رام الله | أغلق العدو، أمس، الحساب مع منفّذَي عملية الأغوار قبل نحو شهر ومساعدهما، شانّاً هجوماً كبيراً على المنزل الذي كانوا يحتمون به في البلدة القديمة في نابلس، مستخدماً أساليب جديدة لم تكن مألوفة من قَبل في عمليات تصفية المقاومين في شمال الضفة الغربية. والظاهر أن دولة الاحتلال تستشعر، في خضمّ تعاظم تهديد الحرب المتعدّدة الجبهات والتخلخل المتزايد في قوّة الردع الإسرائيلية، حاجة ملحّة إلى حسم المعركة على واحدة من تلك الجبهات، وهي الضفة في هذه الحالة، من دون استدراج خطر الدخول في مواجهة كبرى ليست الدولة العبرية مستعدّة لها بعد

لم يتنفّس الاحتلال الصعداء بعد انتهاء شهر رمضان، الذي حمل معه رياح حرب واسعة مفتوحة على عدّة جبهات، بل أصبح يسارع الزمن لحسم جبهة الضفة الغربية، وهو الأمر الذي يتّضح من حجم الاعتداءات والجرائم المرتكَبة أخيراً، والتي تهدف إلى اجتثاث المقاومة أو ما تطلق عليه دوائر العدو الأمنية «إغلاق الحساب»، وهذا ما كان فجر الخميس. على امتداد ساعتَين، خاض 3 مقاومين من «كتائب القسام»، وهم معاذ المصري وحسن قطناني وإبراهيم جبر، في البلدة القديمة في مدينة نابلس، معركة مع قرابة 200 جندي من قوات الاحتلال، مدعومين بمنظومة أمنية واستخباراتية وطائرات استطلاع، ليرتقوا بعدها شهداء، قالت مصادر محلّية إن ملامحهم إثر انتشال جثامينهم من المنزل المستهدَف كانت مشوَّهة وغير معروفة. وبحسب صحيفة «جيروزاليم بوست» العبرية، فإن جيش العدو استخدم أسلوباً جديداً في هذه العملية باستخدام طائرة مسيّرة، دخلت من نافذة البيت الكائن في شارع الياسمين وانفجرت به، وذلك ما صعّب عملية التعرّف إلى الجثامين التي تناثرت أشلاءً. ويتّهم العدو، القطناني والمصري، بتنفيذ عملية إطلاق نار في الأغوار قبل نحو شهر، أدّت إلى مقتل 3 مستوطنات، بينما تتّهم جبر، وهو صاحب المنزل المقصوف، بأنه قدّم لهم المساعدة في الإيواء والتخفي، الأمر الذي أكّدته «كتائب» القسام التي نعت ثلاثة شهداء من مقاوميها، معلِنةً أنهم هم مَن نفّذوا العملية المُشار إليها ردّاً على الاعتداء على المعتكفين وسحْل الحرائر في المسجد الأقصى في شهر رمضان. وينحدر الشهيدان قطناني والمصري من مخيم عسكر القديم شرقي نابلس، وهما ناشطان معروفان من حركة «حماس»، فيما يعكس تنفيذهما لهجوم الأغوار، وتبنّي «القسام» لها، وجود عمل تنظيمي وخلايا للحركة في الضفة قادرة على تنفيذ عمليات فدائية، على غرار عملية حوارة التي نفّذها أحد قادة «حماس» في نابلس، عبد الفتاح خروشة، قبل أن يستشهد في مخيم جنين، وعملية الشهيد المعتز خواجا، نجل القيادي في الحركة صلاح الخواجا.
وتعيش الضفة الغربية، منذ أشهر، شبه معركة، تريد إسرائيل حسمها سريعاً، من أجل تحقيق هدفَين رئيسَين: إنهاء حالة المقاومة المسلّحة، ومنع تنفيذ عمليات فدائية. وضمن هذا السياق، تأتي عملية اغتيال المقاومين الثلاثة في نابلس، وكذلك الاقتحامات الواسعة للمدن والمخيّمات، والتضييق على عوائل الشهداء والأسرى على غِرار ما جرى فجر الأربعاء من تفجيرٍ لمنزل الشهيد محمد صوف (في سلفيت) منفّذ «عملية أرائيل» التي قُتل فيها 3 مستوطنين، ومنزل عائلة الأسير يونس هيلان الذي قَتل مستوطناً في عملية طعن قرب قلقيلية، فضلاً عن استمرار المخطّطات الإسرائيلية بشأن المسجد الأقصى أو في ملفّ الاستيطان وسرقة الأراضي. أمّا الجريمة الأخطر في السياق المُشار إليه، فاغتيال الشيخ الأسير خضر عدنان، الذي يُعدّ وجهاً رئيساً من وجوه استنهاض الهمم والتعبئة لمقاومة إسرائيل سواء خارج السجن أو داخله من خلال إضرابه عن الطعام. وفي المقابل، تدرك فصائل المقاومة أن إسرائيل التي ابتلعت على مضض الضربات المُوجَّهة إليها في شهر رمضان سواء من قطاع غزة أو من جنوب لبنان ردّاً على الاعتداءات على المسجد الأقصى، أو حديثاً ردّاً على اغتيال عدنان، تريد حسم معركة الضفة الغربية على نحوٍ يحول دون تدخّل أيٍّ من الساحات الأخرى فيه. ومن هنا، شدّدت الفصائل على ضرورة تصعيد المقاومة والتصدّي لجرائم الاحتلال، بينما أكدت حركة «حماس» أن جريمة الأمس لن تحدّ من ضرباتها وعملياتها، كما لن تُوقف مدّها المتصاعد، داعيةً كلّ التشكيلات العسكرية في الضفة إلى «إدامة الاشتباك مع الاحتلال والثأر لدماء الشهداء».
