الحرب والمجتمع
يُخطِئُ المَرءُ منّا حين يرسم في مخيّلته نظريّة ثابتة للحرب، ثمّ يُؤَطّرها في قالب نظري جامد لا يتأثّر بمؤثرات «كينونيّة» تتعلّق بخصائص كل صراع على حدة. إنّ الحرب، بمفهومها العسكري، تندرج كأحد عناصر ديناميّات النزاع بهويّته العامة، وهي متّصلة بسياقات متداخلة تشكل البنية الحيويّة لديناميكيّات العداوة / الخصومة بين طرفين. تلك السياقات، تُؤازِر مسارات بعضها البعض، وتلعب دور الدّعامة إذا احتاج أحد عناصرها إلى الدعم نتيجة تعثّر ما أو إخفاق، وتحول دون تهاويه وإحداث فجوة في متانة بُنية المشروع «القتالية»، والتي بدورها تشكّل العائق الأول أمام النصر، والخطوة المتقدّمة نحو الهزيمة.
لم تَكُن المعركة يوماً بين المقاومة في لبنان، وبالتحديد مقاومة حزب الله، والعدو الصهيوني، معركةً محصورة بالميدان العسكري، إنما تتكوّن من أرضية معقّدة تتجاوز الحيّز العسكري منها، ولو أن الأخير يشكّل الدعامة الرئيسية للحرب في شقّها «الصلب»، ويمثّل «لبنة» المسار الرّدعي في وجه العدوّ الطامح للقضاء على عدوّه. فقد تكوّن مضمار الصراع مع العدو الصهيوني، منذ نشوء مشروعه في أواخر القرن الـ19، أي قبل إرساء دولته المزعومة بنصف قرن، من عدة عوامل فاعلة، منها المادي ومنها المعنوي (النفسي والروحي).
وبما أن الكفّة المادية تميل منطقياً، وبفارق جسيم، لصالح العدوّ، نظراً إلى حيازته أفضليّة امتلاك كل الموارد المادية، التقنية والتكنولوجيّة وغيرها، التي تخدم مشروعه الحربي، وَجَب تعزيز الركيزة المعنوية في مسار المشروع المقاوِم، وهو ما يمكننا تسميته الشقّ «التعبوي» الجماعي في المجتمع.
هنا، نحن لا نتكلّم عن المسار التعبويّ بمفهومه الولائي، إنما نتحدّث عن مفهوم أشمل، يتعلّق بمستوى إدراك الفرد لهويّة الصراع، وتلقين النفس الوعي المعرفي المتناسب لتلبية المسار الكفاحي اللازم للمواجهة. بالنهاية إن مرتكز الصراع هو الفرد، وهو العنصر النَّشِط والناشط في ميدان النزاع، ومنه يتكوّن المجتمع، «الكتلة» التي تُشَكِّل محور قصة العداء بيننا وبين إسرائيل.
فالعدوّ الذي جاء بمشروع استعمار احتلالي وإحلالي، سعى إلى صبغ قضيّته بلون اجتماعي. المجتمع اليهودي المُشَتَّت والمطرود من «أرضه» (أرض إسرائيل)، والذي يحمل قضية استعادة الحضور اليهودي داخل «الوطن» وإعادة تكوين المجتمع الموحّد الصلب الذي يتطلّب وجوده إنشاء «أيديولوجيا» توجّه الإدراك الفردي بدايةً، ثم المجتمعي، في المسار المُعَبّد نحو المشروع الصهيوني المنشود.
إنّ المجتمع هو الذي يحمل على كَتِفَيه تَبعات الصراع والمضاعفات الناتجة عنه، وهو يقع في دائرة التأثير الأولى في اتجاهَيه، المُبادر نحو العدو والمتلقّي منه. هذا يعني أن المجتمع هو كلمة السرّ في المعركة، التي تتعدّى مسألة الربح والخسارة، لتتّصل مباشرةً بشأن النتائج الشاملة، وتحديداً في الهزيمة والانتصار. ليس هذا فقط، فقد أشرنا إلى أن المجتمع ليس متلقّياً لانعكاسات الصراع فقط، إنما هو المبادر لصناعة محتوى تَأثيرها ومرتكَز متانة البُنى الناشطة في المشروع المقاوم الذي يتّصل بالكيان الاجتماعي.
