تسود حالة من التعقيد الشديد في المشهد السياسي الفلسطيني الحالي، ربما هي الحالة الأكثر تعقيداً منذ تأسيس السلطة الفلسطينية عام ١٩٩٤، ويتجلى ذلك في صعوبة إدارة النظام السياسي الحالي وعدم الوضوح حول مستقبله. هناك أيضاً حالة من عدم اليقين حول قدرة السلطة وربما الشعب الفلسطيني على الخروج من المأزق الحالي.
كثير من التعقيدات تسود المشهد وسط حالة من الانقسام السياسي والإداري والجغرافي وتتجه رويداً رويداً نحو حالة من الانفصال الجغرافي، وربما يتبعه فصل القانوني والسياسي بفعل الانقسام بين غزة والضفة الغربية. أو بالأصح بين حركتي فتح وحماس. تعقيدات كبرى ترافق المشهد السياسي في ظل ما يدور في الإقليم من حروب وصراعات داخلية تؤثر في الوضع الفلسطيني، خاصة مع البدء في صياغة التحالفات والمحاور الإقليمية ووسط حالة من الاستبعاد الدولي للاهتمام الكافي بالقضية الفلسطينية كقضية محورية من قضايا السلم والأمن الدوليين.
ربما أحد أهم أسباب هذه التعقيدات أنّ هناك حالة من الجدل ليس فقط سياسياً، ولكن امتدت إلى الصراع على مشروعية التمثيل وشرعية القيادة. ومن هنا نورد مصادر الشرعية للقيادة الفلسطينية على الأقل منذ انطلاق الثورة المعاصرة.
أولاً: الشرعية الإقليمية (العربية)، ترافقت مع تشكيل م. ت. ف في العام 1964، والتي كانت نموذجاً لقيادة فلسطينية تتماثل مع حالة المد القومي العربي، ورعاية مصر وجمال عبد الناصر للأمة العربية. وبالتالي أرادت خلق تمثيل فلسطيني مطواع، فكانت هذه القيادة أداة تمثل النفوذ السائد في ذلك الوقت. وأعطاها النظام العربي حق التمثيل المنفرد للشعب الفلسطيني، ولكن في سياق عربي.
ثانياً: الشرعية الثورية، ترافقت مع انطلاق حركة فتح في 1965 وبدء الكفاح المسلح وتقدم الفلسطينيين للصفوف في المعركة ضد إسرائيل، ونشوء حالة من الرغبة الفلسطينية في التمرد على ما هو قائم. بحيث أصبح لدى الفلسطينيين قيادة جديدة انتزعت حق السيطرة على م. ت. ف، ومن ثم على التمثيل الفلسطيني المطلق للشعب الفلسطيني بدءاً من الاعتراف بها كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني في قمة الرباط، وما تلا ذلك من خطاب عرفات في جنيف أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، واستمر هذا الحال حتى تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية في عام 1994.
ثالثاً: الشرعية الديموقراطية، بعد أن عادت منظمة التحرير إلى فلسطين بعد توقيع اتفاق أوسلو وتأسيس السلطة الفلسطينية، بدأت في وضع القانون الأساسي ومجموعة القوانين الفلسطينية لإنشاء كيان سياسي فلسطيني يمكن تطويره إلى دولة مستقلة ديموقراطية.