تَبرز أسباب عديدة تدفع إسرائيل إلى تركيز جهودها على جبهة الضفة


وتَبرز أسباب عديدة تدفع إسرائيل إلى تركيز جهودها على جبهة الضفة، لعلّ أهمها أن الأخيرة هي خاصرتها الرخوة التي أثبتت قدرتها على ضرب جنود الاحتلال ومستوطنيه، وخلخلة منظوماته الأمنية والاستخباراتية وتكبيدها الخسائر. كما أن الضفة تُعدّ قلب المشروع الصهيوني وعمقه الاستراتيجي، وهي ساحة المعركة الرئيسة معه، والأقرب إليه والأقدر على تبديد شعور مستوطنيه بالأمن، كون منفّذي العمليات الفدائية في الضفة والداخل المحتلّ ينحدرون منها. على أن التصعيد الإسرائيلي الحالي ضدّ الضفة، والذي يُتوقّع أن يتكاثف في الأيام المقبلة، يحدوه أيضاً حجم السخط داخل إسرائيل على حكومة بنيامين نتنياهو، وخاصة بسبب ما يُنظر إليه على أنه تردّد تبديه المؤسّسة العسكرية في الردّ على المقاومة في قطاع غزة، وهو الأمر الذي أثار غضب المستوطِنين في «الغلاف»، ودفَعهم إلى الخروج في مسيرات مناوئة للائتلاف الحكومي، طالبوا فيها بـ«توجيه ردّ ضدّ غزة أكثر قوة». ويرى البعض أن الأزمة الداخلية في إسرائيل على خلفية التعديلات القضائية، وتراجع شعبية نتنياهو وائتلافه الحاكم، الذي بدأت تنمو فيه بذور التفتّت على إثر الخلاف والتهديد العلنيَّيْن بين «الليكود» ووزير «الأمن القومي»، إيتمار بن غفير، على خلفية انتقاد الأخير السياسة الأمنية للحكومة، سيدفعان نتنياهو إلى تعزيز سياسة التصعيد في الضفة. وممّا يعزّز ذلك الاحتمال، بحسب هؤلاء، أن الدخول في مواجهة مع قطاع غزة في الوقت الراهن قد يكون بمثابة انتحار سياسي لنتنياهو، في ظلّ المفاجآت التي تخبّئها المقاومة للمعركة القادمة والتي قد تقلب المعادلة رأساً على عقب، وإمكانية دخول ساحات وجبهات جديدة على المعركة، وتحديداً من جنوب لبنان، وهو الأمر الذي لا تحتمله إسرائيل في الوقت الراهن. وترزح حكومة اليمين تحت تقييم سلبي جدّاً من قِبَل المستوطنين؛ إذ أظهرت نتائج استطلاع إسرائيلي أن 43% من المستوطنين يؤيّدون شنّ عملية عسكرية ضدّ القطاع، فيما 34% يعارضون هذه الخطوة، ويرى 71% أن أداء حكومة نتنياهو «سيّئ».
وإذ تشير تقديرات المنظومة الأمنية إلى أن جولة القتال المقبلة مع غزة قد لا تكون بعيدة، فهي تدرك أن عملية «كاسر الأمواج» التي أطلقتها في آذار 2022 في الضفة، قد خلقت أمواجاً أكثر شدّة وقوة، وفشلت في منع العمليات الفدائية التي ارتفع عدد قتلاها من المستوطِنين مذّاك، وأخفقت في الحيلولة دون تنامي حالة المقاومة والخلايا العسكرية. ومن هنا، فإن الموجة القادمة من التصعيد في الضفة قد تكون أقرب إلى عملية واسعة، وهو الخيار الذي لوّحت به إسرائيل دوماً، وبقي مطروحاً على طاولتها، من دون أن يتمّ تفعيله إلى الآن. وبحسب صحيفة «يسرائيل هيوم» العبرية، فإنه على ضوء التقدير بأن التهدئة الأمنية غير متوقَّعة في المستقبل القريب، جرت مناقشات في قيادة المؤسّسة الأمنية، في الأسابيع الأخيرة، حول إمكانية تغيير السياسة العسكرية في الضفة، إلى حدّ القيام بعملية عسكرية واسعة النطاق. وأشارت الصحيفة إلى أن جهاز «الشاباك» يدعم نهجاً هجومياً، ويعتقد أنه يجب تغيير نمط العمليات الأمنية في الضفة، لكنّ وزير الحرب، يوآف غالانت، لم يحدّد موقفه النهائي بعد. ويُعدّ هذا النقاش استمراراً للنقاش نفسه الذي دار أكثر من مرّة العام الماضي، وخلص حتى إلى إعلان استعداد جيش الاحتلال، قُبيل الانتخابات الأخيرة في إسرائيل، لشنّ ذلك الهجوم، وتلقّي تعليمات بالاستعداد لها. ويعتقد المسؤولون الأمنيون الذين يدعمون القيام بعملية من النوع المذكور، أنه لا مفرّ منها، لأن ديناميكيات التصعيد قد تكلّف إسرائيل ثمناً باهظاً، فضلاً عن أنه إذا لم تطلق الأخيرة الآن هجوماً استباقياً في شمال الضفة، فإن هجوماً أو سلسلة من الهجمات الجهنمية ستدفعها إلى اتّخاذ هكذا قرار لاحقاً، وبالتالي، من الأفضل اتّخاذ المبادرة وتجنّب الثمن الباهظ.