لو كنت هناك في غزة
لو كنت في غزة، تحت القصف داخل خيمة، أو في العراء، أو في منزل مقصوف، وجاءني خبر عن احتمال عقد هدنة قريبة، فماذا سأفعل، ماذا سأقول؟ ربما سأفرح، وربما سأرتاب، لكثرة ما جاء مثل هذا الخبر، وتبيّن أنه ليس كما وصل.
الجملة السابقة، متعبة في صياغتها، ومرهقة لفهمها مني، حين كتبتها. فليس سهلاً، أن يضع المرء نفسه مكان الناس في غزة. فهم فعلاً تحت وبين وبجوار وفوق الموت، هو حولهم، يلاحقهم، يبتر من أعمارهم. أما من يتصور نفسه مكانهم، ففي الغالب، يجرّب أن يشعر أكثر مما يشعر، أو أنه يحاول، تقريب شعور الناس هناك، إلى الناس خارج قطاع غزة. هناك من ينجح بنقل جانب من تلك الأحاسيس، من تلك الآلام والأوجاع، لكن ومهما بلغ أحدنا نجاحاً في نقل الصورة، لن يموت، ويعود ليخبرنا، ولن يُمزّق، كل طرف من أطرافه بمكان، وبعض عظامه، مفتّت في مكان، ورأسه ربما مهشّم، ويلملم أشلاءه ليخبرنا. لن يحدث هذا كله. لكنه يحدث للشعب الفلسطيني في قطاع غزة، هناك من شاهد كل ذلك، هناك من عاش كل ما سبق، وهناك من ماتوا، ولن يعودوا، لكن صورهم عالقة في عيون من رأوهم، وسمعوا أصواتهم قبل أن يغيبوا خلف الموت، الباقي في غزة وفلسطين، طالما بقيت آلة الحرب الإسرائيلية في فلسطين.
لو كنت في غزة، لربما ما كنت كتبت ما سبق. ربما كنت الآن أبحث عن ضحكة طفل، يضحك من فرح، لا من جوع أبكاه حتى أضحكه، فما عاد يُميّز الفرح من الحزن على شفتيه. ولربما كنت بحثت عن أصدقاء كثر أعرفهم، لكنني لا أعرف من منهم استشهد، ومن منهم جُرح، ومن منهم اعتُقل، ومن منهم خرج، ومن منهم ينزح من مكان إلى آخر. لو كنت هناك، لكنت اخترت زاوية واحدة لأستقبل فيها ذكريات الأصدقاء، أغنّي معهم، وأضحك معهم، وأبكي معهم، وأموت معهم. لو كنت هناك، لما كنت كتبت ما سبق.
لو كنت هناك، لكنت تعلمت كتابة جديدة، الحروف نفسها، لكن الطلاقة في التعبير مختلفة، تشبه الدمار الذي يجتاح العيون من كل اتجاه، والأصوات التي تسمعها في كل وقت آذان الناس في غزة، أصوات القصف والعسف والزن والإسعاف والبكاء والعويل، أي كتابة سأكتبها هناك، لو كنت هناك في غزة، ستخرج منها تلك الأصوات، ليسمعها الذين في الخارج، وستخرج منها صور الحياة والموت اليومي، وستجعل القارئ يشتم رائحة التراب الممزوجة بالدم وبالجثث المتحلّلة التي لم تصل إليها أيدي المسعفين والمنقذين، ورائحة البحر الغاضب من كثرة الصخب على شاطئه من العطشى الذين يشربونه على مهل هلاك أمعائهم ومعداتهم.