وعندما نذكر «المشروع» المقاوِم، لا نعني حَصر الصورة بالنطاق العسكري، إنما بتكامل العناصر (المادية والمعنوية) التي يَتَمَخَّض عنها الفعل المقاوم، وهذا الأمر يلائِم طبيعة صراعنا مع العدوّ الصهيونيّ، إذ إنه صراع لا ينحصِر بالعَسكرة، التي يتفوّق بها علينا، بطبيعة الحال، عدوّنا الإسرائيلي، إنما يشمل طبيعة «النفس» التي تُقاوِم.
ولكَي نصوّب الأمر أكثر، نحن لا نتكلّم في هذا المقام عن المجتمع بمعناه «الأكاديمي» الطّبقي، والذي يتألف من الطبقات العاملة والوسطى والعُليا، ولا عن مكوّنات المجتمع الإنساني المكوّن من الأفراد والبقعة الجغرافيّة والعلاقات وغيرها، إنّما نتحدّث عن فلسفة مجتمعيّة خاصة تُسمّى مجتمع المقاومة، الذي يُلقى على عاتق كل فرد منه مسؤولية مَهاميّة متّصلة بوظيفة الفرد داخل المجتمع الذي يحمل قضية الدفاع عن نفسه في وجه أطماع المُستعمِرين.
وعلى سيرة الفلسفة، إن توليفة فلسفية حالت دون انكِسار المقاومة في لبنان، وهي حالة ارتباط روحيّة أسفرت عن ذلك الصمود الأسطوري الذي منع إدخال لبنان في العصر الإسرائيلي البحت وانقضاء حالة المقاومة حتى إشعار آخر.
وهو بحث يطول ويحتاج إلى دراسة معمّقة يساندها تحليل علمي في خصائص المجتمع الذي يحمل قضية المقاومة والأسباب الذي جعلته يوائمها ويلازمها ويرتبط بها بخلقته. ولا يمكن فهم طبيعة العوامل التي عرقلت تحقيق الأهداف الحقيقية للعدو، والمرتبطة بطبيعة الخطة التي كانت مُدرجة مسبقاً، منطقيّة نتائجها كانت تؤدي إلى القضاء على المقاومة كبُنية ومجتمع فاعِل، والوصول إلى بيروت للسيطرة على القرار السياسي وبالتالي إنشاء حُكم عسكري يشبه ما حصل لفترة ما بعد عام 1982.
إن «توضيب» مآلات المشهد بعد العدوان الإسرائيلي على لبنان، بمعزل عن المحصّلة الربحيّة التي تَزِن مقادير الأرباح والخسائر، وبالرغم من الخسائر البالغة التي تعرّضت لها المقاومة ومجتمعها، تبرز في الواجهة صورة طَفَت على مشهد ما بعد الحرب، وهي «الإرادة»؛ إرادة البُنيان المجتمعي لدى بيئة المقاومة لقبول التحدّي وعدم التخلّي عن المواجهة مهما كانت الأكلاف، وهي ناتجة عن الفهم المعمَّق لعواقب التخلّي تلك، وهي لا تقل عن مخاطر الفناء كمشروع مجتمعي بدايةً، وثم وطني وإنساني. المُدهش هو مدى عمق الوعي بتلك القضية.
كلما ارتقى مستوى الوعي، ارتَقت معه كفاءة التعامل مع متطلبات القضيّة والتفاعل مع مقتضياتها، وبالتالي فإن نجاعة المواجهة مرتبطة بمدى أهلية المجتمع لإدراك السمة الواقعية للصراع، بما تحتويه من إدراك قدرات المجتمع والبيئة المؤلّفَين من أفراد وكيانات بشرية متفاعلة في سياق منتظم. إن تسيير مشروع ما يحتاج إلى مسار تفاعلي بين مكوّنات المجتمع.
