في نظر العديد من خبراء الزلازل في سوريا، فإن زلزال السادس من شباط كان مُتوقَّعاً، وقد جرى التحذير منه قبل سنوات عدّة، وأحياناً قبل أشهر تقريباً من وقوع الكارثة. والدليل على ذلك ما قاله هؤلاء الخبراء عبر وسائل الإعلام المحلّية، بل ووجود وثائق خطّية تؤكّد ما ذهبوا إليه، وإنْ اعترفوا بأنه ليس ثمّة مَن هو قادر على تحديد تاريخ ومكان وقوع أيّ زلزال. وأثار استحضار كلام الخبراء اليوم سجالاً واسعاً، محوره تجاهُل الحكومات المتعاقبة مِثل تلك التحذيرات، والذي ظهرت نتائجه في ضعْف عملية الاستجابة الطارئة للكارثة.
تحذيرات كثيرة
يتذكّر رضوان سلو، وهو مدير عام سابق لشركة «تاميكو» الحكومية لإنتاج الأدوية، أنه في عام 1999، ألقى أحد خبراء الجيولوجيا في البلاد محاضرة في مكتبة الأسد، حذر فيها من وقوع زلزال كبير. ويضيف سلو أن رئيس الحكومة آنذاك، وبعد قراءته لِمَا نُشر عن المحاضرة، اتّصل به وسأله عن مخزون الشركة من الأدوية الضرورية، وذلك ضمن مجموعة إجراءات حكومية اتُّخذت آنذاك تحسّباً للزلزال، الذي وقع بالفعل في تركيا، وشعر به سكّان دمشق وخرجوا على إثره إلى الشوارع والساحات العامّة والحدائق.
وعلى مدار السنوات التالية، كان خبراء الجيولوجيا وطلّاب الدراسات العليا لا يستبعدون في محاضراتهم وأبحاثهم إمكانية تعرُّض البلاد لزلزال قوي، إلّا أن عام 2020 حمَل معه تنبيهَين مباشرَين لا لبس فيهما، جاءا في توقيت واحد (شهر نيسان)؛ الأول تَمثّل في تقرير وجّهه الدكتور قاهر أبو الجدايل، الاختصاصي في الفيزياء النووية والمفاعلات الذرية، إلى منظّمة «الهلال الأحمر السوري»، عقّب فيه على الهزات التي أصابت آنذاك الساحل السوري، نافياً «ما يُشاع من أن تلك الهزّات تساعد في امتصاص الطاقة الكامنة، باعتباره كلاماً غير علمي وليس دقيقاً، إذ إن هناك حاجة إلى زلزال بقوة 6 درجات تقريباً حتى يتفرّغ جزء من الطاقة الكامنة الزلزالية». وخلُص في تقريره، الذي حصلت «الأخبار» على نسخة منه، إلى «أن الهزّات العديدة بالقرب من السواحل السورية (آنذاك)، وفي زمن قريب، هي مجرّد هزات تحذيرية تُنذر بحدوث زلزال مدمّر لا سمح الله، وقد أصبحنا في دائرة الخطر الحقيقي، حيث تقع سوريا على الفالق الزلزالي الممتدّ من البحر الأحمر جنوباً إلى جبال طوروس شمالاً»، محذراً من أن «الخطر الحقيقي يكمن في الأبنية القديمة وغير المجهّزة للزلازل وتلك المخالِفة والعشوائية».
أمّا التحذير الثاني، فقد أطلقه الدكتور نضال جوني، وكان يشغل آنذاك منصب رئيس قسم الزلازل في «المعهد العالي للبحوث والدراسات الزلزالية» في جامعة دمشق، إذ قال عبر لقاء مع إذاعة «شام إف إم» المحلّية: «إن حدوث زلزال قوي أمر وارد، وقد يكون مدمّراً كون المنشآت لدينا غير مقاومة للزلازل، إنّما لا يمكن التنبؤ بموعده أو شدّته»، مضيفاً أن الهزّات التي كانت تَحدث آنذاك «مؤشّر إلى وقوع زلزال قد تكون شدّته بين 6 و7 درجات»، مشدّداً على ضرورة «أخْذ إجراءات الحيطة والحذر، والاستعداد للزلزال في حال وقوعه». أكثر من ذلك؛ ثمّة بحث أعدّتْه طالبة جامعية قبل ثلاث سنوات لنيل درجة الدكتوراه، أشارت نتائجه إلى وجود خطر زلزالي يتهدّد وسط مدينة جبلة القديم، وذكرت بناء الريحاوي بالاسم، علماً أن انهيار هذا البناء بفعل الزلزال الأخير، تَسبّب بوفاة حوالى 20 شخصاً.
