مصالح سياسية ممتازة تجوب قطاع الاتصالات، تماماً كما يحوم القرش الأبيض العظيم في المياه الغنية بالوجبات. تلك المصالح تدفع مثلاً إدارة هيئة «أوجيرو» (التي تتبع لوزارة الاتصالات غير أنّها مستقلّة عنها عبر ترتيب بيروقراطي غير مشهود تاريخياً ربما) إلى وقف سعات الإنترنت عن الشركات الخاصة وعن شركتي تشغيل شبكتي الخلوي العامتين عبر حجب الخطوط التي تؤمّن تلك السعات، E1.
المشكلة مستمرة منذ وقت طويل. في الأسبوع الاوّل من حزيران 2013، تحدّث وزير الاتصالات نقولا صحناوي عن «تجاوزات المدير العام للاستثمار والصيانة في الوزارة عبد المنعم يوسف (وهو في الوقت نفسه الرئيس والمدير العام لأوجيرو!) تمهيداً لإحالته على القضاء المختص». أوضح أنّ هناك 15 شكوى جزائية في حقّه صدرت خلال أقل من عامين، فضلاً عن 25 تنبيها وإنذاراً وعقوبة وإحالة على التفتيش المركزي. أشار إلى أنّ ممارسات هذا المدير تؤدّي إلى خسارة الخزينة العامّة نصف مليون دولار شهرياً، وإلى خسارة شركتي الخلوي المملوكتين للدولة قرابة ربع مليون آخر نتيجة الاضطرار إلى شراء السعات بأسعار أغلى من مزوّدين آخرين في السوق غير الدولة اللبنانية.
في لبنان، هذه الأخبار قديمة. سرعان ما تُنسى، ربّما لأن الذاكرة أضحت متأقلمة مع حالة غياب المحاسبة. الجميع أضحى يعي تفاصيل هذا الملف الذي يتأفّف منه مستخدمو الإنترنت في كلّ مرّة يضغطون فيها زرّ «Enter» وينتظرون التنزيل الطويل للصفحات المرغوبة. يكفيهم التأفّف ربما.
ولكن، للعلم والخبر، لا بدّ من السؤال: ماذا حصل تحديداً بعد ذلك المؤتمر الصحافي، وخصوصاً أنّ مدير أوجيرو طلب فرصة للرد على الوزير وتوضيح موقفه؟ سؤال يوصل إلى إحدى حالات التزوير وفقاً لما توضحه مصادر الوزارة والملفات المتاحة.
غداة المؤتمر الصحافي الذي خصّص لكشف المعلومات، أرسلت الوزارة طلباً جديداً إلى إدارة أوجيرو لتحرير سعات لصالح شركتي الخلوي. «بعد إرسال هذا الطلب قام (أي عبد المنعم يوسف) بتصرف غريب عجيب» تقول مصادر الوزارة. فقد سرّب إلى الإعلام كتاباً يُفترض أنه كان قد أرسله إلى الوزارة يدعوها فيه إلى إرسال طلبات لتزويد شركتي الخلوي بالسعات. «أراد إظهار أنّ كتاب الوزارة هو استجابة للكتاب الذي أرسله».
غير أنّ كتاب يوسف لم يظهر في الوزارة. واتضح لاحقاً أنه مرسل إلى المصلحة الإدارية المشتركة لا إلى أمين سرّ الوزير. وحتّى مع هذا المسار، من المفترض أن يصل الكتاب خلال يوم واحد ـــ لكون المعنيين هم في مبنى واحد ـــ وألا يستغرق الأمر 11 يوماً كما حدث. وهنا تظهر العقدة الإدارية! فعلى ما يبدو أنّ رئيس المصلحة المذكورة محسوب على عبد المنعم يوسف. وبعدما أجري الاستقصاء اللازم، ظهر أنّ الكتاب يحمل رقماً مزوراً في السجلات اليومية الخاصة بالنشاطات الإدارية في المصلحة. « جرى إلصاق قيد إرسال الكتاب بخطّ مجهري وغير مفهوم بقيد يوثّق طلب أحد الموظفين في المصلحة التقدم للحصول على تأشيرة دخول إلى إيطاليا!». ويُمكن ملاحظة هذا الأمر من الوثيقة المرفقة التي يُفهم من القيد الخاص بالموضوع: «حاجة شركتي الخلوي إلى سعات دولية»، فيما يصعب فهم الكلمات الأخرى نظراً إلى صغر الخطّ الذي فرضته المساحة المحدودة.
