غزة | مرّ التاريخ السياسي الفلسطيني بعدة مراحل متعددة شهدت تقلبات في التحالفات، حتى أتى اتفاق أوسلو ليرسم خطاً وقفت على جانبه الأول قوى حملت شعار «السلام»، وعلى الجانب الآخر قوى المقاومة. بين الخطين جرت بعض التقاطعات، لكن قرار أكبر فصيل مقاوم، «حماس» دخول المعترك السياسي، أدى بها إلى معركة كبيرة ضد غريمتها «فتح»، لا تزال آثارها حتى اليوم.
ومن العناوين الكبيرة في الخلاف الفتحاوي ـ الحمساوي محمد دحلان. القيادي «السلطوي ـ الشعبي» الذي كان يصرخ وسط الجماهير الفتحاوية في غزة قائلاً: «ابعدوا (الحراسات) خلي حماس تطخني». دحلان انسحب من القطاع قبل سيطرة «حماس» عليه، وهو من المغضوب عليهم «حمساوياً» لتاريخه في «قمع» الحركة وأبنائها وقت تسلمه رئاسة جهاز الأمن الوقائي. لكن «حماس» وجدت نفسها مضطرة إلى الخيار المرّ، تجنباً للأمرّ، إذ إنها بعدما «ألقت حمل» السلطة على محمود عباس ولم تجد منه رافعاً لتركة 45 ألف موظف، صارت تبحث عمّا يستفز «أبو مازن»، وليس أفضل من التلويح باسم محمد دحلان.
هل هذه حنكة سياسية أم لغة مصالح؟ لا تهم الإجابة عن هذا السؤال بقدر معرفة جدية «حماس» في العودة إلى الحوار مع دحلان، وخاصة أن الأخير لا يزال يرى في الحركة «عدوه الأول». لكن الرجل ذو حضور في المنطقة، وتربطه علاقات حميمية بشبكة الأمان الماليّة الخليجيّة، وعمله لدى النظام الإماراتي قوّى أسهمه عند الطرف المصري، المعادي لـ«حماس».
على طرف دحلان (أبو فادي) توجد اعتبارات مهمة، منها امتداده الجماهيري في «فتح»، لذلك يرى مراقبون أنّ علوّ بعض الأصوات في اجتماعات المجلس الثوري، أخيراً، لتدارس احتمالية عودة دحلان والمفصولين معه إلى صفوف الحركة يكرّس القناعة المطلقة باستحالة إزاحة الرجل عن المشهد. لكنّ تزمّت عباس واعتباره الخلاف مع دحلان شخصياً أكثر منه سياسياً، بجانب الاحتقانات المتزايدة بين أنصار الطرفين، قد يأتيان بعكس ما يشتهيانه، فتميل تلك الرياح إلى «حماس».

تصريحات «الغزل»

يمكن التقاط عدد من التصريحات لقيادات حمساوية في إطار المصالحة مع دحلان، وإن كان نائب رئيس المكتب السياسي في «حماس»، موسى أبو مرزوق، قد قلل أخيراً من رسمية هذا الحديث، مع أن مناصب المتحدثين الآخرين تشير إلى عكس ذلك. إذ قال القيادي البارز، صلاح البردويل، إن حركته لا تمانع في إذابة الجليد بينها وبين دحلان، لكنه شرط هذا بإتمام المصالحة المجتمعية. كذلك لمّح النائب في المجلس التشريعي عن «حماس» (المعروف بمواقفه الجدلية)، يحيى موسى، إلى إمكانية فتح قنوات اتصال مع دحلان على أرضية الشراكة الوطنيّة، بل قال إن «ماضي دحلان أفضل من حاضر عبّاس، الذي يدير الوضع الفلسطينيّ بانهزام وانكسار، وطريقته في عمليّة التّسوية مع إسرائيل لم تجلب غير مزيد من مصادرة الأراضي». أما القيادي الحمساوي البراغماتي، أحمد يوسف، فكان أول من جاهر بنيّة حركته الانفتاح على دحلان والتيار الموالي له في القطاع.
التقت قيادات حمساوية
دحلان في الإمارات، لكنه لم يردّ على دعوة التقارب


