تماماً مثل باقي القطاعات الحيويّة في البلاد، يُعاني الإنترنت لوثة السياسة اللبنانية، الى درجة أنّ وزارة الاتصالات تُعدّ أحد أبرز مجالات التصارع على الحكم في المرحلة المقبلة. يُمكن المرء أن يتساءل: لماذا كلّ هذا التأخير والعرقلة والوعود الواهية؟ لماذا لا يُمكننا الحصول على خدمات جيّدة غير متقطعة؟
الأجوبة ليست صعبة وتظهر من تحليل العلاقة المشوهة بين طرفين: الوزارة نفسها التي تصوغ سياسة القطاع وخطوات تطويره من جهة، وذراعها التنفيذية، «أوجيرو»، التي يُفترض أن تُنفّذ تلك السياسة من جهة أخرى. والواقع أنّ حبل التنسيق بين الجهتين مقطوع.
يظهر هذا الخلل في الكثير من المجالات، ويتجسّد في السياسة أيضاً. ولكن ألمع ملاعبه خدمة الإنترنت، التي يحصل عليها المستهلكون من الشركات الخاصّة التي تؤمّن السعات، في المبدأ، من «أوجيرو».
يُرمز إلى تلك السعات ـــ ويُمكن تسميتها «الإنترنت الخام» ـــ بخطوط «E1» . تبلغ قدرة كل خط 2Mb/s وتشتريه الشركات على أساس شهري. يحتاج لبنان شهرياً إلى 7500 خطّ لتأمين حاجاته: جزء منها لشركات توزيع الإنترنت (ISPs) والجزء الآخر لشركتي تشغيل القطاع الخلوي - «Touch» و«Alfa» - اللتين أصبحتا لاعباً أساسياً في القطاع منذ انطلاق خدمة الجيل الثالث (3G) في نهاية عام 2011.
ورغم تمتع لبنان بالقدرة اللازمة لتأمين تلك السعات عبر كابلاته الدولية، إلا أنّه لا يستغلّها. فقد تبيّن خلال الآونة الأخيرة أنّ العديد من الشركات العاملة في القطاع – وبينها شركتا الخلوي - لا تحصل على السعات التي تحتاج إليها وتضطرّ إلى شرائها من الخارج عبر الأقمار الصناعية وبوساطة شركات أوروبية وروسيّة.
تتكبّد تلك الشركات كلفة تبلغ 800 دولار مقابل كل خطّ «E1»، فيما يُمكن أن تحصل عليه من «أوجيرو» بكلفة 320 دولاراً فقط، متضمناً كلفة الوصلة الخاصّة. مع العلم أنّ السعات عبر الأقمار الصناعية هي أدنى بكثير مما يُمكن تأمينه أرضياً، بإجماع كلّ خبراء الاتصالات ورجال الأعمال الفاعلين في القطاع. لكن لماذا يرفض عبد المنعم يوسف تحرير السعات المتوافرة؟ وما هو سنده في هذا السلوك؟
لا بدّ من العودة عامين إلى الوراء لمحاولة تشريح ماذا يدور في ذهن مدير «أوجيرو». في حزيران عام 2011، طلبت شركتا تشغيل رخصتي الهاتف الخلوي – عبر هيئة مالكي القطاع – 36 خطّ «E1» من إدارة «أوجيرو»، وذلك في إطار الاستعدادات لإطلاق خدمة الجيل الثالث. غير أنّ الشركتين لم تحصلا على طلبهما.
انتهى الجمود – الذي كان محكوماً بأزمة سياسيّة – في حزيران عام 2012، وتحديداً نتيجة التحسّن الذي ساد العلاقة بين الوزير نقولا صحناوي، وعبد المنعم يوسف، تحت إشراف رئيس الحكومة نجيب ميقاتي.
لكن مباشرة في الشهر اللاحق، وفي إحدى الأمسيات الرمضانية تغيّر كلّ شيء. «خلال رمضان تنظّم شركتا الخلوي إفطاراً. وصار أنّه (عبد المنعم يوسف) لم يُدع إلى الأمسية الأولى، فكان أن قطع العلاقة»! تقول رواية من الوزارة.
هو ضرب من الخيال اللبناني، لكن هنا يُمكن توقّع أي شيء.
«بعد ذلك، وبعدما تبيّن لنا أنّه لا ينوي تلبية (طلبات الشركتين) لم تعد الوزراة ترسل إليه الطلبات»، تقول الرواية نفسها. ولتأمين السعات المطلوبة لجأت الوزارة – بحكم إدارتها لقطاع الخلوي الذي تشغّل رخصتيه شركتا «أوراسكوم» و«زين» - إلى القطاع الخاص (أي شركات الإنترنت). حينها وقع الجميع في المحظور، باستثناء المدير نفسه!
