دخل الشمال السوري في خلال الأيام الماضية مرحلةً أشبه بـ«إعادة ترتيب الأوراق» فرضتها معطيات يتداخل فيها السياسي بالميداني. ورغم أنّ إعلان موسكو هدنات مفاجئة في حلب لم يعد أمراً جديداً، وأنّ هدنة الجمعة الموعودة تأخذ شكلاً أشبه بـ«فرصة أخيرة» أمام مسلحي الأحياء الشرقية للخروج منها قبل شنّ «هجوم كاسح»، تتزايد الأنباء حول اقتراب ساعته الصفر، غير أنّ توقيتها يجعل فرص نجاح هذا المسعى شبه منعدمة، ولا سيّما أنّها تأتي في خضم هجومٍ تواصل «جبهة فتح الشّام/ النصرة» وشركاؤها في «جيش الفتح» شنّه على القسم الغربي من المدينة، وإن انخفضت وتيرته. كذلك، يتزامن إعلان الهدنة مع إرسال أنقرة مزيداً من التعزيزات إلى الحدود، وصل آخرُها أمس إلى ولاية كلّيس. وإذا كان وصول هذه التعزيزات علنيّاً، فالأمر يبدو مختلفاً لدى الحديث عمّا تشهده بلدة أطمة الحدوديّة (داخل الأراضي السورية). وحصلت «الأخبار» على معلومات مؤكّدة تفيد بدخول شحنات جديدة من الأسلحة إلى البلدة الواقعة في أقصى الريف الشمالي لإدلب عبر معبر باب الهوى الحدودي. وبدا لافتاً أنّ دخول تلك الشحنات ترافق مع هبوط مروحيات تركية على مقربة من مخفر البلدة، ووفقاً لمصادر «الأخبار» فقد أقلّت الحوامات ضبّاطاً وصناديق نُقلت إلى المخفر. ويبدو مستغرباً استخدام الحوامات في ظل إمكانية الاقتصار على الطرق البرية المفتوحة بين الأراضي التركية والبلدة الواقعة تحت سيطرة «فيلق الشام» و«حركة أحرار الشام الإسلامية».
تعثّرت محاولات «جيش الفتح» في إحداث اختراق جديد في حلب
وليس من الواضح ما إذا كان الأمر يتعلّق بخصوصيّة الضباط المذكورين، أو أنّه يأتي في سياق رسائل عرض قوّة ترسلها أنقرة إلى دمشق التي هدّدت قبل فترة وجيزة بإسقاط أي طائرة تركيّة تخترق الأجواء السورية. وتُعَدّ أطمة منفذاً شديد الحيويّة في ما يتعلّق بمعارك حلب تحديداً، إذ تسلك الإمدادات طريقها بسلاسة عبر الدّانا (ريف إدلب الشرقي) إلى الأتارب الملاصقة لها في ريف حلب الغربي. يأتي ذلك في وقت تعثّرت فيه محاولات «جيش الفتح» في إحداث اختراق جديد مؤثّر على تخوم الأحياء الغربيّة لمدينة حلب. المسارات التي اختار «جيش الفتح» شنّ معركة حلب عبرها تفتح الباب أمام أسئلةٍ كثيرة، على رأسها علاقة الهجوم بهدف «فك الحصار عن أحياء حلب الشرقيّة» أساساً. وعلى سبيل المثال، كان من شأن التفكير في مهاجمة محور الكاستيلّو أو مزارع الملّاح بزخمٍ مماثل أن يؤدي وظيفةً أكبر فاعليةً في ما يتعلّق بـ«الطوق». ومن المرجّح أن خيار مهاجمة الأحياء السكنيّة الخاضعة لسيطرة الدولة السورية بشكل مباشر هدفَ إلى اللّعب على وتر «الصدمة» أملاً في تحقيق انقلاب جذري في موازين القوى في «عاصمة الشمال». ولعب الفشلُ في تحقيق هذا الهدف دوراً أساسيّاً في إرجاء المجموعات خطط شنّ أي هجوم من داخل الأحياء الشرقيّة نحو الطوق المفروض، لأنّ أي هجوم فاشل سيكون بمثابة انتحار حقيقي يستنفد المخازين القليلة من الأسلحة والذخائر. نجاح