دخول القوات السورية وحلفائها إلى بلدة ماير، الواقعة إلى الشمال من بلدتي نبل والزهراء في ريف حلب الشمالي الغربي، أرخى بظلاله على أهالي البلدتين المحتفلتين بفك الحصار الجائر الذي فرضه المسلحون منذ ثلاثة أعوام ونصف عام. الأفراح تتوالى بين المدنيين، بالتزامن مع استمرار دخول مواكب العائدين من أبناء المنطقة، والذين طال غيابهم عن مسقط رأسهم. غير أن الأفراح المستجدّة لم تُنهِ أحزان نساء أفقدتهن الحرب أبناء وأزواجاً وأقارب. «10 أعياد ما عيّدنا. انفك الحصار وعوّضنا الفرق. فك الحصار هو العيد»، تقول حياة عبد الهادي الجرد، المعلّمة في مدرسة نبّل الابتدائية. لم تأكل المرأة منذ ساعة إعلان فك الحصار، ولم تنم، بل اكتفت بالاحتفال مع جيرانها بعودة الحياة «الطبيعية» إلى المنطقة. تشرح سوء الأوضاع المعيشية تحت الحصار، والتي لا يزال بعضها مستمراً، فتقول: «راتبي يزيد على 38 ألفاً، وهو لا يكفيني لسداد ديون أيام الحصار، وتأمين مستلزمات منزلي وأولادي». شروط معيشية ربما لن تتغير سريعاً بعد فك الحصار، إنما يبقى الأمل ما تعيش عليه المرأة.

طريق الزهراء... ألغام وذكريات
10 أعياد ما عيّدنا، انفك الحصار وعوّضنا الفرق

من محيط مطار حلب، يبدو الطريق، عبر الخريطة، إلى قريتي نبل والزهراء طويلاً، وهو في الواقع أطول من المتوقع. من شرق المدينة إلى شمالها الغربي يمر العابرون بالمدينة الصناعية، مواجهين الخراب الكامل الذي أصاب عاصمة البلاد الاقتصادية. الخزانات الهائلة المثقوبة تشرح فجائع الاقتصاد السوري. بعض الأمل يلوح في النفس عند الوصول إلى قرى الشيخ نجار والشيخ زيات وكفر صغير (الكردية)، بسبب عودة مدنييها إلى منازلهم بعد تحريرها من قبل الجيش، في وقت سابق. ثم تلوح حندرات، وتلجبّين التي تم تحريرها منذ أيام. وعند المرور بسجن حلب المركزي، يقول أحد المرافقين ليُعلم الجميع: «هُنا أسطورة سجن حلب المركزي»، فيستعيد البعض ذكريات معارك فك الحصار عن الصامدين من جنود الجيش السوري داخل السجن المذكور. عند قرية شقيّف تفاجئ قذيفة قريبة المسافرين عبر الطريق الطويل. على حاجز قريب من سجن حلب، يقف أحد عناصر اللجان الشعبية من نبل والزهراء لتوزيع الحلوى على العابرين. لا مجال لرفض كرم ضيافة الجنود الفرحين بلمّ شملهم مع أهلهم. وعند معمل الاسمنت، تقبع سيارات نقل الاسمنت المقلوبة، كما لو كانت جثثاً شاهدة على هول الحرب. يأتي الخبر عن سيطرة الجيش على بلدة رتيان المجاورة. بعد اجتياز معمل الاسمنت، تتناثر جرار الغاز على جانبي الطريق في مشهد مخيف. لوحات إرشادية خضراء على يسار الطريق تزيد المشهد رعباً، إذ تحذّر من وجود ألغام لم يتم تفكيكها بعد. ويمكن للمارين أن يلحظوا جثة ما على التراب الرطب، تستلقي بالقرب من سيارة محترقة. التراب الرطب يشي بحداثة الطرق التي شقها الجيش سريعاً في طريق آلياته لدخول المنطقة. «تلجبين الخالية اليوم كان عدد سكانها 29 ألفاً»، يقول السائق بحسرة. بعد المرور بدوير زيتون، يظهر أوتوستراد أعزاز ــ حلب الذي يصل إلى الحدود التركية. من هذه النقطة، يقف المرء على بعد 25 كلم من الحدود التركية، فيما تبعد حلب 20 كلم إلى الجنوب. يعود السائق للقول: «أفضل تربة في سوريا كلها تكمن هُنا». تظهر السواتر الترابية الفاصلة بين الطريق وبلدة بيانون التي يسيطر عليها المسلحون، لينتهي الطريق بمدخل قرية الزهراء، معلناً الترحيب بـ«الزوار الكرام».