وكذلك في تحدّي المقاومة، المشروع يستدعي مساراً تفاعلياً بين مكونّات مجتمعها، بعد إدراك قدراتها الذاتية وقدرات البيئة التي تحيط بها، وهو تفاعل فكري وعاطفي وروحي قبل أن يكون تفاعلاً مادياً. فالتفاعل الروحي يخلق قاعدة معنوية تستند إليها المعايير المادية المباشرة في المعركة، وكلما كانت القاعدة المعنوية متينة تنامَت متانة المشروع وتعذّر القضاء عليه.
مجتمع العدو في الحرب
جهّز العدو نفسه للعدوان على مدار سنوات طوال، ولم يكن ما حصل فعلاً لحظوياً أو رد فعل انفعالياً، لا نقول إن ردة الفعل بتوقيتها لم تكن انفعالية، إنما نقول إن ردة الفعل تلك استندت إلى خطة مُدرَجة مُسبَقاً، تم التعديل على مواقيت الشروع بها بشكل طفيف نظراً إلى المستجدّات. ولا يُكتَفى لتدعيم هذه النظرية بالإشارة إلى تصريحات قادة الكيان ووسائط إعلامه فقط، فالناظر إلى سلوك العدو في المواجهة النفسية والإعلامية منذ سنوات، وبصورة محدّدة تجاه مجتمعه، يرصد حجم الإجراءات «التعبويّة» التي استهدفت الحالة المعنوية للمجتمع الصهيوني، واستخدمت من خلالها وسائل عدة، وبُنِيَت على قراءة متعمّقة ومستفيضة لاحتياجات مجتمعه «المعنوية» والروحية، وما هي الأساليب التي تجذب نفوسهم نحو المواجهة.
جرى إشباع الوعي المجتمعي الصهيوني بسرديات تعبويّة، وحقن إدراكهم بمعارف مُقَولبة تخدم المقصد. فمثلاً، ظهَّر قادة العدو لمجتمعهم وحدة «الرضوان» على أنها الذئب الذي ينتظر افتِراس ضحيّته، وأنه يجب العمل، كجيش بداية، وكمجتمع أيضاً، بأدوار أخرى، على التكاتف لإزالة هذا الخطر الوجودي على الكيان وهويّته الاجتماعية. كما استفاد العدوّ جيّداً من خصائص مجتمع المقاومة وتجاربه في الصراع، كي ينقل تلك السِّمات إلى مجتمعه لتشكيل حالة التعبئة المجتمعية المتينة المستعِدّة للتضحية من أجل استمراريّتها، والدفاع عن «القضية» مهما بلغت الكلَف. وفي هذا المجال استطاع المعنيّون في الكيان خلق قضية تخدم مشروعهم الأسمى القائم على القضاء على قوى المقاومة كفكر ووعي ومنهج.
لا شكّ أن المجتمع الصهيوني مثَّل سابقاً، على طول مسير الصراع، نقطة الضعف الرئيسية أمام المستوى السياسي الإسرائيلي، فقد كانت قابليّات ذلك المجتمع ضعيفة جداً في تحمّل الحروب الفَظّة، وهذا توضّح أيضاً عقب «حرب لبنان الثانية» (حرب تموز 2006) وصدور تقرير فينوغراد. عزمت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بعدها على دراسة الحالة المجتمعية بنهج جديد، وتقرَّر إعداد مجتمع مُعَبّأ يَعي القضية التي تمّ تلقينه إياها ومستعد للتضحية لأجلها ودفع الأثمان.
طَفت حالة المجتمع الصهيوني في فلسطين المحتلة على السطح إبّان حرب «طوفان الأقصى»، وأبدى هذا المجتمع استعداداً ملحوظاً للتضحية من أجل «قضيته» المزعومة، الناتجة عن عملية كَيّ الوعي التي تعرّض لها مجتمع العدو عبر حكومته طيلة السنوات التي خَلَت.
