رام الله | السرطان والإهمال الطبّي المتعمّد؛ هذان هُما عنصرا الوصْفة «الأمثل» التي يبدو أن سلطات الاحتلال توصّلت إليها لقتل الأسرى الفلسطينيين في سجونها، ببطء وبعذاب شديدَين، وأمام مرأى العالم. ولم يكن ناصر أبو حميد، الذي ارتقى فجر الثلاثاء، الأسير الأوّل الذي يستشهد نتيجة تلك الوصفة، كما لن يكون الأخير نظراً إلى وجود قُرابة 24 أسيراً داخل سجون العدو يعانون مرض السرطان بمختلف أنواعه، بعضهم معتقَل منذ 15 عاماً، فيما قد يستشهد أحدهم في أيّ لحظة. وقضى ناصر نحبه بعد مسار طويل من المماطلة المتعمَّدة في متابعته صحّياً، كما العشرات من شهداء الحركة الأسيرة الذين تعرّضوا لجريمة الإهمال الطبّي. وكان أبرز ما تَعرّض له أبو حميد التشخيص المتأخّر بالسرطان، على رغم الأعراض الصحّية الخطيرة التي ظهرت عليه حين كان يقبع في سجن عسقلان قبل شهر آب من العام الماضي، حين أُعلنت إصابته بسرطان الرئة. وعلى إثر ذلك، استمرّ الاحتلال في اعتقاله في ما تُسمّى «عيادة سجن الرملة» حتى عند بلوغه مرحلة حرجة، علماً أن «الرملة» دائماً ما شكّلت محطّة أخيرة للعديد من شهداء الحركة الأسيرة. وعلى مدار الأشهر الماضية، فشلت جميع المحاولات القانونية لانتزاع حرية ناصر، بعدما رفض العدو عبر عدّة جلسات محاكَمة عُقدت من أجله، طلبَ الإفراج المبكر عنه. وكان الشهيد رَفض مقترحاً تَقدّم به محاميه، ينصّ على طلبه «عفواً» من رئيس حكومة الاحتلال في سبيل الإفراج عنه، تمسّكاً منه بالحقّ في الاستمرار في مقاومة الاحتلال، واحتراماً لمسيرة الشهداء ورفاقه الأسرى.
وتتعمّد سلطات الاحتلال تجاهُل إجراء الفحوصات الطبّية اللازمة للأسرى الذين تَظهر عليهم بعض الأعراض، ما يسمح لمرض السرطان بالتفشّي في أجسادهم. كما ترفض تقديم العلاج المناسب لحالتهم الصحّية، وتكتفي بمنْحهم المسكّنات فقط، الأمر الذي يضعهم على حافّة الموت. ويُعتبر مرض السرطان السبب الأوّل لاستشهاد الأسرى الذين سقطوا نتيجة الإهمال الطبي المتعمَّد، وكان آخرهم الأسير الشهيد ميسرة أبو حمدية الذي عانى من هذا المرض لسنوات من دون أن يقدَّم له علاج مناسب، ورفَض الاحتلال إطلاق سراحه حتى استشهاده، وكذلك الأسير الشهيد بسام السايح، الذي كان يعاني من سرطان في الدم والكبد، وأصيب بقصور حادّ في صمامات القلب، والأسير الشهيد سامي أبو دياك. واستشهد في الأعوام الماضية القليلة، قرابة 6 أسرى أصيبوا بالسرطان وتعرّضوا للقتل البطيء، وهم:
1- الشهيد ميسرة أبو حمدية، الذي ارتقى عام 2013
2- الشهيد حسن الترابي الذي قضى عام 2013
3- الشهيد بسام السايح الذي ارتقى عام 2019
4- الشهيد سامي أبو دياك الذي رحل عام 2019
5- الشهيد كمال أبو وعر الذي قضى عام 2020
6- والشهيد ناصر أبو حميد أخيراً.
