهزّ رأسه أيضاً. من الصعب إقناع «الحاج» بالتكلّم مع الصحافة. حتى الخطوط العريضة، ستسمعها من فارس. يتقن الحاج الصمت، ويدب فيك رغبة المعرفة.
بعد ساعات في المدينة، ستكتشفها. إنّها السرية. حزب الله يتكتّم عن تفاصيل دعمه للجيش السوري في ميدان القصير، كما تكتم في مقبرة دبابات وادي الحجير، وفي عمليّة خطف الجنود الاسرائيليين، وفي ملاحم مارون الرأس وعيتا وصمود إطلاق الصواريخ حتى آخر لحظة من حرب تمّوز.
لا شكّ في أن بعض مقاتلي حزب الله من الموجودين إلى جانب الجيش السوري قاتل جنود غولاني في حرب الـ 33 يوماً، ومرّغ أنوفهم بالتّراب.
لا تختلف المعركة بشيء هنا. قد تكون تجربة القتال جديدة. اعتاد المقاتلون في الجنوب مهاجمة موقع اسرائيلي، تنفيذ الحركة والتأمين في منطقة العمليّات، ثمّ الحركة والنار داخل الموقع لتطهيره وقتل أكبر عدد من الجنود الصهاينة. كان حزب الله دائماً في موقع الدفاع. إمّا يهاجم موقعاً اسرائيليّاً ليدمّره، وإمّا ينتظر الجنود الخائفين والمدججين بترسانات السلاح لاصطيادهم ودفعهم الى الانسحاب. هنا في القصير، معارك الهجوم والسيطرة تجبر المقاتلين أحياناً على مزج حرب العصابات بالحروب الكلاسيكية، عبر استخدام القوّة الناريّة الهائلة للجيش السوري من المدفعية وراجمات الصواريخ والطائرات الحربية، وتطعيمها بفنون حرب العصابات.
لم تعد مساندة حزب الله للجيش السوري في حربه على مسلّحي المعارضة السورية أسطورة. جثامين شهداء «الواجب الجهادي» في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية وثّقت كلام الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله.
لماذا القصير؟ السؤال ليس للجيش السوري أو حزب الله، السؤال لباراك أوباما. لتعرف مدى أهميّة القصير اسأل رئيس أكبر دولة في العالم، واسمع صراخ الإعلام الداعم للمعارضة السورية، والناطقين باسمها في عواصم أوروبا.
تقول العيون الساهرة هنا إن القصير لم تكن بقعة عاديّة لمسلّحي المعارضة. القصير طريق إمداد ريف دمشق وحمص وحماه والشمال الشرقي لسوريا بالسلاح والمال والرّجال. والقصير أيضاً ليست مركزاً للامداد فحسب، هي نقطة توزيع العمليّات وإدارتها من قلب سوريا لمعظم الجبهات التي تقاتل عليها المعارضة. وفي السياسة أيضاً، قرار استعادة السيطرة الكاملة على القصير هو قرار استراتيجي استباقاً لما كانت تعدّ له المعارضة السورية من وصل الساحل السوري ومنطقة عكار اللبنانية وبلدة عرسال وجرودها بالشمال الشرقي لسوريا، وقطع طريق دمشق نهائيّاً عن الساحل.
«لا فرق بين قتال الجيش الاسرائيلي وقتال المسلحين المدعومين من أميركا والغرب والعرب المتآمرين على محور المقاومة»، هي الخلاصة إذاً. لم تكن الأكتاف التي حملت الصواريخ التي انهمرت على مستوطنات الإسرائيليين في شمال فلسطين المحتلة، تتخيّل اليوم الذي تُسند فيه البنادق إليها وتصوّب نحو صدور سوريين أو عرب. الساهرون تحت شجر الجنوب وفوق ترابه لا تقودهم سوى بوصلة اسرائيل، وهي اسرائيل حتماً التي «أحرقت صور السيد نصرالله في تظاهرات حمص بعد شهر من بدية الأزمة السورية». حزب الله لا يدافع عن الجيش السوري، بل عن نفسه إلى جانب الجيش، «المقاومة دخلت الحرب مكرهة، لكن الحرب على سوريا لأنها قلب محور المقاومة، إن سقطت سوريا، وهذا ما لن يحصل، فالهدف التالي هو حزب الله، ما عجزت عنه اسرائيل في حرب تموز، تحاول فعله الآن بدعم المسلّحين».