إذ بحسب قرار لوزارة الاتصالات صادر في عام 2007، تحديداً عندما انطلق قطار خدمة «DSL»، تُمنع شركات الإنترنت التي تشتري السعات من «أوجيرو»، من بيع السعات إلى شركات أخرى تؤمّن الخدمة؛ وفي هذه الحالة شركتا الخلوي.
استناداً إلى هذا القرار، يتمكّن عبد المنعم يوسف حالياً من تبرير رفضه تحرير السعات المطلوبة. منذ عشرة أيام تقريباً، طلب من شركات الإنترنت أن تُقدّم إليه لائحة تفصيلية بزبائنها وكيفية توزيع السعات عليهم، وهو الشرط الذي يفرضه لكي يفكّر في إمكان تحرير السعات. «نحن مضطرون إلى الردّ على هذا الطلب وإن ليس بالكامل. هو يزعم بأنّه إذا لم نرسل إليه اللائحة فلن يُفرج عن السعات التي نطلبها، لكننا نعرف في الوقت نفسه أنّه حتى لو أرسلنا التفاصيل فلن يحقّق ذلك!» يقول مدير إحدى شركات الإنترنت الكبرى.
«هل يُعقل أن نعمد إلى شراء سعات عبر الأقمار الصناعية في وقت تتمتع فيه الدولة اللبنانية بسعات هائلة، نتيجة زيادة حركة التبادل مع الخارج عبر الكابلات الدولية؟» يسأل مدير شركة أخرى.
يتحدّث هذا المدير على المكشوف، طبعاً من دون الكشف عن اسمه: «يزعم (أي عبد المنعم يوسف) في الفترة الأخيرة بأنّه لم يتلقّّ أي طلبات، وهذا ليس صحيحاً أبداً». يُشير إلى أنّ شركته تعمد منذ فترة إلى شراء السعات عبر الأقمار الصناعية، «لكنّ هذا الخيار لا يعوّض ما يُمكن الحصول عليه من لبنان، أكان من حيث النوعية أم من حيث الكلفة».
وكان عبد المنعم يوسف يزعم في برقياته المختلفة بأنّه يريد التأكّد كيف تُستخدم السعات، وما إذا كانت الشركات تحصل على حاجتها فعلاً أم أكثر من ذلك لكي يُحرّر لها طلباتها. «هل توقف مثلاً إدارة الجمارك في لبنان شحنة من الأرز أو القمح لمعرفة كيف سيُسوّق؟» يتساءل المدير نفسه. «ما علاقته ومصلحته بكيفية التصرّف بالسعات التي نشتريها؟ هل يريد البيع، المراقبة والتسويق؟».
يؤكّد أصحاب الشركات، الذين تحدّثوا لـ«الأخبار»، أن التصرّفات التي تعمد إليها إدارة «أوجيرو» كلّها «تؤذي المواطن ومصلحته، كأنّها تصرّفات لإبقاء لبنان متأخّراً في قطاع الاتصالات والتكنولوجيا. كأنّها حرب على تطوّر قطاع الاتصالات» يقول أحدهم.
اللافت هو أنّ بعض الشركات تحصل فعلاً على السعات التي تطلبها. أحد مدراء تلك الشركات المحظية يتحدّث بصراحة: «هناك فيتو يُفرض على بعض الشركات في إطار الصراع القائم. أنا خارج هذا الحظر، وقد حصلت على سعات منذ شهر تقريباً».
ومن هنا تبرز رواية مضادّة. يرويها هذا المدير نفسه. يُشير إلى أنّ هناك شركتين تستفيدان من ترتيبات معيّنة، تمكّنهما من الاستمرار في بيع شركتي الخلوي السعات المطلوبة. «تشتري هاتان الشركتان السعات من أوجيرو (أي من الدولة) ومن ثمّ تبيعانها لشركتي الخلوي؛ إحداهما كانت تبيع ثلثي السعة التي تحصل عليها من أوجيرو إلى شركتي» «Touch» و«Alfa».
يُقدّر رجل الأعمال هذا أنّ الربح في مجال الأعمال هذه يبلغ 65% بالحدّ الأدنى. يُشير إلى امتعاضه الشخصي من التجارة القائمة بين شركتي تشغيل الخلوي ومزودي السعات خارج إطار «أوجيرو». يتحدّث عن حصص لا يجري تقاسمها بحسب مقتضيات السوق واللاعبين الكبار فيها.