بين توقُّع حدوث زلزال، وتحديد مكان وتاريخ حدوثه، يتمايز علم الزلازل عن التكهّنات المتّصلة بما يسمّى «حركة الكواكب»


ماذا يمكن فِعله؟
بين توقُّع حدوث زلزال، وتحديد مكان وتاريخ حدوثه، يتمايز علم الزلازل عن التكهّنات المتّصلة بما يسمّى «حركة الكواكب» ونبوءات العرّافين والمنجّمين. هنا، يجزم جوني أنه «لم يكن هناك تنبّؤ علمي قبل حدوث الزلزال، بمعنى تحديد مكانه وزمن حدوثه والشدّة التي ستَصدر عنه. أمّا التوقع بإمكانية حدوث زلزال كبير، بناءً على دراسات إحصائية واحتمالية من خلال الزلازل التاريخية التي حدثت في منطقتنا، في بلاد الشام وسوريا خصوصاً، فهو ممكن». ويضيف، في حديث إلى «الأخبار»، أن «الادّعاءات التي راجت قبل حدوث زلزال غازي عنتاب، هي محض صدفة، إذا كان فعلاً قد تمّ التنبّؤ بالزلزال على أساس تحديد الموقع والزمن والقدْر. أمّا من الناحية العلمية، فإنه يمكن رصْد نشاط الصفائح من خلال التسجيلات ضمن شبكات رصْد الزلازل في المناطق الخطرة ومراقبة ذلك، وإعطاء إنذار مبكر كما حدث مرّات عدّة في اليابان».
وبتفصيل أكثر، يحدّد أبو الجدايل أربعة عناصر أساسية يعتمد عليها خبراء الزلازل في توقّعاتهم، وهي «الدراسة الدقيقة لتاريخ الزلازل وأرشيفها ومدى قوّتها وسلوكها وحجم الدمار الذي أحدثتْه، المراقبة الشديدة للتربة والقشرة الأرضية الخارجية ومناطق التصدّعات الموجودة والواضحة، قياس الهزّات التي تَحدث على النطاق الجغرافي والزمني والعددي ومقدار القوّة، حساب الطاقة المتراكمة خلال مئات السنين، والتي تَنتج من ثلاثة أنواع من الحركات التكتونية: التصادمي، التباعدي، الانزلاقي؛ إذ إن قوّة الطاقة الزلزالية تتناسب طرداً مع مرور الزمن». وبناءً على دراسة تلك العناصر، فإن معظم توقّعات أساتذة الجيولوجيا كانت لا تستبعد تعرُّض البلاد لزلزال بشدّة قوية، لا بل تؤكد أنه قادم لا محالة. وللأسف هذا ما حدث. فما الذي كان يمكن فِعله من قِبل المؤسّسات الحكومية على مدار السنوات السابقة للتخفيف من حجم الخسائر البشرية والمادّية؟
في واقع الأمر، لا يمكن تحميل تلك المؤسّسات كامل المسؤولية، إنما أيضاً لا تمكن تبرئة ساحتها، لا سيما لجهة مخالفات البناء والتساهل في تطبيق «كود» البناء المقاوم للزلازل، وتجهيز فِرق الدفاع المدني للتعامل مع مِثل هذه الكوارث. فالمسألة، بحسب جوني، تبدو «شائكة؛ حيث إن عمليات الإخلاء كانت ستكون صعبة، وخاصة مع عدم معرفة المجال الذي سيوثّر فيه الزلزال المفترَض، لكن من المهمّ جدّاً اليوم تصنيف المناطق في المدن والقرى وتحديد الخطر الزلزالي فيها، وبالتالي تحذير الناس وإعطاء التعليمات والتوجيهات بإجراءات التدعيم اللازمة، وتدريبهم على عمليات الإخلاء السريع من المنازل». ويَلفت إلى أن «هناك تجارب متطوّرة في بعض البُلدان التي تقع في مناطق خطر زلزالي، من حيث شبكات التسجيل والدراسات والكفاءات العلمية كما في اليابان والصين. وعند التنبّؤ بحدوث زلزال، وهذا أمر نادر وفي منطقة محدودة، كان يتمّ تحذير الناس والقيام بعمليات إخلاء، لكن الصعوبة تَكمن في أن التنبّؤ يكون غالباً قبل فترة قصيرة وليست كبيرة».
وإلى جانب التشدّد في تطبيق معايير البناء التي اعتمدتْها نقابة المهندسين عام 2000، فإن «أبو الجدايل» طالب، في تحذيره الخطّي قبل ثلاث سنوات، بـ«إنشاء مراكز خاصة لمراقبة سلوك القشرة الأرضية والمتغيّرات التي تلاحَظ في مناطق الصدوع ومراكز أخرى، للتعامل مع آثار الزلازل ومتطلّبات الإنقاذ من آليات ومعدّات ثقيلة وخفيفة وخِيم وأدوية وأغطية ومصادر مياه جاهزة احتياطية». وهو اليوم يعود إلى المطالبة بتوفير «المعدّات والآلات الثقيلة والخفيفة، وإنْ كانت تحتاج إلى تمويل ليس بالقليل، فنحن في سوريا ليست لدينا بنية تحتية في هذا الجانب».