ثمار التحدّي: 75 طالب طب

على الطرف الشرقي من قرية نبل المحاذي لقرية ماير، تأثرت معظم المنازل بالقصف المتواصل، فنزح بعض سكانها إلى داخل القرية. يذكر عدنان حلاق، أمين سر مدرسة القرية، أن عدد طلاب المدرسة كان 750 عند بدء الحصار، ليتقلص لاحقاً، فيصبح اليوم 250 فقط. وتابع قوله: «عام 2012 لم يتقدم طلاب المنطقة إلى امتحانات الشهادة الثانوية، لكن سرعان ما تمكنّا من تأسيس مراكز امتحانية في السنوات اللاحقة، بمساعدة وزارة التربية». خسرت البلدة 20 مدرّساً ومعلّماً من أبنائها من أصل 300، بحسب حلاق، يتراوح هذا العدد ما بين من سقط خلال معارك الدفاع عن القريتين، وضمن معارك حلب وأريافها، أو استشهد بعضهم متأثراً بجراحه جراء سقوط القذائف على نبل والزهراء. 4 أطفال يتعلمون في مدارس المنطقة استشهدوا أيضاً جراء سقوط قذائف، بحسب أمين السر. ويتباهى الرجل بأن التحدي الذي يخيّم على أبناء القريتين المحاصرتين، سابقاً، جعل 75 طالباً منها ينالون القبول الجامعي في كلية الطب، خلال العام الماضي. ويتحدث الرجل عن تحوّل حفلات الزفاف إلى احتفالات جماعية وفق متطلبات متواضعة من قبل العروس. وأمام حكاية الطفلة التي لم تتجاوز السنة إلا بقليل، والتي قضت جراء شظية لقذيفة هاون، تبكي أم ريماس ناصيف متذكرة مأساتها. تشرح الأم تفاصيل الحادثة، وهي غارقة بدموعها، إذ سقطت الرضيعة صريعة جراء نزف في الرأس، إضافة إلى إصابة بعض أبناء الأقارب الموجودين في المنزل. تبكي الأم بلوعة، متحدثة عن فقد طفليها التوأمين حسين وسعيد لشقيقتهما التي كانا يهتمان بها. يبكي حسين ذو الأعوام الخمسة، متذكراً الحادثة حسب رواية أمه، ويرفض التعليق على فقده لشقيقته، مكتفياً ببكاء مكتوم، واضعاً يديه على عينيه ليخفي دمعه. حزن المرأة لم يمنعها من ذرف دموع معلّقة ما بين اللوعة والفرح بفك الحصار: «الله يحمي الشباب».

نبّل... والجارة عفرين

يلفت النظر داخل المنطقة الدراجات النارية والسيارات الأوروبية التي تحمل «لوحات كردية»، تتبع لمدينة عفرين القريبة، الواقعة أقصى شمال المنطقة. ويلجأ بعض أهالي نبل والزهراء إلى شراء سيارات بأسعار معقولة وتزويدها باللوحات الكردية، هرباً من دفع تعرفة جمركية مرتفعة لدى السلطات السورية. ويذكر مدير مشفى الزهراء علي علبي أن عفرين بقيت ملاذ الأهالي لنيل ما يحتاجون إليه من أدوية ومواد طبية، حتى إنها استقبلت حالات صحية مستعصية من أبناء نبل والزهراء. وتابع الطبيب أن المستشفى لجأ إلى تعويض النقص في بعض الاختصاصات كالجراحة العصبية وجراحة الأوعية والنسائية، عبر أطباء الداخلية والجراحة العامة والقابلات. وذكر علبي أن المنطقة لم تكن مزودة بمستشفى قبل الحصار، وكان مبنى المستشفى الحالي عبارة عن روضة أطفال، تم تحويلها إلى مستشفى ميداني بحكم الظروف القاسية. رحلة العودة مساء إلى حلب تختلف بدرجة خطورتها عن رحلة الصباح. يمكن للمارين على الطريق ذاته تأمل مساحات شاسعة من العتمة، تخترقها كل بضع دقائق أضواء الصواريخ، كما لو كانت ألعاباً نارية. وينشغل الناجون من الرحلة الخطرة بمحاولة التمييز بين الأضواء الحمراء والصفراء، التي تحيل هدوء الليل إلى ترقب ورهبة.