رام الله | يوم آخر مليء بالمفارقات عاشه الفلسطينيون، بدأ فجراً في مخيم جنين الذي خاض مرّة أخرى معركة شرسة مع قوات الاحتلال التي اقتحمت المخيم بأكثر من 70 آلية عسكرية، ما أدّى إلى استشهاد مواطنَين اثنين. استشهادٌ قابله الحزن الكبير الذي استثارته فرحةُ الإفراج عن الأسير ماهر يونس من الداخل المحتل بعد 40 عاماً قضاها في السجون، على رغم محاولات العدو تنغيص تلك الفرحة بفرض قيود عليها، بينما انشغلت السلطة الفلسطينية باستقبال مستشار الأمن القومي الأميركي، جاك سوليفان، بعد ساعات من تعهّد إدارة جو بايدن بعدم التراجع عن اعتراف سلفها بالقدس «عاصمة» لإسرائيل، وإعلانها إبقاء سفارتها في المدينة المحتلّة. وشهد مخيّم جنين الذي أشعل مرحلة الاشتباك مع الاحتلال في الضفة منذ قرابة عام، مع الفجر، معركة شرسة استمرّت لساعات، اغتيل فيها القيادي في «كتيبة جنين» أدهم جبارين، والمدرّس جواد بواقنة أثناء محاولته إنقاذه وتقديم العلاج له بعد إصابته. لكن العملية العسكرية التي شاركت فيها عشرات الآليات العسكرية والوحدات الخاصة، فشلت في تحقيق هدفها الرئيس المتمثّل في اعتقال القيادي في «الجهاد الإسلامي»، خالد أبو زينة. واعترف جيش الاحتلال بإصابة جنديَّين بجروح خلال عملية الاقتحام، جرّاء انفجار عبوة ناسفة أُلقيت مباشرة على جيب عسكري.ولا ينفصل الاشتباك الذي شهدته مدينة جنين عن الاشتباكات التي وقعت مساء الأربعاء في مدينة نابلس، إثر تصدّي المقاومين لقوات الاحتلال ومئات المستوطِنين أثناء اقتحامهم قبر يوسف. وشارك في المواجهات عشرات المقاومين من مدينتَي جنين ونابلس ومخيّماتهما، وكان أحدهم الشهيد أدهم جبارين، ما يعكس حالة التنسيق بين خلايا المقاومة في المنطقتَين ومن الفصائل كافة. وعزّزت تسجيل هذه المواجهات خلال ساعات قليلة، جملة حقائق على الأرض، أولاها أن المقاومة المسلّحة ترسّخت بصورة باتت معها ربّما عصيّة على الاجتثاث، وثانيتها أن التقديرات الأمنية والاستخبارية الإسرائيلية حول تنامي قدرة المقاومة على التصدّي لقوات الاحتلال، وتحوّل اقتحام المناطق الفلسطينية إلى مغامرة غير محسوبة النتائج، إنما هي صائبة إلى حدّ بعيد. وقالت صحيفة «يديعوت أحرونوت»، تعقيباً على ذلك، إن «الضفة الغربية برميل متفجر، يحاول الجيش الإسرائيلي منذ 10 أشهر باستخدام قوات كبيرة منْع هذا الانفجار». وتابعت: «لم يكن عبثاً أن يقوم رئيس أركان الجيش الجديد، هرتسي هاليفي، في أوّل يوم له، بزيارة مقرّ الجيش في الضفة، على رغم التهديد الإيراني، وحزب الله من الشمال، وحماس من الجنوب، إذ إنه يعرف جيداً أن الضفة وخاصة شمالها هي الساحة المتفجّرة»، مضيفةً إن «الثمن الذي يدفعه الجيش باهظ جداً، حيث تمّ إلحاق ضرر كبير بتدريبات وحداته، ما أثر على كفاءتها»، معتبرةً أنه «يتعيّن على هاليفي أن يقرّر خلال الأشهر المقبلة إلى متى ستستمرّ عملية "كاسر الأمواج" وكيفية عملها في هذه المنطقة المعقّدة». وأشارت الصحيفة إلى أن «العمليات في الضفة تتزايد، وما يثير القلق أكثر هو الهجمات الفردية التي يصعب إحباطها كما يجري في عمليات منسّقة من قِبل البنية التحتية التنظيمية»، لافتة إلى أن «زيادة هذه الهجمات تعني وقوع الكثير من القتلى واحتمال التسبّب بموجة عمليات أكبر».
