بدا خلال اليومين الماضيين أنّ الاتفاق الروسي الأميركي حول سوريا لن يخرج عن كونه حبراً «سرّيّاً» على ورق. ولا يتعلّق الأمر بالهدنة الهشّة فحسب، بل يتجاوزها إلى البنود التي لم يُكشف عنها من الاتفاق العتيد. ويصلح الاعتداء الأميركي على قوّات الجيش السوري في جبل ثردة (دير الزور) ليكونَ مقدّمةً لتقويض الاتفاق، ونقل التفاهمات الروسيّة الأميركية حول الملف السوري بأكملها إلى الأدراج في انتظار إدارة أميركيّة جديدة لا يُتوقّع منها (جمهوريّةً كانت أو ديمقراطيّة) أن تسير على سكّة أوباما ــ كيري. جنرالات «البنتاغون» ربّما كانوا أكثر المتفائلين بإزاحة وشيكة لعبء الاتفاق عن كاهلهم، وهم الذين عطّلوا حتى الآن دخول التنسيق المشترك مع القوّات الروسيّة حيّز التنفيذ وفقاً لما نصّ عليه اتفاق لافروف – كيري الأخير (راجع «الأخبار»، العدد 2986). ولا يُعتبر التدخّل الجوي الأميركي لمصلحة تنظيم «داعش» الأوّل من نوعه، لكنّه الأكثر وضوحاً ومباشرة. وتتحدّث معلوماتٌ لم تُتداول إلا على نطاق ضيّق عن حادثة كانت قد وقعت في حزيران الماضي إبّان إطلاق الجيش السوري عملياتٍ عسكريّة نحو الرقّة حيث «حلّقت طائرات تابعةٌ للتحالف الدّولي فوق نقاط متقدّمة للجيش، ولصقور الصحراء»، في ما بدا أنّها رسائل أسهمت في فرملة العمليّة لاحقاً. ويحظى التوقيت الذي نفّذ فيه طيران «التحالف الدولي» بقيادة الولايات المتحدة اعتداءه الأخير بأهميّة ثنائيّة المنحى، يرتبط أوّلها بمعطيات الميدان في دير الزور. فعلى امتداد الشهرين الأخيرين كانت المحافظة المنسيّة في الحرب السوريّة قد شهدت تصاعداً في الرّفض العشائري لواقع هيمنة تنظيم «داعش». وأسهمت المجزرة التي كشف التنظيم المتطرّف عن ارتكابها في حق عدد من أبناء العشائر عبر إصدار «صناعة الوهم» في ترجمة هذا الرّفض على أرض الواقع عبر عمليّات «ثأر» طاولت عدداً من عناصر «داعش» ومن بينهم قادة. وتؤكّد معلومات متطابقة حصلت عليها «الأخبار» عبر مصادر عدّة أنّ التواصل قد تزايد خلال الأيّام الأخيرة بين جهات أمنيّة سوريّة وعدد من الوجوه العشائريّة الفاعلة في المنطقة، سعياً إلى بدء تحرّك منظّم يمهّد لقلب المعادلة في دير الزور. وكان من شأن نجاح هجوم «داعش» الأخير في السيطرة على مطار دير الزور أن يمهّد لمعادلة معاكسة تماماً عبر تمكين «داعش» من الاستيلاء على كامل المحافظة، وهو هدفٌ زاد الاعتداء الأميركي من فرص نجاحه قبل أن يعيد الجيش السوري الأمور إلى نصابها.
