مقالات للكاتب

أيهم السهلي

الأربعاء 12 آذار 2025

شارك المقال

المقتلة السورية


يقول عبد الرحمن الكواكبي في كتابه الخالد «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» إن «الله جلت حكمته قد جعل الأمم مسؤولة عن أعمال من تحكمه عليها. وهذا حق. فإذا لم تحسن أمة سياسة نفسها، أذلها الله لأمة أخرى تحكمها، كما تفعل الشرائع بإقامة القيم على القاصر أو السفيه، وهذه حكمة. ومتى بلغت أمة رشدها، وعرفت للحرية قدرها، استرجعت عزها، وهذا عدل».

لا فرق جوهرياً بين ما حدث في سوريا خلال الأيام الماضية من مقتلة، وبين ما حدث على مرّ نحو 13 عاماً ماضية، أثناء خروج الشعب السوري بثورة أو انتفاضة (سموها ما شئتم)، فقد قتل النظام بجيشه وأمنه وشبيحته بالطريقة ذاتها التي شهدتها سوريا هذه الأيام.

المقتلة مستمرة، هذه حقيقة، وربما لن تتوقف في وعي الناس وضمائرهم، فالجروح غائرة، والسلوك اليومي في البلاد يكبس الملح في هذه القلوب المتفجرة ألماً. قبل 8 كانون الأول 2024، كان هذا ينطبق على «مؤيدي» نظام بشار وحافظ الأسد، وبعد سقوطه بأشهر أو أقل بقليل، صار ينطبق على من كانوا «يعارضون» الهارب الفار إلى موسكو.
ما هو مؤسف، أن الجروح الغائرة لا تريد أن تستريح لتشفى، فتزداد شماتة بالآخرين، ومن قبل حدث ذلك. والمؤسف في الأمرين، أن هناك من لم يكترث للموت الكثير الذي حصل، وفي الأمرين كان هنا شمّاتون وشتامون للمقتولين، كأن أرواح الناس ليس لها قيمة، وليست أهلاً للحياة، ما دام أنها في الموقف الخصم.

رقصوا كثيراً فوق الجثث، وعادوا إلى بيوتهم لتدليع أطفالهم، من قبل تاريخ السقوط، وتبدلت الأدوار بعد تاريخ السقوط، التاريخ الأهم ربما في سوريا منذ أكثر من ستين عاماً. هذا الرقص الفرح الطرب، هو انتقام، والساعين وراء الانتقام ليس في وسعهم بناء دول، وليس في وسعهم الانتماء إلى أوطان، والأكثر، أنهم أكثر الأعداء عداء لأوطانهم.

والمؤسف مرة أخرى أن الناس لا يفكرون في مآل الطاغية مهما طال به الزمن، ومهما شعر بأنه إله وأشعر الآخرين بأنه خالد، هم وعائلته من بعده حكماً وتوريثاً، فالقاتل الرئيسي بشار الأسد، وريث نظام القتل عن أبيه حافظ، هرب وترك الناس، وهل هذا مستغرب؟ مستغرب فقط لدى من أخذوه بحسن الظن، فلا يمكن بأي شكل من الأشكال أن يكون الطاغية أفضل من ذلك.

سوريا ستلملم جروحها، وستلفظ القلوبُ الطيبة السورية بغلظة كل القتلة، لن تقبلهم، ولن تسمح لهم أن يكونوا بينها

ولذلك يعود اليوم عدد من الأسئلة إلى الحياة، كتلك المتعلقة بسماح العالم له بالمقتلة السورية التي راح ضحيتها مئات الآلاف من البشر على الأقل، والتي أنهت ما كان يمكن أن يكون وطناً للجميع، فكل ادعاء عن المواطنة السورية، محض شعارات بعثية فارغة، أفقدتها البراميل كل معنى، واليوم كل رصاصة أطلقت على مدني في الساحل السوري، أكملت المهمة. والأكيد أن أمام السوريين والسوريات الكثير الكثير من العمل، للوصول إلى الوطن، واستبعاد كل من يتدخل من خارج سوريا، تحت أي ذريعة وادعاء كان دينياً أو سياسياً أو غيره.

الفرق بين اليوم والأمس القريب، أن اليوم في إمكان الجميع أن يكتب، بينما من قبل، لا، كان الأمر يكلف المرء روحه، إن لم يكن في الحد الأدنى اعتقاله في أحد السجون إلى أن يشاء الله. أمّا الكلام اليوم، فليس يسيراً فعلاً، فكل كلمة في وجه المقتلة، تقابل بكلام غريب يبرر الدم المسفوح، وكأن الذي يحدث هو الطبيعي، وما عداه ليس كذلك، وكأن الوقوف في وجه القتل الآن، يعني دفاعاً أو قبولاً بالجرائم الكثيرة جداً التي ارتكبها النظام السابق. وهذا الحال، لا يفرق كثيراً عن الاعتقال أو الإعدام المعنوي بسبب الرأي، أي رأي، المدين لقتل المدنيين.

أمّا الأسوأ من ذلك بكثير، فأن تجد السلطة الحالية في سوريا نفسها في وضع يسمح لها بقمع الحريات، تحت مسميات جديدة، كالصالح العام، التآخي الاجتماعي، وغيرها من المصطلحات. فما يحدث اليوم مصغّر جداً عما حدث في حماة 1982 لمّا ارتكب النظام، برئاسة حافظ الأسد وشقيقه رفعت، المجزرة المروعة في محافظة النواعير، وما استتبع بعدها من قمع هائل في البلاد، إذ «ربّى» الأسد الأب سوريا بمجزرة حماة.

من المعلوم والمؤكد، أن كل ما سبق، سيهيج الجميع، ويجلب عليّ الشتائم من الجميع، في سوريا وخارجها. لكن إن كان لذلك إيجابية واحدة، فهي اتفاقهم، ولو على شتيمة. لكن ما لا يعلمه كثر، أن سوريا ستلملم جروحها، وستلفظ القلوبُ الطيبة السورية بغلظة كل القتلة، لن تقبلهم، ولن تسمح لهم أن يكونوا بينها، فالسوريون يعرفون بعضهم بفقرهم المديد، الفقر الذي كان يدفع الجيران لتبادل صحون الطعام بشكل شبه يومي، وتبادل التحية كل ما التقوا في الطريق أو على ناصية الدرج، الفقر الذي لم ينحرم منه بيت سوري، قادر مرة أخرى على لملمة الناس على قلب واحد، قلب سوريا الطيب.
* صحافي فلسطيني

الأكثر قراءة

محتوى موقع «الأخبار» متوفر تحت رخصة المشاع الإبداعي 4.0©2025

.يتوجب نسب المقال إلى «الأخبار» - يحظر استخدام العمل لأغراض تجارية - يُحظر أي تعديل في النص، ما لم يرد تصريح غير ذلك

صفحات التواصل الاجتماعي