الأنكى هو أنّ عملية إدخال البيانات في السجلّ (Data Entry) لا تحترم التسلسل الزمني، ما يُمكن أن يعرّض السجلات العامّة في هذا المجال لمختلف أنواع التزوير.



حصل فريق الوزارة على هذه التفاصيل. وبإشراف قاض خاص من مجلس شورى الدولة وأمين السر، جرت معاينة الملفّات وأرسلت نسخة طبق الأصل منها إلى التفتيش المركزي. لم تُتخذ الإجراءات اللازمة. حينها عمد فريق الوزارة إلى طلب السجّلات من أوجيرو نفسها. «حين توجهنا لطلب دفاتر القيد من أوجيرو تبيّن لنا أنّ عبد المنعم يوسف حجزها جميعها في مكتبه؛ ربما بعد علمه أننا طلبنا الدفاتر من المصلحة المشتركة» تشرح المصادر. «يُبقي الدفاتر محجوزة لآخر اليوم حين يعمد الموظفون إلى إدخال البيانات بالجملة».
ولكن للتحوط من إمكان الملاحقة على قاعدة حجب المعلومات، أرسل يوسف في اليوم التالي تفاصيل المعاملة التي أخطره بها رئيس الديوان في الهيئة؛ «تبيّن أنه لا شيء فيها. من هنا يبدو لنا أنّ المدير يدبّر ورشة لتغيير جميع دفاتر القيد لأنّ السبحة ستكرّ بعدما فضحت هذه القضية».
هناك سيناريوهات عديدة لما حصل، منها أن يكون عبد المنعم يوسف نفسه قد أوعز إلى رئيس المصلحة لإجراء التغيير اللازم على سجل القيد، أو أن يكون فريق المصلحة نفسه قد أجرى تلك التعديلات غير القانونية. المهمّ أن جميع المعنيين يجب أن يُستدعوا للإدلاء بشهاداتهم لتحديد أين وقع الفساد تحديداً عبر تزوير السجّلات.
«من السهولة بمكان توجيه إصبع الاتهام إلى يوسف على قاعدة: ابحث عن المستفيد من الجريمة! واستناداً إلى طريقة تصرّفه في قضية السجلات إجمالاً» تقول المصادر نفسها.
يستند يوسف في حججه إلى أن شركتي الخلوي تابعتان للقطاع العام، ويبرّر موقفه وكلّ تداعياته من منطلق الحرص على المال العام، لكن هل هو فعلاً يقوم بذلك؟ السؤال نفسه يُطرح على زميل يوسف في الفريق السياسي نفسه، النائب غازي يوسف. منذ فترة لم يُسمع صوت هذا البرلماني؛ مسألة غريبة عن السلوك الذي اعتمده خلال فترة لا بأس بها، حين كان ينظّم مؤتمرات صحافية بالجملة لتوجيه اتهامات الفساد إلى وزارة الاتصالات. بعد مطالعته الأخيرة الخاصة بعقد الوزارة وشركة «تاتش» التي تُشغّل رخصة الخلوي، MIC2، مع شركة هواوي الصينية، تلقّت جهوده على ما يبدو صفعة من ديوان المحاسبة نظراً إلى عدم دقة المعلومات التي تحدّث عنها إلى الإعلام. فهل يحدث الأمر نفسه مع عبد المنعم يوسف؟
الأكيد أنّ الاوضاع في قطاع الاتصالات لا يُمكن بأيّ شكل أن تستمر على هذا النحو. اليوم تتمتّع البلاد بسعات دولية تصل إلى 50Gb/s، ورغم ذلك تبقى رهينة القلّة تماماً كما كان المقيمون يعانون من نظام ظالم في مجال الاتصالات الخلوية طوال عقد ونيف. وضع يؤدّي إلى معاناة المستهلكين مع إنترنت بطيء، إلى تكبّد الشركات الخاصة أكلافاً مضاعفة لشراء خطوط E1، وإلى خسارة الخزينة العامّة مئات آلاف الدولارات شهرياً. والأهمّ يؤخّر البلاد عن التقدّم في قطاع التكنولوجيا الذي يُمكن أن يؤمّن فرصاً مهمّة لقوّة عمل تعاني الأمرين جراء فكر أنجب نموذجاً حطّم الإدارة العامّة.
التزوير الذي نتحدّث عنه هو المولود الشرعي لهذا النموذج ايضاً.