تسهل «حماس» عمل
جمعيات تابعة لزوجة دحلان
منذ نحو عامين

بعيداً عن النيات، يضع بعضهم هذه التصريحات في سياق المماحكة والابتزاز السياسي لعباس، ويرونها أنها أشبه ببالونات اختبار، ولا تعبر عن مزاج حمساوي عام يرحّب بالتحالف مع الخصم اللدود، دحلان. ويرى عضو اللجنة المركزية في «فتح»، جمال محيسن، أن «تودّد حماس لدحلان لا يُقرأ إلا في سياق المشاغبة». ويضيف لـ«الأخبار»: «أرادت حماس إلقاء العبء المالي على كاهل حكومة الوفاق، لكن الأخيرة ليست صرافاً آلياً لها... نفّذت حماس التفجيرات الشهر الماضي لتشكيل قوة ضغط على الرئيس، وبعدما قوبلت بموقف حاسم منه وجُمّدت المصالحة، توجّهت إلى التلويح بورقة دحلان».
ويسانده في هذه الرؤية، القيادي الفتحاوي، يحيى رباح، الذي قال: «ليس بيد حماس أن تصالح دحلان أو لا تصالحه. فدحلان يرفض أن يكون جزءاً من هذه اللعبة الحمساوية، ولم يردّ بتاتاً على تلك التصريحات». ويقلّل رباح، في حديث مع «الأخبار»، من قيمة التوجّه الحمساوي، ولا يرى سوى أنّ «الأطراف الغبية في حماس تنكشف أمام النجاحات الكبيرة للرئيس في مسألة الاعتراف بالدولة والذهاب إلى مجلس الأمن لتقديم المشروع الفلسطيني، وذلك بعدما قدمت معارك مجانية ضد الاحتلال في غزّة»!

طرف خيط

بين كل هذا الحديث لا يمكن الخروج بالأمر اليقين، لذلك يمكن الالتفات إلى التقاء بعض القيادات الحمساوية مع التيار الموالي لدحلان في غزة، وذلك على قاعدة «العمل الإنساني»، وتحديداً عبر «اللجنة الوطنية للتنمية والتكافل الاجتماعي» المموّلة من مؤسسات رسمية إماراتية. هذه اللجنة تستحوذ فيها «حماس» على الحقيبة المالية بإدارة النائب، إسماعيل الأشقر، فيما توزّع بقية الملفات اللوجستية والإعلاميّة على الفصائل الأخرى، وهي إحدى الصور الصريحة للتواصل بين الحركة ودحلان.
أيضاً، هناك رزمة تسهيلات تقدّمها «حماس» إلى المركز الفلسطيني للتواصل الإنساني «فتا» في القطاع، الذي تديره عقيلة دحلان (جليلة) الملقّبة بـ«أمّ الفقراء». ورغم أن الحركة تحكم عمل الجمعيات والمؤسسات في القطاع بالقبضة الحديدية، بعدما استولت بالقوة على بعضها وأغلقت أخرى، فإن الحال تختلف مع «فتا» الذي أعادت «حماس» فتحه قبل نحو عامين، ويتحرّك حالياً بهامش واسع من الحرية، كما يقدم برامج مختلفة تستفيد منها مؤسسات «حماس»، ككفالة اليتيم والطالب الجامعي الفقير، وترميم المنازل.