وشهدت السنوات الماضية تزايداً في حالات الإصابة بالأورام في صفوف الأسرى، حيث سُجّلت حالات جديدة، من بينها جمال عمرو، موسى صوفان، عاصف الرفاعي، عبد الباسط معطان، وعلي الحروب، وهؤلاء هم من بين 24 أسيراً مصابين بالأورام بدرجات مختلفة. وكان آخر من اكتُشف لديهم السرطان، وليد دقة من الداخل المحتل؛ فبعد سنوات من المماطلة والإهمال للأعراض التي عاناها دقة، جرى تشخيص إصابته بمرض التليّف النقوي، وهو نوع نادر من السرطان يصيب العظم، ويحتاج إلى علاج دوائي وليس كيماوياً، وفي حال فشله فسيكون بحاجة إلى زراعة نخاع. وسبق ذلك طروء تدهور خطير على صحّة وليد الذي كان يُحتجز في سجن «عسقلان»، ليُنقل إلى مستشفى «برزلاي» الإسرائيلي، وتُشخَّص إصابته، بعد فحوص طبّية خضع لها، بسرطان الدم، وهو ما تَبيّن عدم صحّته لاحقاً. وعانى دقة، منذ سنوات، مشكلات في الدّم، ولم تُشخَّص في حينها على أنها سرطان، ومنذ نحو عامَين كان من المفترض أن يخضع لفحوص دورية للدم، إلّا أن إدارة السّجون ماطلت في إجرائها له. ‏
شهدت السنوات الماضية تزايداً في حالات الإصابة بالأورام في صفوف الأسرى


وأكد «نادي الأسير»، في بيان، أن «نحو 600 أسير مريض في سجون الاحتلال ممَّن تمّ تشخيصهم على مدار السنوات الماضية، يواجهون أوضاعاً صحّية صعبة، بينهم نحو 200 يعانون أمراضاً مزمِنة»، محتمِلاً أيضاً وجود «عشرات المرضى الذين لم يتمّ تشخيصهم، حيث تُشكّل سياسة الإهمال الطبّي (القتل البطيء) أخطر السياسات التي تنتهجها إدارة سجون الاحتلال بحقّ الأسرى، لِما تحتويه من أدوات تستهدفهم جسدياً ونفسياً». وأشار النادي إلى أن «غالبية من أُصيبوا بالسرطان والأورام، واجهوا ظروفاً اعتقالية مشابهة، إذ تعرّضوا لعمليات تحقيق قاسية، ومنهم من تعرّض لإصابات برصاص الاحتلال قبل الاعتقال، أو أثناء اعتقاله، واحتُجز في العزل الانفرادي لسنوات، أو في سجون تُعتبر الأسوأ من حيث الظروف البيئية»، مضيفاً أنه «من الملاحظ أن غالبيّتهم احتُجزوا لفترات طويلة في سجون الجنوب (النقب، وعسقلان، ونفحة، وإيشل)، عدا عن أن معظمهم من الأسرى القدامى الذين تجاوزت فترة اعتقالهم 20 عاماً وأكثر».
ولا تقتصر سياسة الإهمال الطبّي على الأسرى في سجون الاحتلال فقط، وإنّما تُرافق أيضاً الأسرى المحرَّرين، الذين استشهد المئات منهم نتيجة لأمراض ورثوها من الأسر. وكان من بين مَن ارتقوا خلال السنوات القليلة الماضية، نتيجة إصابتهم بالسرطان وتعرّضهم لجريمة الإهمال المتعمَّد، الشهداء زكريا عيسى، وحسين مسالمة، وإيهاب زيد الكيلاني. وارتفع عدد شهداء الحركة الأسيرة باستشهاد أبو حميد إلى 233 منذ عام 1967، منهم 74 نتيجة للقتل البطيء، وكان من بينهم هذا العام بالإضافة إلى ناصر، الأسيرة سعدية فرج الله التي استُشهدت كذلك جرّاء تلك السياسات. ويبلغ عدد الأسرى في سجون العدو اليوم نحو 4700، من بينهم نحو 150 طفلاً، و33 أسيرة، فيما ثمّة 10 أسرى شهداء محتجَزة جثامينهم، وهم: أنيس دولة الذي قضى في سجن عسقلان عام 1980، وعزيز عويسات الذي ارتقى عام 2018، وفارس بارود، ونصار طقاطقة، وبسام السايح، وثلاثتهم استُشهدوا عام 2019، وسعدي الغرابلي وكمال أبو وعر اللذان قضيا عام 2020، وسامي العمور الذي استُشهد عام 2021، والأسير داوود الزبيدي الذي ارتقى العام الجاري، ومحمد ماهر تركمان الذي قضى أيضاً عام 2022 في مستشفيات الاحتلال.
ترجّل ناصر أبو حميد شهيداً وهو قيْد الأسر. ترجّل «الأسد المقنّع» كما يلقّبه الفلسطينيون منذ «انتفاضة الأقصى»، بسبب اشتباكاته الشرسة التي تشهد له بها شوارع وأزقة رام الله ومخيم الأمعري. ترجّل مقاوماً، لم يهادن، ولم يتراجع، ولم يسالم، ولم يطلب العفو من الاحتلال لكي يعيش آخر لحظاته مع عائلته. ترجّل وآخر كلماته لشعبه كانت: «أنا ذاهب إلى نهاية الطريق، ولكنّني مُطمئن وواثق بأنني أوّلاً فلسطيني وأنا أفتخر، وأترك خلفي شعباً عظيماً لن ينسى قضيتي وقضية الأسرى، وأنحني إجلالاً وإكباراً لكلّ أبناء شعبنا الفلسطينيّ الصابر»، مضيفاً: «أنا مش زعلان من نهاية الطريق، لأنه في نهاية الطريق أنا بودع شعب بطل عظيم، حتى ألتحق بقافلة شهداء فلسطين، وجزء كبير منهم هم رفاق دربي وأنا سعيد بلقائهم».