القانون الدولي واستهداف المدنيين بالفتن الطائفية
يصبح للقانون الدولي أهمية خاصة في أوقات الفتن، خاصة أنه يسري في سياق نصوص ومبادئ قانونية وآليات ومنظمات دولية هي في جوهرها على نقيض تام من «لجان التحقيق» والمحاكم (التفتيشية) على وسائل التواصل الاجتماعي. القانون الدولي أداة ترسم صورة بانورامية تسهم بالتحليل المادي-التاريخي للفتن الطائفية. أما وسائل التواصل الاجتماعي، فهي لا يمكن أن توظف إلا في فهم الفتن الطائفية كمعارك أسطورية ووجودية منفصلة عن الواقع.
سنستخدم هنا المنهج المقارن لمعاينة استهداف المدنيين من قبل الفصائل وقوى الأمن السورية التي أرسلتها دمشق إلى الساحل السوري (فواعل مسلحة في مرحلة انتقالية إلى جيش دولة)، بالمقارنة مع استهداف المدنيين في سياق عملية تدخل قوات حزب الله خلال الحرب الأهلية السورية (فاعل عسكري أقل من جيش دولة ينخرط في الأعمال العدائية إلى جانب جيش دولة)، بالمقارنة كذلك مع استهداف المدنيين من قبل كتائب القسام (فاعل عسكري أقل من جيش دولة) خلال عملية «طوفان الأقصى».
هناك حساسية خاصة بالسياق الفلسطيني عند تناول استهداف مدنيي العدو بالمقارنة مع السياق السوري-اللبناني، أولها مبدأ أن قاعداً (أي خبير القانون الدولي) لا يفتي لمجاهد. ثانيها أن إسرائيل فضلت شريعة الغاب على القانون الدولي لعقود عدة.
تلك المبادئ لا يجب أن تمنعنا من دراسة العمل المقاوم بموضوعية من أجل الارتقاء به، خاصة أن طريقة التعامل مع مدنيي العدو هو معطى مهم لقياس احترافية الفصائل العسكرية. من المهم التفرقة هنا بين التشاؤم والتهكم بشأن القانون الدولي ذي العلاقة بالتفاوض والتسوية، وبين القانون الدولي المتعلق بالصراعات المسلحة ذي التاريخ الغني بالتقاطع مع حركات المقاومة والتحرر الوطني.
في مؤتمر جنيف الديبلوماسي من أجل تطوير القانون الدولي الإنساني بالمدة الواقعة بين 1974 و1977، حضرت منظمة التحرير الفلسطينية ممثلة بمستشارها القانوني شوقي أرملي، الذي عبّر عن امتنانه أن المؤتمر اعترف بشرعية العمل العسكري لحركات التحرر الوطني. في نهاية المؤتمر، أقرّ البروتوكول الأول لعام 1977 المكمل لاتفاقيات جنيف المبرمة عام 1949. أهمية هذا البروتوكول تكمن في اعترافه بالحركات المسلحة من غير الدول كفواعل عقلانية قادرة على اتخاذ قرارات عقلانية إستراتيجية أثناء سير المعارك تتجنّب استهداف المدنيين.
دراسة تجاوزات وخروقات القانون الدولي المرتكبة ضد المدنيين من قبل بعض أفراد المقاومة يوم السابع من تشرين تعيننا في تقديم صورة واضحة لفهم التناقض بين هذه الانتهاكات خلال العملية وبين الخطاب السياسي المحنّك لقيادة المقاومة وأداء المقاومين الاحترافي والخلوق وقدرتهم العالية على ضبط النفس بالتعامل مع الأسرى الإسرائيليين، حتى خلال ظروف الإبادة الجماعية. كل ذلك يشكل فائدة لسحب البساط من تحت ماكينة الدعاية والأخبار المفبركة الإسرائيلية والتي تستغل تلك التجاوزات لتحقيق المكاسب السياسية الخبيثة والمطامح الإبادية.