مجتمع يحمي المقاومة
إنّ الفترة المُمتَدة منذ 7 تشرين من عام 2023 حتى يومنا هذا، مروراً بالعدوان الإسرائيلي المباشر الذي استهدف لبنان، واغتيال كبار قادة المقاومة وأمينها العام، شكَّلَت منعطفاً تاريخياً في مسار الصراع بمنطقتنا، وستحمل تبعاتها تغييراً هائلاً في الجغرافيا السياسية والاستراتيجيّة في غرب آسيا، عدا التغيّر الكبير الذي ضرب موازين القوى وسقوط النظام السوري الذي كان يمثّل نقطة ارتكاز في المحور المُعادي لإسرائيل. تَلَقَّت المقاومة ضربات كبيرة وضعفت قدراتها المادية بشكل كبير، وقد يظهر أننا دخلنا مرحلة المقاومة «الكامنة» بوسائل «قتالية» غير عسكرية، يلعب فيها المجتمع المقاوِم الدور الأبرز فيها.
لقد كان لمجتمع المقاومة الدور الجوهري الملموس في إبطال مفاعيل التبعات المعنوية للحرب الأخيرة، بمعنى أن ذلك المجتمع يحمل على كتفَيه شِقّ المحافظة على تلك المقاومة ومنع كسرها عبر عزلها. وقد اعتاد هذا المجتمع على هكذا نوع من المواجهات، منذ نشأت المقاومة، وتكثَّفَت بعد عام 2005 وما تبعها من محطات مواجهة كان الهدف منها محاصرة المقاومة والقضاء على إرادتها. استطاعت البيئة المجتمعيّة خلق إطار حمائي حول مقاومتها، كبحت تلك الكتلة المجتمعية جماح الاندفاعة العدوانية، ودافعت عن وجودها.
لم يعد يقتصر هدف العدو في هذا الزمن على احتلال الأرض والسيطرة على الموارد، بل أصبح مصمّماً على نزع فكرة المقاومة من الوعي ومحو النهج من الذاكرة، وبالتالي فإن المستهدف في هذا المقصد هو البيئة المحيطة بالمقاومة بكل عناصرها وخصائصها، بما أن الهدف يصبّ في تدمير الاعتبار المعنوي للمقاومة كإدراك إنساني. هكذا، يصبح المجتمع مرابطاً على خطوط الاشتباك، ممارساً فعل المقاومة الذي يحافظ على وجوده كبُنيان مجتمعي. وقد تعاظم هذا الدور بعد العدوان الأخير الذي شنّته إسرائيل على لبنان وما نتج عنه من تبعات على الجناح العسكري للمقاومة، وأيضاً الجناح المعنوي المتمثّل ببيئتها، لكن حجم الصمود كان هائلاً، وهذا إن دلّ على شيء، فإنه يدلّ على معرفة القضيّة وإدراك مضاعفاتها، كما يدل على الوعي الجمعي المتين الذي يواكب مراحل الصراع ويقف سدّاً منيعاً أمام اندفاعات الأعداء البربرية.
إنّ مجتمع المقاومة قلب الطاولة أخيراً على جميع الذين راهنوا على هزيمة حزب الله وبيئته، وما استحقاق تشييع السيّد الشهيد إلا انعطاف آخر يصوّب المسار من جديد ويثبت أن المعركة لم تنتَهِ بعد، ولا حضور المقاومة كذلك. في النهاية إن القضية قضية معنوية بالدرجة الأولى، ومن يَعي المعنى الروحي لحكمة وجودنا كمجمعات بشرية، يتلقّف مباشرةً الدور المُلقى على عاتقه في صراع الخير مع الشر، المُمتَد منذ الأزل. وكان المجتمع المقاوِم خير المُتَلَقّفين.
* كاتب لبناني