رام الله | لم تُخيّب القدس التوقّعات، إذ هَبّ شبابها للدفاع عن المسجد الأقصى بأجسادهم، معتكفين في رحاب الحرم للتصدّي لمخطّطات الاحتلال التهويدية، فيما لبّت مدن الضفة والداخل المحتلّ وقطاع غزة نداءهم، ليبدو المشهد وكأنه مواجهة شاملة مصغّرة، تُثبت أن العبث بصاعق القدس يظلّ قادراً على تفتيت الهدوء الهشّ. وحمل العدوان الكبير على المعتكفين في المسجد فجر الأربعاء، دلالات عديدة، أهمّها أن المقدسيين لا يزالون يشكّلون السياج الحامي للأقصى من التهويد، بينما يمكن توصيف ما جرى أيضاً على أنه خطوة في اتّجاه البدء بالتقسيم الزماني والمكاني للمسجد، عبر تخصيص أوقات محدّدة للمصلّين، ومثلها للمستوطِنين. كذلك، يضرب الاقتحام الواسع للمسجد، عرض الحائط بنتائج قمّتَي العقبة وشرم الشيخ اللتَين سعت الولايات المتحدة من خلالهما إلى تهدئة الأوضاع وخصوصاً في مدينة القدس، في حين يلغي عملياً الوصاية الأردنية على الحرم، ويصدّر إسرائيل بوصفها المسؤولة الوحيدة عنه، في محاولة لتكرار نموذج المسجد الإبراهيمي الذي قام العدو بتقسيمه زمانياً ومكانياً.

وعلى رغم القمع الوحشي الذي تعرّض له المعتكفون، وأسفر عن إصابة 200 منهم واعتقال 500، إلّا أن الاعتكاف في الأقصى كان ضرورياً لمواجهة الاحتلال ومستوطِنيه الذين كثّفوا من تحريضهم وتحشيدهم لذبح القرابين في المسجد، وكانوا يتطلّعون إلى تدشين مرحلة كبيرة من تهويد الأقصى. إلّا أن واقعة القمع تلك أشعلت شرارة الاشتباك على امتداد الأراضي المحتلّة، حيث خرجت المسيرات الشعبية في عموم فلسطين فجراً، وشنّ المقاومون عشرات عمليات إطلاق النار على مواقع العدو والمستوطنات ومركبات المستوطِنين، واشتبكوا مع جنود الاحتلال. ووثّق موقع «كتائب القسام» 77 عملية إطلاق نار منذ مساء الثلاثاء وحتى فجر الأربعاء، بينما وجّهت المقاومة في قطاع غزة رسائل عديدة إلى العدو والوسطاء و«المجتمع الدولي»، عبر إطلاقها نحو 16 صاروخاً على مستوطنات «الغلاف»، عنوانها أنها حاضرة وستبقى يدها على زناد النار.
هكذا، أثبتت القدس أنها لا تزال مفتاح الهدوء في المنطقة، وأنها في الوقت نفسه الصاعق الأكثر خطورة، وأن المسّ بها قادر على تغيير الأوضاع، على الرغم من قلّة إمكانات الفلسطينيين وحالة الهوان العربي والتخاذل الدولي والغطاء المُوفَّر للاحتلال، والذي يسمح له بانتهاك المقدّسات، والاعتداء على المصلّين داخلها. وفي حين أثارت الردود الفلسطينية على جريمة القمع، غضب قادة اليمين الذين لم يَرقهم تعامل جيش الاحتلال معها، فإن التهدئة التي أعقبت جولة ليل الثلاثاء - الأربعاء قد تكون آنيّة فقط، لتعود الأوضاع إلى الانفجار مجدّداً في ظلّ انفلات عقال المستوطنين وإصرارهم على مخطّطاتهم ضدّ المسجد الأقصى، إذ توعّد رئيس حركة «عائدون إلى جبل الهيكل»، التي دعت المستوطنين إلى إدخال القرابين إلى المسجد وذبحها داخله، بأن «يستمرّ نشاطنا على رغم أنف شرطة (إسرائيل) ولن يردعنا أيّ إجراء عن عبادتنا»، بينما دعا قادة اليمين في مجلس «الكابينت» إلى تغيير ردّ الحكومة على غزة.
