رام الله | لم تكد السلطة الفلسطينية تتراجع، تحت ضغط أميركي، عن مشروع قرار إدانة الاستيطان الإسرائيلي في مجلس الأمن، حتى ارتكب جيش العدو مجزرة جديدة في مدينة نابلس راح ضحيّتها 11 فلسطينياً، وهو ما أثار اعتقاداً تلقائياً بأن ذلك التنازل إنّما هو الذي شجّع الاحتلال على ارتكاب المذبحة، خاصة في ظلّ نفْي تل أبيب وجود أيّ تفاهمات ملزِمة لها مع رام الله. أيضاً، ثبّت ما جرى، مرّة جديدة، أن السلطة لم تَعتبر من ثلاثة عقود من اللُهاث وراء اتّفاقيات «السلام» المزعوم، وأنها غير قادرة على مغادرة المربّع الذي باتت تُراوح فيه، وإنْ كانت لا تزال تحاول، في كلّ مرّة يَرتكب فيها العدو مجزرة، إيجاد مسكّنات للغضب الفلسطيني، كأنْ تُعلن تَوجّهها إلى مجلس الأمن، أو وقْف «التنسيق الأمني»، وهو ما لم يتحقّق البتّة. وكانت إدارة جو بايدن مارست ضغوطاً شديدة على السلطة الفلسطينية، أثمرت «تفاهمات» هدفها كبْح التصعيد الأمني في الضفّة الغربية والقدس المحتلّتَين، عبر سحْب المشروع المُشار إليه من مجلس الأمن، مقابل تعهّد حكومة نتنياهو بتعليق الموافقة على التخطيط والبناء الإضافي في المستوطنات، وتجميد هدْم منازل الفلسطينيين وتقليل اقتحامات المدن، خصوصاً في ظلّ الخشية من انفجار الأوضاع في شهر رمضان على غِرار ما حدث في معركة «سيف القدس».
تستمرّ واشنطن وتل أبيب في التعامل مع رام الله بوصفها مُقاول خدمات أمنية (أ ف ب)

وعلى رغم انكشاف «هُلاميّة» تلك التعهّدات، إلّا أن السلطة لا تزال تُراهن على الإدارة الأميركية، التي أثبتت التجارب كافة انحيازها الفاضح والكامل إلى جانب العدو. انحيازٌ تَجلّى مجدّداً في تعليق الناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية على مذبحة نابلس، والذي رأى فيه أن «العدد الكبير من الضحايا قد يضرّ بجهود التهدئة»، مُكرّراً «معزوفة» أن «لإسرائيل الحقّ في الدفاع عن نفسها، لكن بشكل يقلّل من إصابة الأبرياء»، داعياً الطرفَين إلى «تجنّب الخطوات التي لا تؤدّي إلّا إلى مفاقمة التوتّر». وفي ظلّ بلوغ عدد الشهداء الفلسطينيين نحو 64 منذ بداية العام الجاري، تبدو السلطة غير قادرة على اتّخاذ أيّ خطوة مضادّة لإسرائيل، لا بل إنها مستمرّة في «التنسيق الأمني» مع الأخيرة، على رغم إعلانها وقفها إيّاه عقب مجزرة جنين أواخر كانون الثاني الماضي. وبحسب موقع «واللا» العِبري، فإن محادثات «سرّية ومباشرة» دارت على مدار أكثر من شهر، سواءً من خلال لقاءات أو اتّصالات هاتفية، بين أمين سرّ «اللجنة التنفيذية لمنظّمة التحرير» حسين الشيخ، ورئيس «مجلس الأمن القومي» الإسرائيلي تساحي هنغبي، وأدّت إلى صياغة «التفاهمات» المفترَضة، والتي تمّ بموجبها سحْب مشروع القرار ضدّ المستوطنات من مجلس الأمن.
هكذا، تستمرّ واشنطن وتل أبيب في التعامل مع رام الله بوصفها مُقاول خدمات أمني، من دون أيّ مُقابل سياسي، أو حتى وعد بإعادة تحريك مسار المفاوضات، وهو ما تُدركه قيادة السلطة وتبدو راضيةً به ومستعدّة للقيام بمتطلّباته. وفي هذا الإطار، أفادت «القناة الـ14» الإسرائيلية بأن جزءاً من التفاهمات المذكورة يتمثّل في الموافقة على الخطّة الأميركية لإعادة سيطرة الأجهزة الأمنية الفلسطينية على جنين ونابلس، والمتضمِّنة خمسة بنود أوّلها تدريب قوّات خاصة فلسطينية مكوَّنة من 5 آلاف عنصر أمني في الأردن بإشراف أميركي، ومن ثمّ نقْلهم إلى شمال الضفة حيث سيعملون تحت إمرة غرفة عمليات لا تستثني مخيّمات اللاجئين، بهدف القضاء على خلايا المقاومة. أمّا البند الثاني فهو المشاركة الأميركية في «التنسيق الأمني»، من خلال ممثّلين كبار يَحضرون اجتماعات الطرفَين الإسرائيلي والفلسطيني، على أن يُرسل الأخيران تقارير منتظِمة إلى الأميركيين حول التقدّم في القضايا الأمنية العالقة. وينصّ البند الثالث على «تقليص نشاط الجيش الإسرائيلي» بالتزامن مع دخول القوّات الفلسطينية المُدرَّبة إلى جنين ونابلس، فيما الرابع يقتضي إشرافاً أميركياً على نقاط الاحتكاك خاصة في شمال الضفة وربّما جنوب الخليل، إضافة إلى مشاركة فِرق غربية في عمليات المراقبة. وبالنسبة إلى البند الأخير، فهو يدعو السلطة إلى التخلّي عن نهجها في التعامل مع المقاومين في المرحلة الماضية، حيث حاولت فتْح قنوات اتّصال معهم، وإقناعهم بالتخلّي عن المقاومة والانضمام إلى قوّات الأمن مقابل حوافز مالية.
بالنتيجة، تريد الولايات المتحدة تثبيت هويّة السلطة ودورها وفق ما آلت إليه في العقدَين الماضيَين، حتى لو أدّى ذلك إلى حرب أهلية فلسطينية، سيشعل شرارتها حتماً قرار رام الله الاصطدام بالمقاومين وحاضناتهم. على أن واشنطن لن تستطيع من خلال ترويض السلطة، التحكّم بديناميات الشارع الفلسطيني، الذي وصل غليانه إلى مستويات باتت أقرب إلى الانفجار ممّا كانت عليه في أيّ وقت مضى، فيما المقاومة في غزة ليست بعيدة عن خطّ الاشتباك أيضاً. وبحسب تقديرات مسؤولين رفيعي المستوى في المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية، فإن «المواد المشتعلة باتت جاهزة، وبخار الوقود منتشر في الهواء، ويكفي عود كبريت واحد لإشعال النار في المنطقة. ونحن نستعدّ لذلك في القدس وفي الجبهة الداخلية بشكل عام». والجدير ذكره، هنا، أن المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية رفعت، عقِب مجزرة نابلس، مستوى التأهّب في القدس والأراضي المحتلّة، بما يشمل تكثيف التشكيلات الأمنية خصوصاً في البلدات الواقعة على خطوط التماس والمدن المركزية، وتعزيز التشكيلات الموجودة في القدس الشرقية وعلى خطّ التماس الذي يضمّ سرايا احتياط وقوّات خاصة، في ظلّ شبه يقين إسرائيلي بأن الردّ الفلسطيني قد يقع في أيّ زمان ومكان.