الخرطوم | بالفم الملآن والعريض، أقرّ وأعلن عبد الفتاح البرهان أنه التقى بنيامين نتنياهو من موقع مسؤوليته في «حفظ الأمن الوطني وتحقيق مصالح الشعب السوداني». المطبّع الجديد ربط «بحث وتطوير العلاقات مع إسرائيل» بـ«المؤسسات المعنية» وبـ«الوثيقة الدستورية»، مستدركاً بالكذبة الدائمة عن تأكيد «الموقف من القضية الفلسطينية والحق في إنشاء دولة مستقلة»، في تكرار لكلام يصدف أن قالته السعودية قبل أيام!صار اللقاء السري، بين رئيس «مجلس السيادة» في السودان، الفريق عبد الفتاح البرهان، مع رئيس حكومة العدو الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في مدينة عنتيبي الأوغندية قبل يومين، معلناً بعدما تبنّاه البرهان باسم المجلس والحكومة والبلد، وذلك عقب اجتماع عقده «السيادي» مع الحكومة الانتقالية. هي نقطة فارقة في السياسة الخارجية المتشكلة حديثاً في أعقاب ثورة أطاحت عمر البشير لكنها تركت بقايا نظامه، وكان الأجدى بمن قطف ثمارها أن يلبّوا تطلعات الناس بالسيادة والاستقلال والوقوف على خط بعيد من مشكلات المنطقة، وهو ما يتنافى مع المسارعة إلى إسرائيل بحجة أنها بوّابة لرضى الولايات المتحدة. هذا المشهد يفترض، وفق كثيرين، خلط أوراق القوى السياسية والشارع.
وعلمت «الأخبار» أنه رغم مسارعة الحكومة، عبر وزير الإعلام فيصل محمد صالح، إلى نفيها أي علم باللقاء بين البرهان ونتنياهو، فإن مصادر مطلعة في الطاقم السياسي كشفت عن أن بعض أعضاء «السيادي»، حتى من المكوّنين العسكري والمدني، كانوا على علم باللقاء، وكذلك رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، شخصياً، بل إنه وقف بنفسه على ترتيباته، مضيفة أن الجلسة تمت بترتيب من «الثلاثي الداعم للسودان حالياً، وهو الإمارات ومصر والسعودية». هذا المعطى تحديداً يضع الشارع في أزمة كبيرة، خاصة أن حمدوك «تعامل بدهاء مع ملف التطبيع» بعدما حصد شعبية عريضة في أدائه الداخلي، والآن يسهل عليه وعلى مؤيديه والحكومة ككل الترويج لفكرة أن ثمار التطبيع سوف تعود بالعافية على الاقتصاد، وذلك بإيفاء تل أبيب للتوسط لدى واشنطن من أجل إزالة العقوبات عن الخرطوم، وتخفيف الديون عنها، وعودة البلد إلى حضن منظمات التمويل الدولية.
هكذا، ظهر أن «الاجتماع الطارئ» أمس لم يكن سوى تغطية لفرض الأمر الواقع على الجميع، خاصة أنه دام لساعات طويلة، ومُنع الصحافيون الأجانب والعرب من متابعته. والآن، يعود العسكر إلى الواجهة ليتصدّروا موقفاً خطيراً، وهو ما يطرح سؤالاً حول رد الفعل من قوى «إعلان الحرية والتغيير» و«تجمع المهنيين» الذين قادوا الثورة، خاصة أن الردود حتى صدور بيان البرهان كانت مقتصرة على بضعة أحزاب. ومع ثبوت العلاقة الخاصة التي تربط رئيس «السيادي» بالرياض وأبو ظبي والقاهرة، ومسار التطبيع الذي كشف نتنياهو أحد حلقاته أمس بخطته عن «صفقة التطبيع» مع المغرب، يبدو واضحاً حضور هذه الدول، ومعها حكماً البحرين وعُمان وربما عواصم أخرى، في دفع السودان إلى هذا الاتجاه.