الجيش السوري في إبعاد مجموعات «جيش الفتح» عن أطراف حيّ حلب الجديدة (التي دخلت دائرة النار إبّان خروج محور «منيان – بنيامين» عن سيطرة الجيش) أسهمَ إلى حدّ كبير في امتصاص الفورة المعنوية التي استشعرتها «جبهة النصرة» وشركاؤها. ويمكن القول إن الاختراق الذي تحقّق على هذا المحور كان «أبرز إنجازات الفتح»، ما يُفسر حرص الجيش السوري وحلفائه على الزجّ بتعزيزات نوعيّة على هذا المحور تحديداً، فيما تختلف معطيات معارك محيط «أكاديمية الأسد العسكرية» نظراً إلى التمركز القوي للجيش وحلفائه في هذه المنطقة. في الوقت نفسه تشهد المناطق المحيطة بمدينة الباب (ريف حلب الشرقي) تغيّراً ملحوظاً في أداء القوّات التركية الغازية ومجموعات «درع الفرات» المحسوبة عليها. وبات من المسلّم به وجود ترابط وثيق بين معارك حلب الأخيرة ومعركة الباب المؤجّلة التي باتت أشبه بعقدةٍ تتجمّع عندها خيوط الشمال وتمنح الفائز فيها فرصة ترسيم شكل المنطقة بأكملها وفق رؤيته. وخلافاً لمعطيات جبهات مدينة حلب الواضحة، يبدو التباطؤ في تحرّك قوات «درع الفرات» نحو مدينة الباب ملفوفاً بعلامات استفهام كثيرة. ولا يمكن الربط بين هذا التباطؤ والوجود القوي لـ«قوات سوريا الديموقراطية» في الشمال، نظراً إلى أنّ طريق «درع الفرات» نحو الباب انطلاقاً من منطقة الراعي مفتوحٌ تماماً. وليس من المعلوم بعد مدى تأثير ما يدور سياسيّاً وراء الأبواب المغلقة على خطط أنقرة على هذا الصعيد، سواء في ذلك الاتصالات المستمرة على خط واشنطن – أنقرة، أو الحرارةُ الدائمة على خط موسكو – أنقرة، وهي حرارة لم تعد تقتصر على المسارات الدبلوماسية، بل تتعدّاها إلى مسارات أمنية وعسكرية. ويبرز من بين العوامل المحتملة في تعديل الخطط التركية على الأرض ما شهدته مناطق ريف حلب الشماليّة قبل أيّام عبر سيطرة الجيش السوري على مدرسة المشاة في المسلميّة وعدد من القرى المحيطة والمتاخمة للحدود الإداريّة لمنطقة الباب. وربّما لعبت هذه السيطرة دوراً في إعادة قراءة الميدان تركيّاً، ولا سيّما في ظل وجود مؤشّرات على تعاون بين الجيش السوري ومجموعات كرديّة في معارك مدرسة المشاة وما حولَها، ما يجعل الحاجة إلى استمرار وجود «داعش» في الوقت الراهن ضروريّة. وترى مصادر في «قوّات سوريا الديموقراطيّة» أنّ الأتراك «عادوا إلى أسلوبهم القديم المتمثّل في استخدام إرهابيي داعش كرأس حربة في المعارك المستعصية». ولعب الفشل الذي منيت به مجموعات «درع الفرات» في اختراق مناطق سيطرة «قسد» دوراً أساسيّاً في هذا التغيير، وفقاً للمصادر عينها. المصادر أشارت إلى أنّ مناطق سيطرة «قسد» قد تعرّضت يومي الاثنين والثلاثاء لـ«هجمات عنيفة شنّها تنظيم داعش، ترافقت بقصف المدفعيّة التركيّة على مناطق أخرى لخلق ضغط إضافيّ»، وقال ريزان حدّو «عضو مجلس سوريا الديموقراطيّة» لـ«الأخبار» إنّ «فصائل درع الفرات انسحبت من عدد من القرى لمصلحة داعش، تاركةً له كميّات وافرة من الأسلحة والذخائر».