انقلابٌ جذريٌّ في المشهد الميداني لحلب زُرعَت بذورُه قبلَ عامين وبدأ حصادُه الفعلي في تشرين الأوّل الماضي مع انطلاقة «معركة حلب الكبرى». ومع وصول المعارك إلى الريف الشمالي قبل أيام، يكونُ الجيش السوري وحلفاؤه قد دشّنوا مرحلةَ مفصليّة، لكنّها حتماً ليست الأخيرة. ولم يدّخر الجيش وحلفاؤه وقتاً بعد فك الحصار، بل سارعوا إلى استغلال الانهيار الذي مُنيت به المجموعات وبسط السيطرة على مزيد من القرى والبلدات في الريف الشمالي. وحافظ الهجوم على خطّة تشتيت الجبهات، عبر استهدافِ نقاط عدّة في وقت واحد. وعلاوةً على السيطرة على كلّ من رتيان وماير، سيطر الجيش أمس على مزارع مُطلّة على بلدة دير جمال (جنوب غرب تل رفعت). وباتت الوحدات المتقدّمة على مسافة حوالى خمسة عشر كيلومتراً عن مدينة أعزاز الحدوديّة، وعشرين كيلومتراً عن معبر باب السلامة.
يضعُ «الوسطاء» في جعبتهم ورقةً أخيرةً قد يلجأون إليها قريباً
كما تقلّصت إلى عشرة كيلومترات المسافة التي تفصلُها عن مطار منغ العسكري (الذي كان قد سقط في يد المسلّحين عام 2013 بعد حصار طويل). ويحتفظ الجيش وحلفاؤه بفعل التطوّرات الأخيرة بخيارات عدّة لمستقبل العمليّة، من بينها الاستمرار شمالاً مع ما يعنيه هذا من محاولات السيطرة على مدنٍ «وازنة» مثل تل رفعت وأعزاز ومارع. وتبدو محطّة فك حصار نبّل والزّهراء مدخلاً لتطوّرات استراتيجيّة كُبرى، أبرز عناوينها امتلاك الجيش وحلفائه زمام الأمور بطريقة يُمكن القول بثقةٍ إنّها غيرُ مسبوقة منذ حطّت الحرب في عاصمة الشمال. وللمرّة الأولى على مسار الحرب، نجح الجيشُ في فك حصارَين مُتتاليينِ من دون أي انتكاسةٍ بين العمليتين، (مطار كويرس العسكري، ثمّ فك حصار البلدتين). وقوع المنطقتين في محافظة واحدة يُقدّم مؤشراتٍ وافية عن تبدّل موازين القوى فيها. قبلَ حوالى ثلاث سنواتٍ، كانت المعادلة مغايرة تماماً وكاد المسلّحون ينجحونَ في خنق المدينة، قبلَ أن يتمكّن الجيش في أيلول 2013 من شقّ طريقٍ تحوّل إلى شريانٍ جنوبيّ لها هو طريق خناصر الشهير. في أيّار 2014، فكّ الجيش حصاراً طويلاً عن سجن حلب المركزي، واضعاً اللّبنة الأولى لقلب الموازين في حلب. («الأخبار»، العدد 2299). بحلول تشرين الثاني من العام نفسه، صارت خطّة «طوق حلب» واضحةً في غُرف العمليّات العسكريّة، لكنّ مسارها شائك وطويل (الأخبار، 2434). وتهدف الخطّة في الدّرجة الأولى إلى عزل المسلّحين المسيطرين على الأحياء الشرقيّة للمدينة عن خطوط الإمداد في الريف. وخلافاً لما قد يتبادر إلى الذهن، فإنّ عمليّة فك حصار نبل والزهراء لا تعني أن «الطوق» باتَ ناجزاً، بل تعني قطعَ شوطٍ كبيرٍ على طريق إحكامه. وثمّة أهميّة استثنائية لقطعِ خطوط إمداد الوقود من مناطق سيطرة تنظيم «داعش» إلى مناطق سيطرة «النصرة» وحلفائها، وهو أمرٌ فرضه الجيش عبر فصل مناطق سيطرة المسلّحين في الريف الشمالي عن نظيرتها في الريف الغربي. كذلك؛ يساهم هذا الفصل إلى حد كبير في عرقلة تدفّق الإمداد إلى أحياء حلب الشرقيّة، غيرَ أنّ خنقها بشكل فعليّ يتطلّب سيطرة الجيش على محور «الكاستيلّو» الشهير والممتد إلى حريتان. ولا تزال الأخيرة خارج نطاق عمليّات الجيش في الريف الشمالي، وهي بدورها متصّلة بالعمق الحيوي للمسلّحين في ريف حلب الغربي ومن ورائه ريف إدلب الشرقي. وبمعنى آخر، فإنّ العمليات الأخيرة قد أسفرَت حتى الآن عن إغلاق نصف قوسٍ واسعٍ لا يزال تتويجُه بحاجةٍ إلى القبض بشكل فعلي على محور «الكاستيلّو» (وهو الخيار الأسهل)، أو إلى عمليّة ترسمُ نصف قوس جديد بين الزهراء (ريف شمالي) وكفر حمرة (ريف غربي) وتؤدي إلى تطويق عندان وحريتان (وهي عمليّة مُعقّدة).
معركة «الريف الغربي»