وزادت وتيرة الانفتاح على دحلان وتقديم التسهيلات لعقيلته بعدما زارت الأخير القطاع في نيسان الماضي بغية افتتاح مشاريع لمصلحة مؤسستها. لكن المهم ما يكشفه القيادي المفصول في «فتح» (على خلفية تهمة التجنّح) والمحسوب على دحلان، ناصر جمعة، أنّ «أحمد يوسف وصلاح البردويل وإسماعيل الأشقر اجتمعوا مراراً بدحلان في دبي، من بوابة لجنة التكافل». ويتابع جمعة لـ«الأخبار»: «هذه الشخصيات ليست هامشية، ومن الواضح أن ثمّة مستوى قيادياً مهماً ينادي بالمصالحة مع دحلان... من حق حماس البحث عن منافذ لحل العزلة السياسية، لكن أبو فادي لا يحبّذ أن يذهب إلى حلول مرحلية مجتزأة، فخلافه مع حماس ليس شخصياً، بل سياسي بحت، لذلك لم يرد على التصريحات الداعية إلى التقارب معه».
بالرجوع قليلاً إلى الوراء، تسجل عودة القيادي المفصول من «فتح» والمحسوب على خط دحلان أيضاً، سفيان أبو زايدة، إلى القطاع أوائل العام الجاري ضمن هذا الإطار، كما عاد معه كل من علاء ياغي وماجد أبو شمالة. ومع أنها عودة سجلت ضمن بوادر حسن النيّة من «حماس» باتجاه المصالحة، فإن أبو زايدة كتب ذات يوم مقالة بعنوان «مغازلة حماس لدحلان»، قال فيها: «ليس هناك شك في أن دحلان يعرف حماس أكثر من أي قائد فلسطيني آخر، فهو اكتوى بنارها وهي اكتوت بناره أيضاً، ومع ذلك نتمنى ونسعى إلى ترميم العلاقة على أسس معينة».
في المقابل، نشر «أبو فادي» عبر «الفايسبوك» رابطاً لمقالة نُشرت على موقع «أمد» الموالي له، ومضمونها معارضة المصالحة بينه وبين «حماس» لأنها «خطوة نفعيّة من أجل الهرب إلى الأمام والضغط على طرف دون آخر»، الأمر الذي يوحي بمنحه المصالحة الفتحاوية الداخلية أولوية القصوى على «حماس». أما عن رجوع دحلان إلى غزة، فقد كذّب النائب يحيى موسى، عبر «الأخبار»، التصريحات التي نُسبت إليه أخيراً عن دعوة الأول إلى العودة على اعتبار أن له «أسرة وعائلة في غزة»، مؤكّداً أنّ «من الصعب عقد تحالفات مجانيّة مع أي طرف، حتى لو كانت أوضاعنا صعبة للغاية الآن، لكن في الوقت نفسه لا فيتو على أي شخص يدفع بالحالة الوطنية إلى الأمام».

المصالحة الفتحاوية

مقابل ما سبق، ومع تحديد موعد المؤتمر السابع لـ«فتح» في الشهر المقبل، يزيد التصعيد ضد دحلان، وخصوصاً مع إعلان هيئة مكافحة الفساد الفلسطينية، قبل أيام، أنها أحالت ملفا للقيادي المفصول على محكمة جرائم الفساد، فيما نشرت محكمة (جرائم الفساد) إعلاناً في صحيفة «الحياة الجديدة» جاء فيه أنه جرى تحديد جلسة الثامن عشر من الشهر الجاري علنياً للنظر في قضية دحلان.


رغم ذلك، تشهد الساحة الفتحاوية حراكاً خفيّاً في سبيل عودة دحلان وتوحيد صفوفها، بعدما أدركت شخصيات داخل الحركة الثقل السياسي الذي يتمتع به الرجل. وتذكر مصادر لـ«الأخبار» أنّ أحد اجتماعات «فتح» الأخيرة شهد مشادات كلاميّة حادّة بين تيار يرفض على نحو قاطع عودة الرجل، وبين آخر يطرح سبل انضمامه مجدداً إلى الحركة. وتركّزت هذه المشادات بين القياديين توفيق الطيراوي وجمال محيسن. لكن عضو المجلس الثوري للحركة، زياد أبو عين، نفى طرح القضية، قائلاً لـ«الأخبار»: «لا يمكن أن نلتقي الآن مع دحلان... الفلسطينيون يتحسسون من أي شخص يقيم علاقات خارجية باسم فلسطين». كذلك نفى يحيى رباح أن تكون قضية دحلان «في أولويات الحركة حالياً»، مستدركاً: «المصالحة الداخلية قابلة للتحقق في وقت لاحق على عكس المصالحة بين حماس ودحلان التي تبدو شبه مستحيلة». ثم يعود أحد القيادات المحسوبة على دحلان ليؤكد أنه «يمتلك نفوذاً كبيراً داخل الحركة ولا يعتبر نفسه خارجها»، مشيراً إلى أن «أبو فادي لا يستعجل قطف ثمار المصالحة مع عباس، بل يراهن على تأخّر سنّ الأخير ومرضه وانتهاء أهليته للحكم... وحماس تعي ذلك جيداً».

