حلب | لا يكاد الحلبيون يصدقون أنّهم على موعد مع رمضان خالٍ من النّار. خلال الأسبوع الذي سبق حلول شهر الصيام كان في الإمكان رصد هواجس تحضر مرّةً في شكل حذرٍ من مغامرةٍ ما تحاول المجموعات المسلحة شنّها عبر أحد المحاور القريبة، وحيناً في شكل خوف من جنونِ أسعارٍ لطالما برع تجّار الحرب في العزف على وتره بين فترة وأخرى. لكنّ أوّل أيام الشهر جاء طبيعيّاً على نحوٍ لم يعهده سكّان حلب منذ ستّة أعوام.
وفيما حافظت أسعار السلع الاستهلاكيّة على شبه ثبات، يمكن تسجيلُ ملاحظات سلبيّة عدّة في هذا السياق، على رأسها انخفاض بادٍ للعيان في المعايير الصحيّة في مختلف الأسواق. ولا يبدو مفهوماً توافر اللحوم بأسعار شديدة التباين، رغم زعم باعتها أنّها من صنف واحد. وعلى سبيل المثال، يبيعُ قسمٌ من المحال لحم الضأن بسعر يراوح بين 4000 و4300 ليرة للكيلو الواحد (وهو سعر منطقي وفقاً لمعطيات السوق) فيما تنتشر بكثرة (في حي الجميلية تحديداً) محال تبيع الكيلو الواحد بألفي ليرة سورية فحسب مع إصرار باعتها على زعم أنّها «لحوم ضأن نظامية وسليمة».
النظافة بشكل عام تبدو مقبولة في شوارع القسم الغربي من المدينة (وهو القسم الأكثر ازدحاماً) لكن الصورة تبدو مختلفة في القسم الشرقي حيث تمكن مشاهدة تلال من النفايات في بعض الأحياء (بستان القصر والكلاسة والفردوس على سبيل المثال). ولا تبدو هذه الحال مفاجئةً لدى البحث في أداء المؤسسات الحكومية وطريقة تعاطيها مع القسم الشرقي بعد مرور قرابة ستة أشهر على عودته إلى سلطة الدولة السورية.

مؤسسات «نصف المدينة»

بقدر ما احتفظت حلب تاريخيّاً باستطاعتها إدهاش زائريها، بقدر ما نافس أداء مسؤوليها ومؤسساتها الحكومية في القدرة على تجاوز حدود الدهشة المتخيّلة، يتساوى الأمر أيام السلم وأيّام الحرب. انطلاقاً من هذا الواقع تبدو بعض التفاصيل الناشزة عن المنطق أموراً شبه طبيعيّة فيها، مثلاً؛ لم تمنحنا جولاتٌ استغرقت ما يزيد مجموعه عن اثنتي عشرة ساعةً (خلال ثلاثة أيام) في حلب القديمة فرصة مصادفة لجنة من مديريّة الآثار أو موظّف فيها أو أي دليلٍ يُذكر بوجودها، لكنّنا صادفنا صبيحة يوم الثلاثاء (23 أيار) فريقاً تابعاً لها مكوّناً من ست موظفات ومصوّر في حي الجميليّة. يقع الحي أقرب إلى وسط المدينة، وهو أحد «الأحياء الغربيّة» التي بقيت تحت سلطة الدولة السورية طوال سني الحرب في حلب، لكن «الآثار» لم تفطن على ما يبدو على امتداد تلك الفترة إلى ضرورة توثيق بعض المباني التاريخية الموجودة في الحي، وفضّلت اليوم أن تتفرّغ له تاركةً حلب القديمة لركامها وأتربتها وأعمال الترميم العشوائية في معظمها (راجع «الأخبار»، العدد ٣١٨٣). يتحفّظ أعضاء الفريق عن الخوض في أي حديث، يطلبون أن نزورهم في مقر مديريتهم إن رغبنا، المقر الذي ما زال حتى اليوم موجوداً في إحدى كليات جامعة حلب رغم انقضاء قرابة ستة أشهر على «مغادرة الحرب» المدينة القديمة والأحياء الملاصقة لها. على نحو مماثلٍ لم تُسعفنا جولة ست ساعات في الأحياء الشرقية بمشاهدة آليّة أو ورشة تابعة لمجلس مدينة حلب تقوم بردم حفرة أو ترحيل نفايات، لكننا عثرنا على ورشة قرب مبنى الهجرة والجوازات (القسم الغربي من المدينة) وقد شرعت في حفر منصفّات وأرصفة لإجراء أعمال صيانة لها وتوسيع لبعضها!