طبقاً لحسابه، الجبنة دسمة فعلاً. فاستناداً إلى حاجة السوق اللبنانية يبلغ الربح الرسمي المتولد من القطاع 1.6 مليون دولار شهرياً، أي 19 مليون دولار تقريباً سنوياً.
يُثير البعض ضرورة أنّ تقوم شركتا تشغيل الخلوي بـ«مناقصة شفافة» لتحديد من يزوّدهما بالسعات، لكن في المبدأ أليس من المفترض أن تحصل هاتان الشركتان على السعات من الشركات الخاصة، بل من الدولة نفسها أي من أوجيرو مباشرة؟!
لا ينفي هؤلاء – وهم بالمناسبة مقرّبون من عبد المنعم يوسف - وجود خلاف حاد بين وزير الاتصالات ومدير «أوجيرو» الذي يشغل في الوقت نفسه منصب المدير العام للاستثمار والصيانة في الوزارة. يقولون «لا يُمكننا تحديد ما هو الرأي الصائب في هذا الجدل»! مع العلم أنّ هذا الخلاف وصل إلى درجة «تمرّد» يوسف في عهد الوزير شربل نحاس (2009 – 2011). حينها وصل الأمر إلى تأخير تشغيل الكابل الشهير «IMEWE» بتوصيف هيئات الأمم المتّحدة نفسها.
من جهتها، تؤكّد مصادر «Touch» و«Alfa»، أنّ الشركتين طلبتا أكثر من مرّة السعات من «أوجيرو» من دون أن تُنفّذ طلباتهما. تُجمع على التالي: بموجب القانون، لا يُمكننا أن نتواصل مباشرة مع أوجيرو، نطلب من وزارة الاتصالات التي توصل طلبنا إلى الإدارة لتحرير السعات. تصل الطلبات إليه (عبد المنعم يوسف) وتتوقّف.
لذا، في رأي الشركتين، عندما تتوقّف «أوجيرو» عن إمدادهما بالسعات اللازمة لتسيير الأعمال وتأمين إنترنت لزهاء 1.7 مليون مستخدم للإنترنت السريع الجوال عبر تقنية الجيل الثالث يُصبح من الضرورة اللجوء إلى شركات القطاع الخاص للحصول عليها.
«إذا كانت نيّته حسنة فعلاً ولا يتعاطى من منطلق الكيدية والعرقلة، فلماذا لم يُحرّر السعات المطلوبة قبل عام من ذلك الإفطار الشهير، الذي لم يُدعَ إليه، ورأى أنّ منظّميه تجاهلوه ولم يعيروه الاهتمام الذي يستحقّه»، تشرح مصادر وزارة الاتصالات. وتُشير في الوقت نفسه إلى أنّ العمل جار حالياً على تعديل القرار الشهير الصادر عام 2007 «طبقاً لدراسة مستوى تاثيره على السوق من منظور العدالة».
لم نتمكّن من الحصول، بأي طريقة، على تعليق رسمي من عبد المنعم يوسف. التواصل معه صعب من دون شكّ، ولطالما كان الأمر هكذا. ربّما يعود الأمر إلى طريقته في الإدارة، وإلى طموحات يصبو إليها.
يصل الاستغراب في أوساط الشركات من الوضع الذي يتمتع به هذا المدير العام إلى درجة الهلوسة. خلال مناسبة اجتماعية أخيراً تساءل أحدهم: «كيف يُعقل أن يكون قد مرّ على وزارة الاتصالات كلّ هؤلاء الوزراء وبقي هو (أي عبد المنعم يوسف) موجوداً» في مركزه؟ «ما من شكّ في أنّه ذكي وحذق، غير أنّ تصرّفاته غير المنطقيّة التي تُظهره كأنّه يشنّ حرباً، تؤذي الاقتصاد، بشقيه العام والخاص، والبلاد ككلّ».
بالفعل، مرّ على عبد المنعم يوسف تسعة وزراء اتصالات – بينهم رئيس حكومة هو الراحل رفيق الحريري – وبقي في موقعه. «عبد المنعم يوسف أذكى سياسي في لبنان» يقول أحد المطلعين على أوضاع القطاع، من الذين احتكوا بهذا المدير كثيراً في الآونة الأخيرة. «هو لا يتحرّك من دون أن يحمي ظهره. يعلم متى يصعّد ومتى يتراجع. تجده يُطرّي الأمور لدى تأليف حكومة جديدة، مثلما حدث مع نجيب ميقاتي، أما اليوم، فلا يُمكنك التعاطي معه».