ما جرى ليل الثلاثاء - الأربعاء إنّما هو صورة مصغّرة لانفجار قد يحصل في أيّ وقت


وفي هذا الإطار، طالب وزير المالية، الوزير في وزارة الجيش بتسليئيل سموتريتش، بـ«ضربات موجعة أكثر»، داعياً إلى تنفيذ عملية «سور واقٍ» ثانية شمالي الضفة الغربية المحتلّة ضدّ المقاومة، على غِرار تلك التي نفّذها جيش الاحتلال عام 2002، فيما طالب وزير «الأمن القومي»، إيتمار بن غفير، بعقد اجتماع طارئ لـ«الكابينت» الذي لم يلتئم منذ شهرين، وتنفيذ حملة اغتيالات ضدّ قادة المقاومة في القطاع. وقال بن غفير إن «على الحكومة الردّ بقوّة على إطلاق الصواريخ، صواريخ حماس بحاجة إلى ردّ أكبر من استهداف الكثبان الرملية والأماكن غير المأهولة، يعرف الجيش جيّداً الهدف، وحان الوقت لإسقاط رؤوس في غزة»، مضيفاً أن على «الحكومة تحديد سقف للثمن الذي ستدفعه غزة لقاء أيّ صاروخ»، وأنه «يجب انتهاج معادلة صارمة تُلزم بالردّ الجدّي على كلّ صاروخ». أمّا زعيمة حزب «العمل»، ميراف ميخائيلي، فرأت أن الحكومة أفقدت الإسرائيليين الأمن في جميع النواحي، قائلة: «حكومة الفوضى تنهار تحت وطأة التحدّيات الأمنية، فلم تستطع تدمير حُكم حماس ولا تحسين الأمن الشخصي». كذلك، نقلت «القناة السابعة» العبرية عن عضو في «الكابينت» قوله إن «نتنياهو يخشى تبعات الردّ بقوّة على إطلاق الصواريخ من غزة، وذلك لكي لا يرى المستوطِنين وهم يهربون إلى الملاجئ عشيّة عيد الفصح اليهودي»، في إشارة إلى ردّ المقاومة المتوقّع والذي قد يطال مدناً حساسة.
وفي الوقت الذي برز فيه الخلاف داخل حكومة الاحتلال حول كيفية التعامل مع تداعيات اقتحام المسجد الأقصى، كانت فصائل المقاومة موحَّدة في موقفها، انطلاقاً من ضرورة الردّ على الاعتداء على المعتكفين، وهو ما تُرجم على الأرض بالفعل، وبدا أشبه بتكريس جديد لمعادلة «وحدة الساحات» التي فرضتها معركة «سيف القدس». وإذ أكّدت المقاومة استعدادها للمضيّ بعيداً إذا ما استمرّت تلك الانتهاكات، رافضةً تقديم أيّ التزامات بعكس ذلك للاحتلال أو للوسطاء، فإن نجاح الوساطات الجزئي في حصر المواجهة خلال الساعات الماضية، لا يعني في أيّ حال التهدئة الشاملة، نظراً إلى عدم تعهّد العدو بوقف الاقتحامات، وعدم التزام المقاومة في المقابل بالامتناع عن إطلاق الصواريخ. وفي ضوء التوقّعات بارتفاع وتيرة اعتداءات الاحتلال خلال الساعات والأيام المقبلة على الأقصى، فإن المقاومة ستكون حاضرة كذلك، ولن تتخلّى عن ساحة القدس. وعلى رغم أن العدو أعلن حالة تأهّب قصوى، وتعزيز قواته بـ4 كتائب من الجيش ونشرها في مناطق متفرّقة قبل الهجوم على المسجد ليلاً، خشية من تنفيذ عمليات فدائية، إلّا أن هذا لم يمنع المقاومين من القيام بعشرات العمليات في الضفة.
بالنتيجة، ما جرى ليل الثلاثاء - الأربعاء إنّما هو صورة مصغّرة لانفجار قد يحصل في أيّ وقت، وبشكل أكبر ربّما من معركة «سيف القدس»، وهو ما أكّدته حركة «الجهاد الإسلامي» بتحذيرها من أن «صواريخ المقاومة ردّاً على عدوان الاحتلال على الأقصى، لم تكن سوى رسالة تحذير أوّلية إلى الاحتلال من مغبّة التمادي في العدوان على المعتكفين والمصلّين في المسجد». وإذ تَزامن الردّ من غزة، مع عدد من عمليات إطلاق النار في الضفة، فقد دلّ ذلك على أن معركة الدفاع عن الأقصى ستشمل كلّ مناطق فلسطين، وأن الفلسطينيين مستعدّون للذهاب بعيداً في المواجهة، ولو كلّفهم هذا مزيداً من الضحايا والأسرى.