يُفهَم من الإفراط الإسرائيلي في إطلاق النار (88 شهيداً منذ مطلع العام الجاري)، ومن النحو التي تمّت به عمليات الاغتيال في مدينة جنين أوّل من أمس وفي الـ7 من آذار الجاري، وفي نابلس في شباط الماضي، أن ثمّة أبعاداً نفسية جديدة يحرص جيش الاحتلال على تحقيقها. أوّلها، هو استنزاف خلايا المقاومة بشرياً، ولا سيما لناحية الشخصيات الملهِمة وذات التأثير الشعبي، وصولاً إلى تقويضها عبر تصدير شخصيات جديدة غير فاعلة ولا محترفة إلى قيادتها. أمّا الثاني، وهو الأهمّ، فتثبيط الشارع، وتعزيز ثقافة «اللاجدوى من الفعل المقاوِم» في مقابل القدرة الإسرائيلية الهائلة على التتبّع المخابراتي والاغتيال، حتى في داخل الحواضر شبه الآمنة. في عملية الاغتيال الأحدث، تعمّدت قوّة المستعربين، «ياماس»، التابعة لجهاز الأمن العام «الشاباك»، أن تنفّذ مهمّتها في وضَح النهار، قرب معلم تجاري بارز ومكتظّ بالمواطنين، وفي يوم الخميس الذي يحمل طابعاً «احتفالياً» على الصعيد المجتمعي بالنسبة إلى الفلسطينيين. كان مهمّاً، من وجهة النظر الإسرائيلية، أن تَجري العملية بشكل صاخب، دامٍ ومستفزّ، لتحقيق غرضٍ تَكرّر الحديث عنه في الأوساط الإعلامية العبرية، ومفاده «أنْ يذوق الجيل الجديد الألم»، لأنه لم يعِ عملية «السور الواقي» عام 2002، ولذا، فهو جيل «غير مردوع». وعلى رغم أن الحديث عن هذا التغيير يمثّل إقراراً إسرائيلياً بفشل 15 عاماً من الاستثمار في بيئة الضفة، كان الهدف منها تغريب المجتمع وتدجينه وطنياً وصناعة جيل ذاتي منسلخ عن الهمّ العام، ويعكس أيضاً فشل الرهان على عزْل المقاومة عن بيئتها المجتمعية، عبر تنفيذ عمليات اغتيال جراحية محدودة الخسائر بشرياً كما كان النسق خلال العام الماضي، فيما تمضي حياة الناس بشكل طبيعي، إلّا أن تتابُع ضربات كهذه، من شأنه أن يهدّد بتَحقّق الهدف الإسرائيلي. وإزاء ذلك، يمكن إيراد جملة خلاصات:
- يفرض الاستنزاف الحادّ في الكادر البشري على المقاومة، أن تُعزّز من تغيير طبيعتها البنيوية، من الشكل الهرمي شبه النظامي، إلى الخلايا الأفقية غير المترابطة تنظيمياً. ذلك الشكل، هو الأكثر ملاءمة للواقع الأمني في الضفة، والأكثر قدرة على القيام بعمليات تُحقّق خسائر بشرية في صفوف جيش الاحتلال ومُستوطِنيه، خصوصاً أن الشارع اليوم بحاجة، إلى جانب الإشغال المستمرّ والاستنزاف النفسي والأمني للعدو، إلى روافع وحوافز معنوية، تكافئ حجم الخسارات الميدانية، وتعطي شعوراً جمعياً بالإنجاز.
واحدة من أهمّ أسس التأثير العابرة للأزمنة، هي الاستثمار في صناعة الرموز


- تشير عمليات الاغتيال كافة إلى أن جيش الاحتلال يعتمد في نشاطه الميداني، على تفوّقه التكنولوجي، الذي يوفّره استخدام الشبّان المقاومين للهواتف المحمولة. وعليه، من شأن التخلّي عن وسائل الاتّصال الحديثة، أن يُفقد مخابرات العدو ثلثَي قدرتها على الرقابة والمتابعة. وإذا كان هناك من فائدة للعمل الإعلامي الجديد، ومفعول ملهم في الشارع، فإن هذه مهمّة يجب أن توكَل إلى مجموعات متخصّصة في داخل خلايا المقاومة، فيما يحرص المقاومون وحمَلة السلاح، على أمنهم الشخصي وبيئاتهم الحاضنة من الاختراق.
- واحدة من أهمّ أسس التأثير العابرة للأزمنة، هي الاستثمار في صناعة الرموز. في خلال أشهر معدودة من المطاردة، تَحوّل الشاب ابن الـ18 عاماً، إبراهيم النابلسي، إلى حالة ملهِمة أدّت دوراً فاعلاً في إشعال الشارع وتعبئة الفاقد البشري في خلايا المقاومة الصاعدة. أمّا اليوم، فقد كبّر المقاومون من حضورهم وظهورهم في الشارع، وبالتالي، كبرت الآمال المعلَّقة عليهم شعبياً. ولذا، أصبح من الواجب التوجّه إلى صناعة شخصيات الأبطال التي يَظهر فعلها، وتستطيع أن تحافظ على وجودها المقلق والمربك لقوّات الاحتلال، من دون أن تتمكّن الأخيرة من القضاء عليها في وقت مبكر.
- أخيراً، تَنظر المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية إلى نشاطها العملياتي من زاوية أنها تُعبّئ الفراغ الميداني الذي يسبق الانفجار الكبير، أو الانتفاضة الثالثة. وإذا كُنّا فعلاً أمام استحقاق كهذا، فإن أدواته وخططه العملانيّة لا بدّ أن تغادر مربّع العشوائية والفعل غير المدروس، ليغدو عملاً تصحبه أهداف ميدانية مرحلية وسياسية مُعدّة سلفاً.