المستفيد من تجاوزات قوات الشرع بالساحل السوري هو إسرائيل وحلمها الأيديولوجي بقيادتها لمشرق «تحالف الأقليات»
على هذا الأساس، إذا كان من الأولوية خلال المعركة العادلة ضد الاحتلال جعل طريقة التعامل مع المدنيين أحد المعايير الأساسية لقياس أداء التشكيلات العسكرية المقاومة، يصبح من الأولى تبني هذا المعيار بالحروب الأهلية بين العرب وإخوتهم العرب.
المشترك الأساسي عند مقارنة أداء حزب الله بالحقبة الأولى من الحرب الأهلية السورية بأداء القوات السورية في معارك الساحل السوري، هو شرعية وحق دمشق -مهما كانت طائفة من يحكمها- في اتخاذ الإجراءات اللازمة لحفظ وحدة البلاد. هنا تنطبق اتفاقيات جنيف والقانون الدولي الإنساني -بما فيها البروتوكول الأول عام 1977- بشكل متساوٍ على الجيش السوري للنظام السابق والحالي وحلفائهما من الفواعل المسلحة من غير الدول.
إلا أن هناك مبررات أخرى أكثر ضعفاً لهذين التدخلين العسكريين، أولهما محاربة الإرهاب. منذ إسقاط النظام العراقي بعد الغزو الأمريكي، وهنالك حالة تنافس بين الفواعل المسلحة والجيوش الرسمية والجهات الأمنية في دول المشرق على «محاربة الإرهاب»، وهو شكل فضفاض من النزاع العسكري يخلق خلافات في تحديد من هو الإرهابي ومن هو غير الإرهابي على نحو يفتح الباب حتمياً لاستهداف المدنيين. أما المبرر الواهي الآخر للتدخل العسكري، فهو «النفير العام» لحماية «أبناء الطائفة»، أي الدخول الحتمي في الفتنة الطائفية التي تستسهل استهداف المدنيين.
يقول أسعد أبو خليل إن أحد كوادر حزب الله أخبره أن التعبئة الطائفية كانت وسيلة ضرورية لتجنيد المقاتلين من أجل التدخل في سوريا وإن التعبئة السياسية والإستراتيجية غير كافية. التعبئة الطائفية، إذاً، كانت السبب الأول وراء التناقض بين خطاب القيادة السياسي والإستراتيجي وبين الفشل في ترجمة الأهداف العسكرية على الأرض دون حدوث تجاوزات تؤدي إلى مخالفة القانون الدولي وانتهاك حرمة المدنيين. للمفارقة، هذا الشرخ في الخطاب بين المستوى القيادي السياسي والمستوى الميداني العسكري نجده اليوم في علاقة دمشق أحمد الشرع مع ما تفعله قواته المسلحة في ميدان الساحل السوري.
لكن الفرق بين الحالتين هي المعايير المزدوجة بين الانقلاب العربي الرسمي على حزب الله بعيد انخراطه بالداخل السوري وبين الغطاء العربي (والأوروبي) لأحمد الشرع بالساحل السوري (إذا اتفق إعلام عزمي بشارة والإعلام السعودي على شيء، فمن حقك الشعور بالريبة).
في الحالة الأولى، استغلت السعودية وقطر تجاوزات حزب الله -إن وجدت- من أجل أسطرة تدخل الحزب في سوريا كحدث استثنائي جلل يتطلب حرباً وجودية ضد الحزب من قبل محيطه العربي. هكذا، أصبحنا نعيش في ثقافة يسهل فيها قول أشياء غير علمية وغير مسؤولة مثل مقولة إن السيد حسن نصر الله مسؤول عن قتل مئات الآلاف من السوريين. أما في الحالة الثانية، فإن المستفيد من تجاوزات قوات الشرع بالساحل السوري هو إسرائيل وحلمها الأيديولوجي بقيادتها لمشرق «تحالف الأقليات».
ما حدث في الساحل أخيراً هو إعلان لنهاية حقبة المثالية السياسية والفوقية الأخلاقية لدى نخب «سوريا الثورة» في المشرق والخليج وبرلين. هؤلاء الآن يتمنون لو أن الأرض تنشق وتبلع رامي عبد الرحمن والمرصد السوري لحقوق الإنسان، كي يستمروا في لعب دور ضحية روسيا وإيران.
* كاتب فلسطيني