رام الله | ربّما كان يَلزم عملية «كاسر الأمواج» التي أطلقها جيش الاحتلال في الضفة الغربية منذ آذار الماضي، لمواجهة هجمات المقاومة وخلاياها الممتدّة من الشمال إلى الجنوب، حدثٌ على غِرار عملية «شعفاط» التي قُتلت فيها مجنّدة وأصيب اثنان آخران، لتتويج فشلها بشكل رسمي، في ظلّ تمدُّد الاشتباك وانتقاله من شمال الضفة الغربية التي استهدفتها العملية الصهيونية، إلى بقيّة المدن والمناطق. وإذا كان العدو قد أطلق «كاسر الأمواج» ظنّاً منه أنه يستطيع إخماد نار المقاومة في الشمال، ووقْف العمليات الفدائية، وإنهاء المجموعات العسكرية، إلّا أنه وجد نفسه بعد 7 أشهر أمام «تسونامي» من أمواج المقاومة في كلّ الضفة، بدءاً من الحجر والمواجهات الشعبية، وصولاً إلى الاشتباك بالرصاص من نقطة صفر، وما عملية شعفاط إلّا تجسيد واضح لذلك. وتُعدّ هذه العملية نوعية بمقاييس مختلفة، إذ أصابت الرصاصات الثماني التي أطلقها منفّذها، من مِسافة صفر على رؤوس الجنود المدجّجين بالسلاح، ومن ثمّ تمكُّنه من الانسحاب من المكان بسلام، أكثر من هدف في الوقت نفسه، أوّلها أنها اخترقت أكثر قلاع جيش الاحتلال الأمنية تحصيناً، وضربت الأمن الصهيوني في مقْتل، وأثبتت أن تأهّب العدو المستمرّ لن يحول دون وصول المنفّذين إلى أهدافهم.
(نهاد علم الدين)

ومن هنا، فقد شكّلت العملية فضيحة لقوات الاحتلال، تلقّت على إثرها الأخيرة انتقادات داخلية، على خلفيّة عجز العشرات من جنودها عن مواجهة شابّ واحد أطلق النار عليهم من نقطة صفر، وانسحب من المكان المحصّن بالأبراج العسكرية إثْر خلل طرأ على سلاحه من دون أن يتعرّض لرصاصة واحدة، بل إن بعض الجنود اختبؤوا في دوريات عسكرية في المكان خلال الحدث. وإلى جانب الصفعات العديدة للأمن الإسرائيلي، أثبتت العملية، مرّة جديدة، جدوى المقاومة ونجاعتها، وأفْهمت العدو أن استمرار جرائمه في الضفة، ومن بينها قتْل 4 فتيان في غضون 24 ساعة، والاعتداء على المرابطات والمرابطين في القدس والمسجد الأقصى، لا يمكن أن يمرّ من دون ردّ، وأن المقاومة تستطيع دائماً إيجاد طُرق للثأر، وهي التي تختار المكان والتوقيت المناسبَين، فيما لا يمكن للاحتلال وأجهزته الاستخبارية أن يتنبّأ بنواياها أو أن يعرف وُجهتها في اختيار الأهداف.
على المقلب الفلسطيني، أدّى الهجوم إلى تزخيم التأييد الشعبي للمقاومة، وهو ما تجلّى في الاحتفال به في مخيّم شعفاط من خلال إطلاق الألعاب النارية، وتوزيع الحلوى في شوارع جنين ونابلس. وممّا عزّز هذا التفاعل، أن الهجوم جاء تتويجاً لحالة نضالية ثورية عمّت أخيراً قرى الضفة وبلداتها بأشكالها المختلفة، وكسرت بحجارتها وعبواتها الحارقة ورصاصها حالة الردع الصهيونية، وأنبأت مسبقاً بفشل أيّ عملية عسكرية واسعة تلوّح المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية بشنّها في شمال الضفة، في ظلّ تمدّد حالة الاشتباك، والتقديرات الأمنية والإنذارات الساخنة بإمكانية تنفيذ المقاومة مزيداً من العمليات. وولّد هذا الواقع، في المقابل، حالة تخبّط لدى الأوساط الصهيونية؛ ففي الوقت الذي يهدّد فيه وزير الأمن الداخلي باقتراب تنفيذ عملية عسكرية واسعة شماليّ الضفة، قائلاً: «لا يوجد شكّ في أن الأحداث التي تقع في الأسابيع الأخيرة، هي بزخم كبير، نحن نبذل جهودنا، لكن إذا لم يكن كافياً سنضطرّ إلى شنّ عملية واسعة شماليّ الضفة الغربية»، فإن بعض المحلّلين العسكريين، مثل رون بن يشاي في صحيفة «يديعوت أحرونوت»، يرون أن شَنّ «عملية من هذا النوع سيضمّ بقيّة المجتمع الفلسطيني إلى المقاومة، وسيحوّل سلسلة العمليات الحالية إلى انتفاضة، ولذلك فان الحلّ يكون بمزيد من الحصار والإغلاقات، وقليل من الاعتقالات»، علماً أن جيش الاحتلال يمارس سياسة الحصار والإغلاقات على المدن والقرى بالفعل، بما يشمل منطقتَي شعفاط وعناتا، إلّا أن ذلك لم يَحُل دون وقوع المواجهات وتَوسّعها.
