بكين | في تشرين الثاني الماضي، ولأول مرة منذ أكثر من عام، التقى الرئيس الصيني، شي جين بينغ، بنظيره الأميركي، جو بايدن، بالقرب من سان فرانسيكسو، في اجتماع أسفر عن جملة من التفاهمات بين البلدين، أبرزها استئناف التعاون في مجالات عدة، من بينها مكافحة الإنتاج العالمي للفنتانيل، واستئناف المحادثات العسكرية الرفيعة المستوى «على أساس المساواة والاحترام»، وتعزيز التبادلات الثقافية وغيرها، ما أعاد بعض «الدفء» إلى العلاقات التي كانت قد وصلت، آنذاك، إلى أدنى مستوياتها في عقود. بيد أنّ جملة من الخطوات التي تدأب واشنطن على اتخاذها، في الآونة الأخيرة، بدأت تخاطر على الأرجح بعودة التدهور بين البلدين، وهو ما انعكس على الأجواء المحيطة بزيارة وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، للصين هذا الأسبوع. ومنذ وصوله إلى مدينة شنغهاي، الأربعاء، في زيارة تستمر لمدة ثلاثة أيام، حاول بلينكن الإيحاء بـ«تمسك» الولايات المتحدة باستقرار العلاقات مع بكين، واستمرار التعاون معها في المجالات الاقتصادية والثقافية وغيرها؛ إذ ظهر المسؤول الأميركي وهو يهتف في مباراة لكرة السلة في شنغهاي، الأربعاء، والتقى، أمس، الطلاب في «جامعة نيويورك» في شنغهاي، وأجرى لقاءات مع رجال الأعمال الأميركيين، معتبراً أنّ التبادل الطالبي يشكل «ركيزة» أساسية في «العلاقات المعقّدة والتي تشهد مواجهات مع الصين». وفي أعقاب لقائه سكرتير «الحزب الشيوعي الصيني» في شنغهاي، الخميس، قال بلينكن إن التعاون المباشر بين الولايات المتحدة والصين «ضروري وذو قيمة كبيرة»، معتبراً أنّ لدى البلدين «التزاماً» تجاه شعبيهما والعالم، يفرض «إدارة العلاقة الثنائية بمسؤولية». وبعد شنغهاي، يزور بلينكن بكين للقاء عدد من المسؤولين الصينيين الرفيعي المستوى، من بينهم نظيره، وانغ يي، فيما من غير المعروف بعد ما إذا كان سيلتقي بالرئيس شي، كما حصل في حزيران الماضي.وإذ تبدو لهجة بلينكن أقل «حدة» من تلك التي اعتمدها في زيارته الأخيرة للصين، العام الماضي، إلا أنّ «السياق» المحيط بالزيارة الحالية، جعل المراقبين الصينيين والغربيين، على حد سواء، «متشائمين» إزاء إمكانية إحداث الخطوة أي خروقات إيجابية بين البلدين، إذ تأتي زيارة بلينكن بعد ساعات من تمرير «مجلس الشيوخ» الأميركي مشروع قانون يقضي بإرسال نحو 8 مليارات دولار إلى تايوان ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ، ويهدد بحظر تطبيق «تيك توك» على مستوى البلاد، في حال لم توافق الشركة الصينية المالكة له على بيعه، في مهلة تراوح بين تسعة أشهر وسنة. وتزامناً مع ذلك، تبحث إدارة بايدن جملة من الإجراءات الاقتصادية التي من شأنها أن تحدّ من وصول الصين إلى الاقتصاد والتكنولوجيا الأميركيَّيْن، من مثل رفع الرسوم الجمركية على الصلب الصيني والألواح الشمسية وغيرها، بذريعة «حماية المصانع الأميركية من الواردات الصينية الرخيصة»، جنباً إلى جنب بحث فرض المزيد من القيود على وصول بكين إلى أشباه الموصلات المتقدّمة، في محاولة لتقويض تقدّمها في مجال الذكاء الاصطناعي. كما عمدت وسائل الإعلام الغربية، في الأيام الماضية، إلى إعادة العديد من القضايا الخلافية بين البلدين إلى الواجهة؛ وعلى سبيل المثال، نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية تقريراً بعنوان: «بلينكن يزور الصين مع مشاكل محتملة في الأفق»، جاء فيه أنّ وزير الخارجية الأميركي «يخطط للضغط على المسؤولين الصينيين بشأن مجموعة واسعة من القضايا، بما في ذلك دعم بكين لموسكو، والصادرات الصينية»، بالإضافة إلى ما تزعم واشنطن أنّها «مناورات عدوانية في بحر الصين الجنوبي»، حسبما قال مسؤول كبير في وزارة الخارجية للصحافيين، في إحاطة هاتفية حول الزيارة. كما اعتبرت الصحيفة الأميركية أنّ المشهد السياسي الحالي في واشنطن، مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأخيرة، «يعقّد» العلاقات الأميركية – الصينية أكثر، في ظل تبني أعضاء الحزبين «الجمهوري» «والديموقراطي» مواقف أكثر حدة إزاء بكين. أيضاً، تحدثت وسائل إعلام صينية عن أنّ الولايات المتحدة «تخطط لوضع عقوبات لعزل عدد من البنوك الصينية عن النظام المالي العالمي»، لمنح بلينكن بعض «النفوذ الدبلوماسي»، الذي سيخوّله «الضغط على بكين لوقف دعمها التجاري للإنتاج العسكري الروسي»، في وقت تستمر فيه واشنطن في التركيز على ما وصفته بكين بـ«الأكاذيب حول إقليم شينجيانغ، والاتهامات حول انخراط الصين في إبادة عرقية فيه».
تمسك أميركا بمفهوم أنّ الصين أكبر منافس استراتيجي لها، يحول دون السماح للزيارة بإزالة العوائق «السلبية» بين البلدين


بناءً عليه، يلتمس صناع السياسة والمراقبون في بكين «التناقضات» في السياسة الأميركية إزاء بلادهم، وهم عمدوا، في الفترة الأخيرة، إلى توجيه ما هو أشبه بـ«تحذيرات» إلى واشنطن، حول ضرورة التخلي عن عقلية «احتواء الصين، والتعامل معها من منظور المنافسة الاستراتيجية»، ومحاولة تشويه صورتها، والتعامل معها، بدلاً من ذلك، على أساس «الاحترام المتبادل». وفي السياق، يؤكد المحلل والكاتب وعضو مجلس الإدارة في «الجمعية الصينية لدراسات الشرق الأوسط»، رونغ هوان، في حديث إلى «الأخبار»، أنّ «التناقضات والأكاذيب» الأميركية التي تبرز إلى الواجهة أخيراً، ترجع بشكل رئيسي إلى أنّ الولايات المتحدة تدرك جيداً أنها لا تريد أي «مواجهة مباشرة» مع الصين، وأنها غير قادرة على «الاستغناء» عنها في الكثير من القضايا الداخلية والدولية، إلا أنها في الوقت عينه، لا تزال تعتبر الأخيرة «المنافس الاستراتيجي والجيوسياسي الرئيسي لها»، ما يدفعها إلى اتخاذ خطوات تهدف إلى «احتوائها»، ولا سيما في ما يتعلق بتشكيل تحالفات في بحر الصين الجنوبي. وإذ يعتبر رونغ أنّ لزيارة بلينكن واستمرار التبادلات المباشرة بين الطرفين بعض «الإيجابيات»، في ما يتعلق بتجنب أي «مواجهات مباشرة» بين البلدين، إلا أنّه يؤكد أنّ مثل هذه التبادلات يجب أن تكون قائمة دائماً على «الاحترام المتبادل»، ومبدأ «التعايش والتعاون والفوز المشترك». وعليه، وطبقاً للمتحدث نفسه، فإنّ تمسك الولايات المتحدة بمفهوم أنّ الصين أكبر منافس استراتيجي لها، يحول دون السماح لزيارة بلينكن الأخيرة بإزالة العوائق «السلبية» بين البلدين. ولإحداث أي تغييرات ملموسة في الوضع القائم، يعتبر الخبير الصيني أنّ على واشنطن أن «تدرك أنّ المنافسة الجيوسياسية وعقلية الحرب الباردة لا تتلاءمان مع العصر الحالي»، مشيراً إلى أنّ على صناع السياسة الأميركيين أن يفهموا أنّ التقدم الصيني «يصب في مصلحة العالم بأكمله، بما في ذلك الولايات المتحدة».