لو كنت هناك وكتبت، لسمحت للموت أن يتسلل إلى الكتابة، ليخرج بوجه كل قارئ ويرعبه، ويبقى يرعبه في نومه وصحوه، لينتبه إلى ما حل في تلك البقعة من فلسطين، تلك التي يسكنها أهل وأحباب، أطفال ونساء ورجال، بشر يحق لهم أن يبصقوا جميعهم في وجه العالم، حتى يغرق ببصاقهم، حتى هذه البصقة، أتمنى لو كنت هناك، لكتبتها، حتى تخرج من بين السطور، وتبصق في وجهي أولاً. لكنني لست هناك، بل هنا، أكتب وأنا أطل على مدينة، تعرف غزة جيداً، تعرف معاناتها، وتعرف أنينها. أطل على بيروت، بعد 42 عاماً، من مأساة شبيهة، لكن الذي في غزة، تجاوز كل الحدود. لكنني هنا، والهنا هذه، هي أي مكان خارج فلسطين، أو خارج غزة تحديداً، حيث يحدث كل شيء، يحوّم الموت، وتصمد الحياة، وينتصر الإنسان في غزة على الوحش، وينتصر الأمل على الألم. والنصر ليس كلاماً، بل إرادة حياة، فبين رغبة الموت بالتفوق، وإرادة الحياة أن تكون، تحيا الحياة في غزة. لكنني هنا، ولست هناك، ولا أعرف الموت الذي هناك، إلا بالكلام، ولا أعرف اليد التي شوّهتها القذيفة، إلا حين شاهدتها في بيروت، يد طفل قادم من غزة ليتمم علاجه، لا أعرف إلا ما أشاهد في كاميرات تحدد لي ما أراه، وتقول لي ما تراه السياسات مناسباً.
لو كنت في غزة، لكنت اتصلت بأحد في الخارج، لأقول له بعد أن تنتهي الحرب، أريد أن أفعل كذا وكذا، كما يفعل بي صديقي أحياناً، وأحياناً أخرى، حين يخبرني برغبته بالانتحار، فأخبره بأن لا شيء يستحق، فالموت موجود بكثرة، ولا يستحق الذهاب إليه. فيعود إليّ ليقول: «يائس، بدي أبكي ومش قادر، وبدي أنتحر بس معنديش رسالة، بس ما قبل ما أعملها بدي اتعلم أكتب عربي منيح، عشان بنفعش أكتب رسالة انتحار، مش معروف الها وجه من قفا» وفي مرة أخرى يقول لي: «صباح الخير، بطلت أنتحر». لن أفعل مثله، فلو كنت هناك، لقررت البقاء حتى النهاية، حتى النقطة الأخيرة التي ستضعها فلسطين في آخر السطر، لتكتب في السطر الجديد، فلسطين الأبدية، الخالدة لشعبها ولأحرارها، وأمناء أحلامها وترابها، فلسطين الخالدة لشهداء، وأسراهاـ فلسطين الخالدة للصامدين، فلسطين الخالدة للفلسطينيين والعرب والأحرار الذين معها، فلسطين الخالدة قبل البداية وبعد النهاية.
الجملة السابقة، متعبة في صياغتها، ومرهقة لفهمها مني، حين كتبتها. فليس سهلاً، أن يضع المرء نفسه مكان الناس في غزة. فهم فعلاً تحت وبين وبجوار وفوق الموت، هو حولهم، يلاحقهم، يبتر من أعمارهم. أما من يتصور نفسه مكانهم، ففي الغالب، يجرّب أن يشعر أكثر مما يشعر، أو أنه يحاول، تقريب شعور الناس هناك، إلى الناس خارج قطاع غزة. هناك من ينجح بنقل جانب من تلك الأحاسيس، من تلك الآلام والأوجاع، لكن ومهما بلغ أحدنا نجاحاً في نقل الصورة، لن يموت، ويعود ليخبرنا، ولن يُمزّق، كل طرف من أطرافه بمكان، وبعض عظامه، مفتّت في مكان، ورأسه ربما مهشّم، ويلملم أشلاءه ليخبرنا. لن يحدث هذا كله. لكنه يحدث للشعب الفلسطيني في قطاع غزة، هناك من شاهد كل ذلك، هناك من عاش كل ما سبق، وهناك من ماتوا، ولن يعودوا، لكن صورهم عالقة في عيون من رأوهم، وسمعوا أصواتهم قبل أن يغيبوا خلف الموت، الباقي في غزة وفلسطين، طالما بقيت آلة الحرب الإسرائيلية في فلسطين.
لو كنت في غزة، لربما ما كنت كتبت ما سبق. ربما كنت الآن أبحث عن ضحكة طفل، يضحك من فرح، لا من جوع أبكاه حتى أضحكه، فما عاد يُميّز الفرح من الحزن على شفتيه. ولربما كنت بحثت عن أصدقاء كثر أعرفهم، لكنني لا أعرف من منهم استشهد، ومن منهم جُرح، ومن منهم اعتُقل، ومن منهم خرج، ومن منهم ينزح من مكان إلى آخر. لو كنت هناك، لكنت اخترت زاوية واحدة لأستقبل فيها ذكريات الأصدقاء، أغنّي معهم، وأضحك معهم، وأبكي معهم، وأموت معهم. لو كنت هناك، لما كنت كتبت ما سبق.