مصر بين عباس ودحلان

على جانب متصل، تثار ضجة كبيرة عن طبيعة العلاقة بين محمود عباس والرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وهو ما يفسّر محدودية زيارات عباس للقاهرة على عكس زيارات دحلان الأقرب إلى الرسمية على صعيد الاستقبال، وحتى الحميمية، إذ تفيد مصادر مقربة منه بأن السيسي يستقبله في مقره الشخصي، وتقول إن وساطة دحلان أسهمت في فتح معبر رفح من أجل عودة العالقين قبل أسابيع. لكنها تشدد على أن السيسي غير معني بتشتت «فتح»، بل يريد رأب الصدع داخلها لمواجهة امتداد «الإخوان المسلمين في غزّة»، وإعادة إنتاج المشهد فيه لمصلحة السلطة.
في الضفة المقابلة، تلفت مصادر من «المقاطعة»، في رام الله، إلى أنّ «المبررات التي ساقتها مصر لعباس لم تقنعه في اللقاء الأخير قبل أكثر من أسبوع، فمن تريد أن تصالحه معه (دحلان) عمل على إفساد حركة فتح العريقة، وتهجّم على عائلة عباس ووصفها بالفاسدة»، كاشفة أن علاقة السيسي بدحلان قديمة «منذ أن كان يعمل في المخابرات المصرية». لكن أبو عين يرفض كل ذلك، ويؤكّد أن السيسي لا يقرّ إلا بالرئيس عباس ممثّلاً شرعياً للسلطة «حتى لو كانت تجمعه وقوى المخابرات علاقات متينة بدحلان».




وفد «حمساوي» في طهران

في خطوة بالغة الدلالات وتشير إلى أن أمراً نوعياً يجري على خط «فتح صفحة جديدة» بين «حماس» وإيران، يزور وفد من مسؤولي الحركة طهران، في محاولة يبدو واضحاً أنها لوضع اللمسات الأخيرة على عملية رأب الصدع بن الطرفين.
وتقول مصادر متابعة لتلك الزيارة، التي تختتم اليوم، إن الوفد يضم عضو المكتب السياسي لـ«حماس» ورئيس الوفد محمد نصر، ومعه كل من ماهر عبيد وجمال عيسى، وأيضاً ممثل حماس في طهران، خالد القدومي، إضافة إلى القيادي في الحركة أسامة حمدان.
وكان التقارب بين الطرفين قد وصل، خلال الأشهر القليلة الماضية، إلى مراحل متقدمة، أكثر من مرة، قبل أن يعود ويتعثر. وجرت لقاءات متعددة بين ممثلين للطرفين في أكثر من عاصمة إقليمية، انتهت إلى مأزق حول مدى استعداد الحركة لإجراء مراجعة داخلية وحول استعداد طهران للسماح لخالد مشعل بلقاء مرشد الثورة علي خامنئي عند زيارته لها.
وتتوقع المصادر نفسها أن يفتح الطرفان صفحة جديدة في علاقاتهما، تتوج بزيارة لمشعل للجمهورية الإسلامية يلتقي خلالها خامنئي والرئيس حسن روحاني.
(الأخبار)