قبل ثلاثة أيام، اتصل به ضابط في جهاز «الشاباك»: «سلّم نفسك». ضحك بصوت مرتفع مستهزئاً: «تعال خدني من المخيم». رفضه كان قطعياً وحاسماً، فردّ الضابط: «سأقتلك وآخذ جثتك». أقفل الخط في وجهه واستمر في حياته بشكل اعتيادي.شارك في حفل زفاف صديقه المقرّب خارج المخيم. رافقه بالفرحة الأخيرة صديق عمره وسام أبو زيد. قررا العودة إلى بيتهما في وقت متأخر كنوع من التمويه والتمكن من قيادة السيارة بسرعة، ولا سيما أن الطرقات فارغة بعد منتصف الليل. في هذه الأثناء، تسللت وحدات إسرائيلية خاصة مستخدمة سيارة من نوع «كادي» تحمل لوحة ترخيص فلسطينية من حاجز الجلمة عبر شارع الناصرة.

انتظرت السيارة قرب دوار جسر خروبة القريب من مقر جهاز الاستخبارات العسكرية الفلسطينية. شارفت الساعة على الواحدة فجراً، وصلت مركبة فلسطينية نحو الدوار، هاجمها عناصر الوحدات الخاصة الإسرائيلية، بمساندة قوة كبيرة من جيش الاحتلال: إنه كمين مُحكم من جميع الاتجاهات. دار اشتباك عنيف وتدخلت خلاله عناصر من جهاز الاستخبارات التابع للسلطة. استشهد المطارد جميل العموري (24 عاماً) وأصيب أبو زيد. وارتقى الملازم أدهم ياسر توفيق عليوي (23 عاماً)، والنقيب تيسير محمود عثمان عيسة (33 عاماً) من جهاز الاستخبارات العسكرية، وأصيب محمد سامر البزور (23 عاماً) من جهاز الاستخبارات بجروح حرجة. ونقلت القوات الخاصة جثمان العموري والمصاب أبو زيد إلى منطقة غير معروفة.
■ ■ ■

أعلنت «سرايا القدس» أن مؤسس «كتيبة جنين وملهم الثائرين ومجدد الاشتباك» القائد جميل العموري استشهد في كمين في 10 حزيران 2021. وأضافت أن «اسمه سيبقى خالداً في الذاكرة، تاركاً خلفه حكايات توّجتها ابتسامة دائمة لا تفارق محياه، مجاهد تخرّج من جنبات المساجد، وحمل بندقيته السمراء ودافع عن ثرى مخيمه، وأبى أن يموت إلا بين زخات الرصاص، فعاش قائداً شرساً شهد له العدو قبل الصديق». هنا يتضح أن مؤسس الكتيبة شاب في مقتبل العمر، لكن كيف حصل ذلك؟
ولد العموري في مخيم جنين شمال الضفة الغربية المحتلة، عام 1996، تلقّى تعليمه الابتدائي والإعدادي في مدارس المخيم، ونظراً إلى ظروف عائلته المادية اضطر للالتحاق بالعمل ليساعد والده كونه المعيل الوحيد لأسرته، فعمل سائقاً على مركبة خاصة، وسعى من خلال عمله لتوفير ثمن سلاحه. لكن في النهاية باع سيارة الأجرة واشترى بثمنها سلاحه الشخصي.
«شبابنا الذين تحملون السلاح في الضفة، لا تطلقوا رصاصكم في الهواء، إن هذا السلاح أمانة في أعناقكم، وواجب ديني وشرعي أن يتوجه إلى الاحتلال»


تمتّع بشخصية اجتماعية ومحبوبة وروح مرحة. وكان دائم الذكر لعمه الأسير شادي العموري، المحكوم بالسجن المؤبد والمعتقل منذ 21 عاماً. وبما أن الشباب التفوا حوله، أصبح يوزع المهام من مراقبة ورصد وجمع السلاح وتوجيه سير العمليات الفدائية. نفّذ العملية الأولى في شهر كانون الثاني عام 2020، حيث أطلق النار باتجاه جنود الاحتلال أثناء هدمهم للمرة الثانية منزل الأسير أحمد القنبع في مدينة جنين. ومن بعدها أصبح يكمن للاحتلال في الاقتحامات أو عند الحواجز.

■ ■ ■

هناك أمور تولد بالفطرة، هي أشبه بجينات خاصة: ابتسامة ساحرة، قلب قوي، عقل فذّ. هذا ما يلخّص شخصية جميل العموري. فكرته كانت سهلة جداً من منظوره: لنطلق النار. هكذا كان «مجدد الاشتباك»، فهو من هتف في أزقة المخيم: «قولوا لكلاب الشاباك، جاي جاي الاشتباك». هو محرض جماهيري لأبناء جيله، في مقابل امتلاكه لقدرات خاصة في القيادة، فجنّد الكثير من الشباب ووسّع الكتيبة من دون هرمية واضحة، ولكلّ مقاتلٍ فيها أو خلية حريّة التصرف كلّما وجدت نفسها مستعدةً لذلك. تحوّل ذلك إلى خط سير، أو بالأحرى هو خط نار، فبضع رصاصات تحولت إلى عبوة «التامر» في معركة «بأس الأحرار». هكذا دوّى الصوت في ليل فسمعه فدائيون في الضفة، وتحول إلى صراخ الاحتلال من هول ما جرى في عامين فقط.
■ ■ ■

ألقى جميل العموري كلمة في مخيم جنين أثناء معركة «سيف القدس» عام 2021، محاولاً تصويب السلاح، وقال فيها: «شبابنا الذين تحملون السلاح في الضفة، لا تطلقوا رصاصكم في الهواء، إن هذا السلاح أمانة في أعناقكم، وواجب ديني وشرعي أن يتوجه إلى الاحتلال».