مصادر: السعودية والإمارات ومصر دفعتنا إلى هذا المسار


لذلك، يرى الثوار، كما يبدو من أجوائهم، أن الموضوع يتخطّى «التطبيع وخيانة فلسطين» إلى «انقلاب على ثورة ديسمبر» نفسها، مشبّهين سلوك البرهان بمسار عبد الفتاح السيسي قبل وصوله إلى كرسي الرئاسة في مصر. ويستدلون على ذلك بأن اللقاء السري وبحث البرهان التطبيع من دون نقاش مع الحكومة وحاضنتها السياسية، أي «الحرية والتغيير»، ما هو إلا «انقلاب كامل على الثورة والوثيقة الدستورية التي حددت مهام المجلس السيادي، التي ليس منها قطعاً إدارة العلاقات الخارجية التي صنفتها الوثيقة أنها ضمن مهام الجهاز التنفيذي، أي الحكومة». كما رأوا أن خروج الإسرائيليين ومبادرتهم إلى إعلان الأمر قبل الخرطوم تمهيد للانقلاب واستدعاء للمواجهة في البلد، مستغلين الوضع الاقتصادي المتأزم، وإخفاق حكومة حمدوك في إيجاد حلول له ولملفات أخرى مثل الفساد وإزالة بقايا النظام السابق، ما يعني بعبارة أخرى أنه لا حل مع الأميركيين إلا من بوابة الإسرائيليين.
يقول مصدر دبلوماسي لـ«الأخبار» إن لقاء البرهان ــــ نتنياهو «كان مفاجأة لكل الأروقة»، ويضيف: «يبدو أن البرهان لم يدفع ثمناً باهظاً كهذا من دون أن يتسلم الثمن في يده... اللقاء جاء في توقيت سيّئ إقليمياً ودولياً». ويستدرك المصدر: «هذا هو المكان الذي يقود إليه الاصطفاف مع السيسي والإمارات والسعودية... كل هؤلاء، وحتى قطر التي تعلن أنها تنوي دعمنا مالياً، يريدون إجماعاً عربياً على تصفية القضية الفلسطينية». وربطاً بذلك، قال مكتب نتنياهو إن السودان يسير في «اتجاه إيجابي جديد»، وإنه أطلع وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، على الموقف، مضيفاً: «البرهان يحاول المساعدة على تحديث بلاده من خلال إخراجها من عزلتها وإعادتها إلى الخريطة الدولية». كذلك نقلت قناة «كان» عن نتنياهو، أمس، قوله إن «تل أبيب حصلت على إذن من السودان للسماح للطائرات المدنية الإسرائيلية بالتحليق فوق أجوائه... تبقّى لتنفيذ هذه الخطوة بعض الأمور الفنية والتقنية».
في ردود الفعل، قال «الحزب الشيوعي»، في تصريح أمس، إن «تطبيع العلاقات مع إسرائيل طعن في تقاليد ونضالات الشعب السوداني ضد الإمبريالية والصهيونية وضد نضالات الشعب الفلسطيني في إقامة دولته»، مضيفاً: «موقفنا الثابت مع حق الشعب الفلسطيني في إقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس وعودة كافة اللاجئين مع كامل الحقوق الوطنية». كذلك، قال رئيس «حزب الأمة القومي»، الصادق المهدي، إن اللقاء «لن يحقق مصلحة وطنية أو عربية أو دولية»، مضيفاً: «ما تم لا يمثل مصلحة وطنية». كما نظم عدد من الشباب تظاهرة أمس في العاصمة أمام مجلس الوزراء للتنديد بالتطبيع مع إسرائيل. مع ذلك، لم تخلُ الساحة من مؤيدين، إذ قال رئيس حزب «الأمة الإصلاح والتجديد»، مبارك الفاضل المهدي، الذي جاهر بالدعوة إلى التطبيع، تباهى أمس برؤيته قائلاً: «كنت السياسي الذي أعلن قبل عامين أن التطبيع مع إسرائيل تقرره مصالح السودان أولاً... اللقاء جريء وشجاع ويمهد لرفع العقوبات الاقتصادية، كما يجب أن نستفيد من التقنيات الزراعية الإسرائيلية لإصلاح الاقتصاد الزراعي».