لو كنت هناك، لكنت تعلمت كتابة جديدة، الحروف نفسها، لكن الطلاقة في التعبير مختلفة، تشبه الدمار الذي يجتاح العيون من كل اتجاه، والأصوات التي تسمعها في كل وقت آذان الناس في غزة، أصوات القصف والعسف والزن والإسعاف والبكاء والعويل، أي كتابة سأكتبها هناك، لو كنت هناك في غزة، ستخرج منها تلك الأصوات، ليسمعها الذين في الخارج، وستخرج منها صور الحياة والموت اليومي، وستجعل القارئ يشتم رائحة التراب الممزوجة بالدم وبالجثث المتحلّلة التي لم تصل إليها أيدي المسعفين والمنقذين، ورائحة البحر الغاضب من كثرة الصخب على شاطئه من العطشى الذين يشربونه على مهل هلاك أمعائهم ومعداتهم.
لو كنت هناك وكتبت، لسمحت للموت أن يتسلل إلى الكتابة، ليخرج بوجه كل قارئ ويرعبه، ويبقى يرعبه في نومه وصحوه، لينتبه إلى ما حل في تلك البقعة من فلسطين، تلك التي يسكنها أهل وأحباب، أطفال ونساء ورجال، بشر يحق لهم أن يبصقوا جميعهم في وجه العالم، حتى يغرق ببصاقهم، حتى هذه البصقة، أتمنى لو كنت هناك، لكتبتها، حتى تخرج من بين السطور، وتبصق في وجهي أولاً. لكنني لست هناك، بل هنا، أكتب وأنا أطل على مدينة، تعرف غزة جيداً، تعرف معاناتها، وتعرف أنينها. أطل على بيروت، بعد 42 عاماً، من مأساة شبيهة، لكن الذي في غزة، تجاوز كل الحدود. لكنني هنا، والهنا هذه، هي أي مكان خارج فلسطين، أو خارج غزة تحديداً، حيث يحدث كل شيء، يحوّم الموت، وتصمد الحياة، وينتصر الإنسان في غزة على الوحش، وينتصر الأمل على الألم. والنصر ليس كلاماً، بل إرادة حياة، فبين رغبة الموت بالتفوق، وإرادة الحياة أن تكون، تحيا الحياة في غزة. لكنني هنا، ولست هناك، ولا أعرف الموت الذي هناك، إلا بالكلام، ولا أعرف اليد التي شوّهتها القذيفة، إلا حين شاهدتها في بيروت، يد طفل قادم من غزة ليتمم علاجه، لا أعرف إلا ما أشاهد في كاميرات تحدد لي ما أراه، وتقول لي ما تراه السياسات مناسباً.
لو كنت في غزة، لكنت اتصلت بأحد في الخارج، لأقول له بعد أن تنتهي الحرب، أريد أن أفعل كذا وكذا، كما يفعل بي صديقي أحياناً، وأحياناً أخرى، حين يخبرني برغبته بالانتحار، فأخبره بأن لا شيء يستحق، فالموت موجود بكثرة، ولا يستحق الذهاب إليه. فيعود إليّ ليقول: «يائس، بدي أبكي ومش قادر، وبدي أنتحر بس معنديش رسالة، بس ما قبل ما أعملها بدي اتعلم أكتب عربي منيح، عشان بنفعش أكتب رسالة انتحار، مش معروف الها وجه من قفا» وفي مرة أخرى يقول لي: «صباح الخير، بطلت أنتحر». لن أفعل مثله، فلو كنت هناك، لقررت البقاء حتى النهاية، حتى النقطة الأخيرة التي ستضعها فلسطين في آخر السطر، لتكتب في السطر الجديد، فلسطين الأبدية، الخالدة لشعبها ولأحرارها، وأمناء أحلامها وترابها، فلسطين الخالدة لشهداء، وأسراهاـ فلسطين الخالدة للصامدين، فلسطين الخالدة للفلسطينيين والعرب والأحرار الذين معها، فلسطين الخالدة قبل البداية وبعد النهاية.