يتحدّث المراقبون عن أنّ المشكلة مستمرّة منذ عام 1996، وأنّ جلسات الحوار والنقاش التي عُقدت خلال العامين الماضيين، حصلت في عهد رفيق الحريري نفسه. «يحاول آل الحريري اليوم التودّد إليه غير أنّه يحافظ على مسافة واحدة من الجميع». خلاصة الحديث أنّ عبد المنعم يوسف تمكّن من رصد الفجوات الموجودة في القانون والمراسيم والقرارات الصادرة لإدارة قطاع الإنترنت. استغلّ واقع أنّ شركتي الخلوي تلجآن إلى القطاع الخاص للحصول على السعات لكي يوقف «الإنترنت الخام» عن كلّ اللاعبين في القطاع.
في مطالعاته المختلفة يقوّم شركتي الخلوي بأنّهما شركتا إنترنت. على هذا الأساس يُشدّد في مراسلاته على أنّ «أوجيرو» هي المخوّلة بيعهما سعات لا الشركات الخاصّة، لكنه في الوقت نفسه يرفض تحرير السعات التي تطلبانها!



لا حلّ في المدى المنظور

«صراحة لا أرى أي بوادر حلّ لمشكلة الإنترنت في لبنان، في المدى المنظور بالحدّ الأدنى» يجزم أحد مديري شركات الإنترنت.
يقول إنّ قطاع الاتصالات شهد خلال السنوات القليلة الماضية قفزات نوعيّة وتحديداً على مستوى الإنترنت، وخصوصاً بعد زيادة السعات الدولية المتوفّرة لبنان إلى حدود 30GB/s. تطوّر لم تسجّله البلاد خلال 18 عاماً بعد الحرب. «ولكن ما نفع أن تؤمّن السعات السخيّة وتخفض الأسعار عندما تكون الإنترنت كلّها محجوبة». ولدى التطرّق إلى موقع مدير «أوجيرو» عبد المنعم يوسف في هذه المعادلة يتساءل: «هل يعوّل على تحوّل في الحكم، وعلى واقع (سياسي) جديد؟» في الحقيقة يُشير خبراء الاتصالات المطلعون على الأوضاع في لبنان إلى أنّ عبد المنعم يوسف يطرح نفسه أنّه المدافع الأوّل عن الدولة وعن مصالحها، «ولكن ألا يخطر في باله أنّ هناك تساؤلات بأنّه أخّر الدولة 10 سنوات في قطاع الاتصالات؟» يسأل أحدهم.
يُجمع الذين تحدّثوا لـ«الأخبار» لدى إعداد هذه المادّة ــ وللمناسبة جميعهم فضلوا عدم الكشف عن أسمائهم ــ على أنّ عبد المنعم يوسف قادر على التعامل مع الجميع في مختلف الظروف.
«تمتع بكثير من الغنج في عهد الرئيس نجيب ميقاتي لتحقيق بعض الانفراجات في القطاع» يقول أحدهم. «ولكن بمجرّد تأزّم البلاد مجدداً عاد إلى التحكّم بالأمور تحت شعار حماية الدولة. ولكن هل تُحمى الدولة بسلوك كهذا؟».




نوعية سيئة و15 مليون دولار خسارة

تؤمّن الكابلات الدولية التي تصل إلى لبنان سعات إنترنت تفوق 30Gb/s، غير أنّها محظورة على معظم شركات الإنترنت. بإمكان المدير العام لـ«أوجيرو» عبد المنعم يوسف، بحسب المطلعين على القطاع، أنّ يُضاعف السعة المتوفرة في السوق بكبسة زرّ واحدة. اليوم تشتري الشركات خطّ الإنترنت الواحد، «E1»، بأكثر من ضعف السعر الذي توفّره الدولة عبر وزارة الاتصالات، أي هيئة «أوجيرو». فالحدّ الأدنى لسعر الخطّ المتوفر عبر الأقمار الاصطناعية، يبلغ 800 دولار، فيما يُمكن الحصول عليه عبر «أوجيرو» بكلفة 320 دولاراً. تعاني السوق من نقص ناجم عن امتناع إدارة «أوجيرو» تحرير السعات، يبلغ 4 آلاف خطّ. هذا يعني أنّ المبلغ الفائت على الخزينة سنوياً يبلغ 15 مليون دولار. ولا ينعكس هذا الوضع كلفة مضاعفة على الاقتصاد فحسب بل على نوعيّة الإنترنت التي سيحصل عليها المستهلكون. لدى الإجابة عن تساؤلات المستخدمين ــ وبينهم هذه المؤسسة الإعلاميّة ــ يُجيب مقدّمو خدمة الإنترنت بأنّ السعات هي عبر الأقمار الاصطناعية، وهذا ما يُمكن توقّعه.