القسم الغربي: عسكر و«فيميه»

من بين أوضح ما تمكن ملاحظته في القسم الغربي من المدينة يبرز ازدياد انتشار اللباس العسكري في الطرقات والأسواق والمطاعم والمقاهي والحدائق. كما تبدو مألوفةً مشاهدة سيارات مرافقةٍ مسلّحة مصطفة أمام بعض المطاعم في دلالة على وجود «مسؤولٍ ما» داخلها. تكثر السيارات «المفيّمة» في الطرقات، وتُسمع من حين إلى آخر رشقاتُ رصاص تبحث عن مصدرها لتأتيك الإجابات من قبيل «بيكونو الشباب مستعجلين وبدهم يفتحو طريق» أو «عادي، تذكير بإنو الحرب ما خلصت»... إلخ. ومقارنة بما كانت عليه الحال قبل أقل من شهرين يمكن رصدُ ازدياد في ازدحام الشوارع بالسيارات، في مقابل انخفاض محدود في اكتظاظ التجمعات البشريّة في الأسواق والحدائق. «الحديقة العامّة» كبرى حدائق حلب (مساحتها حوالى 17 هكتاراً) لم تستعد بعد قسماً كبيراً من مساحتها حُظر دخوله على مرتادي الحديقة بسبب مجاورته لمبنى فرع حزب البعث. وفيما بدا تمثال الشاعر أبو فراس الحمداني (مدخل الحديقة الرئيسي) وحيداً في ظهيرة يوم الأربعاء 24 أيار، كان بعض الأطفال قد خلعوا ملابسهم ونزلوا إلى مجرى نهر قويق الذي يخترق الحديقة لكنه يبدو أشبه بجدول شحيح المياه.

تبدو أعباء القسم الشرقي من المدينة متروكةً لـ«الجمعيّات»



القسم الشرقي: الجمعيات تحاول

تبدو أعباء القسم الشرقي من المدينة متروكةً لـ«الجمعيّات» وشركائها من المنظمات الدوليّة. والحديث هنا تحديداً عن الأعباء المتعلقة بالسكّان ومحاولات تمكينهم من العودة إلى بيوتهم والتعايش مع غياب البنى التحتيّة وانعدام الخدمات والمصاعب الاقتصاديّة. في حي الكلاسة وعلى مقربة من جامع المصلّى يسترعي انتباهنا تجمّع كبير لنساء وأطفال وعدد قليل من الرجال وقد أمسكَ كلّ منهم وعاء. يتبيّن لنا أنها نقطة توزيع لجمعية «من أجل حلب» تُقدّم وجبة ساخنةً يوميّاً في إطار شراكة مع برنامج الأغذية العالمي WFP. في شارع مجاور مركز للجمعية نفسها يتولى مسؤولية توزيع السلل الغذائية، ووفقاً لرئيسة مجلس إدارة الجمعية مريانا حنش فإنّ النقطة «مسؤولة عن تخديم أحياء الكلاسة، وبستان القصر، والمغاير»، ويمتد نشاط الجمعية بالعموم ليشمل أحياء أخرى، فيما تتوازع جمعيات أخرى العمل في بقية الأحياء الشرقيّة. تقول حنش لـ«الأخبار» إنّ الجمعية على وشك إطلاق مشاريع جديدة بالشراكة مع منظمات دولية مختلفة ومن بينها «إعادة تأهيل عشرين محلّاً خدميّاً (حدادة، نجارة... إلخ) بالشراكة مع برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (UN-Habitat)». توضح أن «اختيار أصحاب المحال تم بعد توافر جملة معايير فيهم، علاوة على توقيعهم عقوداً تضمن التزامهم بفتح محالهم مدّة عامين على الأقل». كذلك تعمل الجمعية على إعادة تأهيل حديقة في حي بستان القصر شهيرة باسم «مشتل القباقيب»، وتنوير بعض الشوارع في حي الكلاسة بالطاقة الشمسيّة، ومشاريع أخرى. على مقربة من نقطة التوزيع يعرض محل خضراوات بضاعته بطريقة أنيقة، وأسعار تقارب نظيرتها في القسم الغربي. نسأل البائع عن حركة البيع فيؤكد أنها معقولة. يجلس الحاج أبو أحمد ضيفاً في محل الخضراوات بانتظار حلول دوره لاستلام الوجبة الساخنة، يقول الرجل الستيني إنّ أشد الصعوبات التي يعاني منها سكان الحي عدم وصول مياه الشرب «عم توصل للشارع اللي ورانا بس لعندنا ما بتوصل يمكن لأنو شارعنا عالي، وما حدا عم يرد علينا». نسأل عن رأيه في عمليات التوزيع فيقول «كويس الله يعطيهم العافية» ويضيف ضاحكاً «بس ما في دعم كتير، ما في لحم».