لا ينفصل الاشتباك الذي شهدته مدينة جنين عن الاشتباكات التي وقعت مساء الأربعاء في مدينة نابلس


ذلك التحليل يدعمه الواقع بالفعل، في ظلّ استمرار العمليات أو محاولات العمليات الفدائية وتحديداً الفردية. فقد أعلنت شرطة الاحتلال، أمس، «اعتقال شخصين من دون تصاريح، كانا يعتزمان تنفيذ عملية قرب السوق في مدينة نتانيا»، بينما ذكرت صحيفة «هآرتس» أن هاليفي «لم يسمع تقييمات متفائلة من قيادة المنطقة الوسطى للجيش ومن شعبة الاستخبارات العسكرية ومن الشاباك». وبحسب أجهزة الأمن الإسرائيلية، فإن موجة الهجمات المسلّحة الفلسطينية، التي بدأت في آذار الماضي، لم تتراجع، والإنذارات حول تخطيط فلسطينيين لعمليات ما زالت مرتفعة، فيما شرارة تصعيد آخر يمكن أن تنطلق من المسجد الأقصى، وخاصة في شهر رمضان المقبل. والجدير ذكره، هنا، أن المنظومة الأمنية للاحتلال رفعت مستوى التأهّب في منطقة غلاف غزة، في أعقاب أحداث جنين.
سياسياً، لم تغادر السلطة الفلسطينية مركب العجز الذي تقوده، والذي تتقاذفه جرائم الاحتلال من قتل للفلسطينيين، واستمرار لاقتحام المدن والبلدات، وتقويض لحجم السلطة ودورها، من دون قدرة الأخيرة على المسّ بعلاقتها مع إسرائيل، ووقف «تنسيقها الأمني» معها، هو ما يعبّر عن حالة ضعف لم ترحمها حتى الإدارة الأميركية التي أكدت التزامها بإبقاء موقع سفارة بلادها في مدينة القدس المحتلّة، واعترافها بالأخيرة «عاصمة» لإسرائيل. على أن تصاعد المقاومة في الضفة، واحتمال تدحرج الأوضاع هناك، هو ما يقلق واشنطن التي لا ترغب في تصعيد من هذا النوع في ظلّ انشغالها بالعديد من الملفّات الدولية الملتهبة. ولذا، قال المتحدث باسم الخارجية الأميركية، نيد برايس، في مؤتمر صحافي عَقده مساء الأربعاء: «نحن قلقون جدّاً من الموقف في الضفة الغربية»، لافتاً إلى أن «هناك زيادة حادّة في عدد قتلى وجرحى الفلسطينيين والإسرائيليين». وضمن الحراك الأميركي في المنطقة عقب تشكيل حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية، وفي إطار حرص إدارة جو بايدن على إبقاء الأوضاع على ما هي عليه، وصل مستشار الأمن القومي الأميركي، جيك سوليفان، إلى رام الله بعد ظهر أمس، للاجتماع مع الرئيس محمود عباس والقيادة الفلسطينية. وقال حسين الشيخ، أمين سر |اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير»، إن عباس أبلغ الإدارة أن القيادة الفلسطينية تتدارس الآن اتّخاذ جملة من الإجراءات ردّاً على التصعيد الإسرائيلي، وطلب منها «بذل كل الجهود لتنفيذ القرارات الدولية ولجم الاحتلال عن جرائمه بحق شعبنا، وأن تأخذ دورها بشكل جدّي وليس من خلال التصريحات». ورأى نائب رئيس حركة «فتح»، محمود العالول، من جهته، أن «استمرار جرائم الاحتلال بحق أبناء شعبنا، وآخرها إعدام مواطنَين في مخيم جنين، يؤكد أنه لم يَعد مقبولاً أن يستمرّ الوضع الراهن على ما هو عليه، في ظلّ حكومة الاحتلال الأكثر تطرّفاً»، لافتاً إلى أن «عدداً من السيناريوات يجري نقاشها داخل أطر القيادة لتحديد كيفية التعاطي مع الوضع القائم»، مضيفاً إن «العالم لم يُبقِ لنا سوى خيار واحد وهو مواجهة هذا التحدّي ومقاومته».