تبدو عمليّات الريف الغربي ضرورةً حيويّة لتأمين مداخل الأحياء الغربيّة لحلب وإحباط أي محاولة قد تقوم بها المجموعاتُ عبر خان العسل نحو الرّاشدين، أو عبر كفر حمرة نحو بلليرمون. ويبدو الخياران الأخيران حاضرين في حسابات المجموعات، علاوةً على خيارات أخرى قد يتم اللجوء إليها في محاولة لاستعادة التوازن. ومن بين الخيارات أيضاً، تحضرُ محاولة الاستفادة من التمركزات في أرض الملّاح، ومخيّم حندرات لشن هجوم عبر طريق «الكاستيلّو» نحو حي الشيخ مقصود الذي تسيطر عليه «وحدات الحماية» الكرديّة. ورغم أنّ الخيار الأخير سيعني استدعاء «النصرة» وحلفائها عدوّاً جديداً قادراً على استهدافها في مناطق الريف الشمالي الحيوية أيضاً، غيرَ أنّه قد يكون ملجأً أخيراً على أمل فتح الجبهات وخلط الأوراق. يسهم في ذلك أنّ استهداف الأكراد قد يشكّل حافزاً إضافيّاً أمام الأتراك لفتح كل الخطوط الممكنة أمام «النصرة» و«أحرار الشام» والمجموعات التركمانيّة. كذلك؛ يُشكل استهداف الأكراد عاملَ جذبٍ لتنظيم «داعش» قد يؤدّي إلى استجابة الأخير لوساطات «الصلح» بينه وبين خصومه («النصرة» وحلفائها)، والتي شهدت خلال اليومين الماضيين زخماً كبيراً. ويحاول الوسطاء (وهم شرعيّون لا ينتمون بشكل فعلي إلى أحد الأطراف، وبدعم تركيّ) أن يقنعوا «الإخوة الأعداء» بأنّ معركتهم مع الجيش وحلفائه هي معركة وجود، وأنّ «رصّ الصفوف في وجه الروافض وحلفائهم الصليببين (الروس) كما في وجه الملاحدة الأكراد، هو هدف مُبارك ويعودُ بالمنفعة على عموم المسلمين». وخلال اليومين الأخيرين، شهدت مدينة مارع (في الريف الشمالي) اجتماعاتٍ طويلة بغية «رأب الصّدع بين الإخوة»، لكنّها لم تُفض بعد إلى نتيجة ملموسة، بفعل عوامل عدّة؛ على رأسها وجود «فتاوى تكفير» متبادلة بين الفرقاء. ويضعُ «الوسطاء» في جعبتهم ورقةً أخيرةً قد يلجأون إليها قريباً، تقومُ على «مَخرج شرعي» مفادُه أنّ «التحالف مع الكفار واردٌ إذا كان فيه مصلحة لعموم المسلمين»، ما يعني قبول كلّ طرف بتكفير الآخر له وانخراطَه رغم ذلك في «تحالف مصلحة» معه. ويبدو «التحالف» المنشود بمثابة مخلص أخير أمام «داعش» الذي يدق الجيش أبواب معاقله في مدينة الباب، كما يوشك على محاصرته في المنطقة الممتدّة بين كويرس والطّعانة (ريف حلب الشرقي) بعدما سيطرت وحداتُه أول من أمس على قرية السّين.




آلاف النازحين عالقون على الحدود


تسبّبت العمليّات الحربيّة المستعرة في ريف حلب الشمالي بموجة نزوحٍ كبيرة في اتجاه مناطق أبعد عن مسرح العمليّات، مثل مدينة أعزاز القريبة من الحدود، ومدينة عفرين التي تبسط «الوحدات» الكرديّة سيطرتها عليها. كما بثّ ناشطون سوريّون مقاطع مصوّرة تُظهر تدفّق الآلاف إلى معبر باب السّلامة المُغلق. ويأمل النّازحون عبور الحدود بعدما تصاعدت وتيرة المعارك واتّسعت رقعتُها، وامتدّت الغارات الجويّة لتطاول معظم مناطق الريف الشمالي، بينما واصلت السّلطات التركية إغلاق المعبر، رغم مناشدات المنظمات الإغاثيّة. فيما أفاد ناشطون عن قيام بعض هذه المنظمات بنصب عشرات الخِيَم في محاولةٍ لإيجاد مأوى مؤقت للنازحين. وتداولت مواقع التواصل الاجتماعي صوراً لطفلة قُتلت جرّاء إصابتها برصاص أطلقه حرس الحدود التركي، أثناء محاولتها العبور نحو الأراضي التركية.