«الواجب فوق الإمكان»، تلخّص هذه العبارة، التي حفلت بها الموروثات الفكرية لحركة «الجهاد الإسلامي»، أدبيّاتها في قدْر التضحية التي يبدي المنتمون إليها استعداداً لدفعها على طريق «إبقاء جذوة الصراع مشتعلة». منذ عام 2019، بدأت «الجهاد» تدفع تكلفة التمرّد على الواقع القائم. في تشرين الثاني من ذلك العام، قضى قائد لواء غزة والشمال، بهاء أبو العطا، وخلفه 26 شهيداً آخر في خلال معركة «صيحة الفجر» التي انطلقت ردّاً على اغتياله. دفع أبو العطا ثمن حالة الإشغال التي صنعها طوال عامين، في ما عُرف شعبياً بـ«لعنة التاسعة». كان الأمين العام الجديد، زياد النخالة، يرى أن ثمّة مخطّطاً يجري تطبيقه على قطاع غزة، غرضه إشغال الناس بهمومهم المعيشية، وحصر الصراع في شكل حروب موسمية، تفرض دولة الاحتلال توقيتها كلّ عامَين، ضمن تكتيك «جزّ العشب» الذي يهدف إلى تقليم أظْفار المقاومة، والمحافظة على سقف محدود من الإمكانات العسكرية لديها. لم يَرُق النسق المتقدّم الذي مضى فيه النخالة لكثيرين، من مقرّبين وحلفاء، وجدوا فيه نهجاً مغامراً، على رغم أن ضريبته الكبرى كان يدفعها عناصر الحركة وأخلصُ قادتها. في خلال معركة «سيف القدس» في أيار 2021، والتي افتتحتها «السرايا» بعملية موفّقة تمكّنت فيها من استهداف جيب إسرائيلي بصاروخ «كورنيت» موجّه على الحدود الشرقية للقطاع، فضلاً عن المحافظة على «رتم» صاروخي منضبط طوال أيام العدوان، ودّعت «السرايا» يومذاك، 21 شهيداً، كان أبرزهم قائد لواء الشمال الجديد، حسام أبو هربيد. على أن نقطة التحوّل في مسار الحركة الجديد، كانت حادثة الهروب من سجن جلبوع في مطلع أيلول من العام ذاته. كانت تلك فرصة سانحة للإعلان عمّا عكف النخالة، منذ تولّيه منصبه، على إنجازه، وهو إعادة بعث المقاومة في ساحة الضفة الغربية المحتلّة، والتي ظلّت منذ عام 2007 خارج الحسابات الإسرائيلية، بالنظر إلى قدر الاستثمار الأميركي - الإسرائيلي طوال 15 عاماً في إعادة بناء عقيدة الأجهزة الأمنية فيها على نحو «مهني»، حوّلها إلى شركات أمنية، تعمل بمعزل عن أيّ قيم وعواطف وطنية أو أخلاقية، في ملاحقة خلايا المقاومة وأيّ حضور جماهيري لها. وهو استثمار رافقه آخر أكبر في إعادة هندسة جيل ما بعد الانتفاضة الثانية، والذي أريدَ له أن يغرق في همومه الذاتية وامتيازات الحياة والعمل تحت الاحتلال. ولذا، لم يكن مفاجئاً أن «هَبّة القدس» في عام 2015، لم تتطوّر طوال عامٍ كامل في فعلها من حدود السكين والحجارة.
عقب «نفق الحرية»، والإعلان عن انطلاق «كتيبة جنين» بتوأمة استثنائية مع أبناء حركة «فتح» في جنين، كان البناء على ما صنعه القيادي الشهيد جميل العموري، مجازفة تحيطها العديد من عوامل الإحباط المنطقية. في كيان الاحتلال، لم يتجاوز توصيف الحالة الناشئة مصطلحات مِن مِثل «ثورة التيك توك»، قبل أن تدرك المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية أنها أمام حالة تتمدّد على نحو مفاجئ، تطلّبت الإعلان عن عملية «كاسر الأمواج» في آذار 2022. خلال ذلك العام، قدّمت «كتيبة جنين» أكثر من 35 شهيداً من أبنائها، وهو ما ولّد لدى النخالة قناعةً بضرورة الذهاب إلى ما هو أبعد من المساندة والدعم اللوجستي والمادّي. ولذا، في معركة «وحدة الساحات» في آب 2022، وما سبقها من عشرات عمليات إطلاق الصواريخ من القطاع، حاولت الحركة كسر استفراد جيش الاحتلال بمقاومي الضفة. في تلك المعركة التي بدأتها طائرات الاحتلال غدراً، قدّمت «الجهاد» اثنين من أبرز قادتها التاريخيين، تيسير الجعبري وخالد منصور، إلى جانب 10 من الكوادر الفاعلين. بدا واضحاً أن المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية تحارب في «الجهاد» ما هو أهمّ من القادة والعناصر الفاعلين: الفكرة والنهج اللذان مضت فيهما قيادة الحركة الجديدة، وعودتها إلى الأدبيات القديمة. ولذا، بدا، من وجهة نظر إسرائيل، أن «الجهاد» ستكون عاملاً معطّلاً لكلّ مساعي الهدوء، ولكلّ مشاريع الأدلجة والاستثمار في تحويل المقاومة في غزة إلى نسخة كربونية من «منظمة التحرير».
مضت الأيام ثقيلة ومثقلة بثمار الاستثمار المنجَز في ساحة الضفة، حيث تمدّدت خلايا المقاومة أفقياً وهرمياً، وصنعت إسرائيل بعتوّها رموزاً من الشباب، ثمّ دخلت «كتائب القسام» لأوّل مرّة منذ الانقسام عام 2007، إلى الضفة. اليوم، تدفع «الجهاد»، من جديد، ضريبة اللعب في أحشاء إسرائيل، «يهودا والسامرة»، والتي تُمثّل، في أدبيات الحركة الصهيونية، قلب المشروع العقائدي الصهيوني، الذي يجب أن يبقى بمنأى عن عمليات التشويش والإشغال. لقد حملت الأعوام الأربعة الأخيرة أحداثاً ومستجدّات ضاقت بها 15 عاماً كاملة. وباستشهاد طارق عز الدين وجهاد غنام وخليل البهتيني، قد يحقّ للمراقب إضافة توصيف جديد لم تعهده أدبيات صحافة المقاومة من قِبَل، إذ إلى جانب «العائلة الشهيدة»، و«المدينة الشهيدة»، ثمّة اليوم «حركة شهيدة» أدّت قسطها الرسالي كاملاً، لكنها ليست الشهادة التي تختم الرسالة وتنهي الفعل، إنّما «المعادل الموضوعي للحياة»، أو الشهادة التي يذهب رجالها إلى «الاشتباك المستمرّ» - وفق توصيف الشهيد فتحي الشقاقي -، والذي لا ينتهي إلّا بزوال الاحتلال.