تزايد التواصل بين جهات سوريّة وعدد من الوجوه العشائريّة الفاعلة في دير الزور
أما الوجه الثاني لأهميّة توقيت الاعتداء فسياسيّ، ويرتبطُ بما قد يُفرزه من نعي للتفاهمات غير المرضيّ عنها على نطاق واسع داخل الإدارة الأميركيّة. وتبدو حظوظ الهدف الأخير في النجاح كبيرة بالنّظر إلى ما أفرزه الاعتداء من اشتباك كلاميّ مرتفع السقف بين عدد من المسؤولين الروس والأميركيين. وغادرت مندوبة الولايات المتحدّة لدى مجلس الأمن سامانثا باور مقعدها إثر انتقاد المندوب الروسي فيتالي تشوركين الاعتداءَ الأميركي خلال جلسة طارئة لمجلس الأمن دعت إليها موسكو، وهي دعوة وصفتها باور بـ«الأمر الغريب والمنافق». وقالت المندوبة في تصريحات صحافيّة إنّه «يتعيّن على روسيا في حقيقة الأمر التوقف عن أسلوب تسجيل النقاط الرخيصة والإبهار والإثارة والتركيز على ما يهم وهو تنفيذ شيء تفاوضنا عليه بنية صادقة معهم». وردّ المندوب الروسي بتصرّف مماثل، إذ غادر القاعة فور عودة باور إليها. وأوضح تشوركين للصحافيّين أنّ باور دخلت قاعة المشاورات بعدما أنهى مداخلته، وأعلنت أنها غير معنية بالاستماع إليه، وقال «في هذه الظروف لم أعد معنياً بالاستماع لاتهاماتها لنا بكل الخطايا فخرجت، لكن وفدنا بقي». ووصف تشوركين تصرّفات نظيرته بـ«الغريبة»، وقال «حين اجتمعنا للتشاور وعبرت عن قلقي لأعضاء المجلس، تبيّن أنها خرجت إلى الصحافة، ودون أن تسمعني راحت تنتقد وتشتم روسيا، وانتقدتنا حتى على دعوتنا للاجتماع». وردّاً على سؤال حول دور الاعتداء في تقويض اتفاق لافروف ــ كيري، قال تشوركين «هذه علامة استفهام كبيرة جدا. إذا كان ما فعلته السفيرة باور اليوم يمثل أي إشارة لردّ فعلهم المحتمل فإننا سنكون في مشكلة خطيرة وقتئذ». وسابقاً لذلك كانت المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا قد اتهمت البيت الأبيض بـ«الدفاع عن (تنظيم) الدولة الإسلاميّة»، فيما ردّت باور بأنّه ينبغي لزاخاروفا «أن تخجل من هذا الزّعم». وردّت زاخاروفا على الرد، داعية باور إلى زيارة سوريا، «لتعرف معنى الخجل».وكانت الولايات المتّحدة قد عطّلت في وقت سابق للاعتداء انعقاد جلسة لمجلس الأمن دعت إليها موسكو لبحث الاتفاق الروسي الأميركي. وقال مصدر دبلوماسي سوري لـ«الأخبار» إنّ «تعطيل الجلسة يندرج في إطار السلوكيّات الأميركيّة المتتالية للتهرّب من التزاماتها التي نصّ عليها الاتفاق مع موسكو». ورغم أنّ الهدنة التي أقرّها الاتفاق الروسي الأميركي أسهمت في انخفاض حدّة المعارك وتضييق رقعتها الجغرافيّة غير أنّها لم ترقَ إلى حجم التأثير المنشود منها. واندلعت في ظل الهدنة معارك عدّة في القنيطرة، وعلى أطراف دمشق، وحلب، وجميعها مناطق مشمولة بالاتفاق. وتحدّثت وزارة الدفاع الروسيّة عن زهاء مئتي خرق للهدنة منذ دخولها حيز التنفيذ قبل أقل من أسبوع. وأمس، حذّرت الوزارة الروسيّة من أنّ «الفصائل المسلحة تستخدم أيام الهدنة لإعادة تجميع قواها استعدادا لهجمات واسعة في حلب». وتُنذر هذه المعلومات بتكرار سيناريو مماثل واجه «اتفاق وقف الأعمال القتالية» الذي توافق عليه الروس والأميركيون في شباط الماضي، واستفادت منه المجموعات المسلّحة في ترميم قدراتها القتاليّة بعدما تلقّت إمدادات كبيرة من الأسلحة والمقاتلين. وعلاوة على الخروق المتتالية للهدنة الهشّة يبرز فشل إيصال المساعدات الانسانيّة إلى أحياء حلب الشرقيّة بوصفه انتكاسةً اخرى للاتفاق الأخير. وشهد ملف المساعدات تجاذباً كبيراً بين الأطراف المعنيّة، وأعلنت الأمم المتحدة أنّها «تشعر بالإحباط» إزاء تعثّر هذا الملف. وقال ديفيد سوانسون، المتحدث باسم الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في سوريا «للأسف، لم يكن هناك أي تقدم بسبب الاشتباكات المتقطعة وأحوال الطرق الخطرة (...) نحن محبطون جداً».