وتنشر إسرائيل مئات الحواجز العسكرية بين المدن والقرى والبلدات في الضفة، حيث يمارس جنود الاحتلال إرهابهم بحق الفلسطينيين، سواءً من خلال إذلالهم المتعمَّد للمواطنين وعرقلتهم تحرّكاتهم واحتجازهم لساعات، أو إطلاق النار عليهم في مناسبات كثيرة. وقد تحوّلت هذه الحواجز، التي تُعدّ إحدى أبرز صور الاحتلال البشعة ونظامه العنصري في الضفة، مع مرور الوقت، إلى بوّابات لسجون كبيرة متمثّلة في كانتونات المدن والقرى، وحصون أمنية تنطلق منها قوات الاحتلال في اقتحامات المناطق الفلسطينية. ولذا، فهي باتت أحد أهمّ الأهداف التي تطالها يد المقاومين بشكل شبه يومي، وعلى رأسها حاجز الجلمة الذي يفصل مدينة جنين عن الداخل المحتلّ، والذي أضحى إحدى أكثر النقاط استهدافاً برصاص المقاومين وعبواتهم الناسفة، إذ لا يكاد يمرّ يوم من دون أن يتعرّض لعملية إطلاق نار. وشهد هذا الحاجز الذي تُصنّفه إسرائيل كـ«معبر»، وتَستخدمه كأداة ابتزاز للفلسطينيين بإغلاقه وفتحه بين حين وآخر منذ قيامه عام 1992، عدّة عمليات للمقاومة، كان آخرها منتصف أيلول حين نفّذ الشهيدان عبد الرحمن وأحمد عابد عملية نوعية داخله قُتل خلالها ضابط إسرائيلي. كذلك، استشهد، عند «الجلمة»، عشرات الشبّان، سواءً خلال مواجهات مع قوات الاحتلال أو أثناء محاولتهم تنفيذ عمليات إطلاق نار أو طعن أو إلقاء عبوات ناسفة محلّية الصنع (تُسمى أكواع) أو غيرها من أشكال المقاومة. ولا يختلف حال «الجلمة» عن حال حاجز شعفاط الذي استُهدف أخيراً، علماً أن جيش الاحتلال نصبه بشكل مؤقّت مع بداية الانتفاضة الثانية من خلال دوريات عسكرية، لكن بناء جدار الفصل العنصري عاد وثبّته بشكل دائم، لتُطلق عليه سلطات العدو في عام 2009، تسمية «معبر دولي»، مع العمل على توسيعه وبناء غرف تفتيش وتخصيص مسارات للمركبات وأبراج مراقبة وبوّابات إلكترونية عليه.
قام جيش العدو، خلال السنوات الماضية، بتطوير الحواجز وتزويدها بأحدث التقنيات العسكرية والتكنولوجية


وعلى رغم أن الحواجز كانت خلال الانتفاضة الثانية بسيطة نوعاً ما وبدائية، وهادفة بشكل أساسي إلى عرقلة تنقُّل الفلسطينيين بين المدن واعتقال الشبان، قام جيش العدو، خلال السنوات الماضية، بتطويرها وتزويدها بأحدث التقنيات العسكرية والتكنولوجية وكاميرات المراقبة، كما وتحصينها بأبراج المراقبة. ولذا، فإن العمليات الفدائية على تلك الحواجز تترك وقْعاً كبيراً وتأثيراً مدوّياً على معنويات جنود الاحتلال والفلسطينيين على حدّ سواء، كونها تستهدف قلاع الجيش وحصونه التي يظنّ أنها آمنة. وليس نجاح المقاومة في توجيه ضربات مؤلمة للاحتلال على الحواجز العسكرية والشوارع الالتفافية والمشروع الاستيطاني، إلّا جزء من مشهد الاشتباك المتمدّد في الضفة والقدس وضواحيها، والذي تعاظَم بعد عملية شعفاط، سواءً بقوّته أو بحجم المشاركين فيه. وعلى خلفية ذلك، تُسابق إسرائيل الزمن لوقف كرة النار المتدحرجة في الضفة، فيما يبدو أن كلّ خياراتها العسكرية قد فشلت إلى الآن، وهو ما يدفعها إلى الإبقاء على حالة التأهّب الأمني في كلّ الضفة والقدس وعلى مناطق التماس، مع انتهاج سياسة العقاب الجماعي ونشر الحواجز العسكرية وتحويل المدن إلى كانتونات وسجون كبيرة.