الواقع مرير وحتمية تجاوز الأزمة ضرورة وليست ترفاً



وبالفعل أجريت أول انتخابات رئاسية وتشريعية في عام 1996 وانتخب ياسر عرفات رئيساً للسلطة. وتم انتخاب مجلس تشريعي وانتخابات محلية وغيرها للمؤسسات. ورغم ما شاب كل هذه العمليات الانتخابية من إشكالات إلا أنها أسّست لنظام سياسي يستمد شرعية قيادته من صناديق الاقتراع. تكررت الانتخابات في عام 2005 لانتخاب رئيس جديد بعد استشهاد الرئيس ياسر عرفات وفوز أبو مازن بالرئاسة وما تبع ذلك من انتخابات تشريعية أدّت إلى فوز حركة حماس بالانتخابات وتشكيلها للحكومة. وكان في الحصار والأزمات وعدم القدرة على تنظيم انتخابات جديدة ترسيخ لهذا النموذج من مصادر الشرعية بعد أن انتهت ولاية الرئيس والمجلس التشريعي. فلم تُعقد انتخابات جديدة، حتى الانتخابات المحلية لم تُجرَ بشكل موحد وتم إلغاؤها. فترسخت حالة الانحسار للمشروع الديموقراطي في النظام السياسي الفلسطيني.
رابعاً: شرعية الأمر الواقع، انتهت المرحلة الانتقالية واستمر الرئيس عرفات والمجلس التشريعي الأول الذي تسيطر عليه فتح في الاستحواذ على السلطة وبحكم الأمر الواقع، حتى وفاته والاضطرار إلى تنظيم انتخابات رئاسية في عام 2005 وانتخابات تشريعية في عام 2006. ولكن بعد فشل النظام السياسي في استيعاب فوز حركة حماس وفشل الحركة في التعاطي مع متطلبات الحكم، وفشل كل محاولات الوحدة الوطنية وخاصة بعد اتفاق مكة 2007، أسقطت حكومة الوحدة الوطنية وسيطرت حماس بالقوة على قطاع غزة، وطردت السلطة الفلسطينية وموظفيها ورجال الأمن والشرطة من غزة وأدارت القطاع منفردة. على إثر ذلك، شكّل الرئيس أبو مازن حكومة الأمر الواقع برئاسة سلام فياض ونتج من ذلك حالة من فرض الأمر الواقع. فتح والرئيس يحكمان في الضفة، وحماس منفردة تحكم في غزة. انهار النظام السياسي، ولم تجر الانتخابات في موعدها وفشلت اتفاقات المصالحة المتعددة، ثم استقر الحال بحكم الأمر الواقع حتى الآن.

معطيات الواقع الحالي

تحولت أزمة النظام السياسي لتصبح أزمة بنيوية وأصبح الانقسام رأسياً وأفقياً وفي كل المجالات. وازدادت فرص التنازع على قيادة حركة فتح وعلى قيادة السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير بفعل الانقسام بين غزة والضفة، وأزمة حركة فتح، وضعف تأثير الفصائل الأخرى، وتراجع تأثيرها سواء في المؤسسات الرسمية أو في الأوساط الشعبية.
نشأ واقع جديد في قطاع غزة نتيجة سنوات الانقسام التسع، وبالتالي أصبح من غير الوارد إعادة توحيد الضفة وغزة في نظام سياسي موحد. وتحديداً بعد فشل حكومة الوفاق الوطني الحالية وعدم تمكنها من العمل في غزة إلا ضمن ضوابط حركة حماس، وأيضاً عدم قدرة السلطة في رام الله على الاستجابة لمطالب حركة حماس، وتحديداً فيما يتعلق بسلاح المقاومة أو بالموظفين واستيعابهم، والسيطرة على المعابر، وإعادة هيكلة قوى الأمن الفلسطينية.
الاتجاه نحو سحب، أو على الأقل تقليص شرعية الرئيس عباس، بسبب الفشل السريع لمشروع التسوية التي يتبناه. فإسرائيل لم تعد تعتبره الشريك المناسب لسلام يخدم مصلحتها. كما أنّ الفشل الإداري والتنظيمي في الجهاز الحكومي عامة، وأيضاً في حركة فتح التي تهيمن على الحكم في السلطة وعلى القيادة في منظمة التحرير، دفع النظام العربي ممثلاً بالرباعية العربية إلى محاولة العمل على الإسراع في إنجاز مصالحة بين دحلان وعباس وإعادة تنظيم حركة فتح لتستمر كحزب قائد للسلطة. ترافق هذا مع دور مصري ـ أردني بشكل خاص لمنع حدوث فوضى بعد أي اختفاء مفاجئ للرئيس أبو مازن. ولكن أبو مازن رفض كل هذه التدخلات وعقد المؤتمر السابع لحركة فتح بمواصفات محددة تناسبه وخرج بمخرجات ثبتت سيطرته على الحركة بشكل مطلق. وأيضاً خرجت بقيادة غير منسجمة مع واقع الحركة وانتشارها الأفقي وهيكلها الرأسي.
صمت إسرائيلي مطبق حول ماذا سيجرى بعد أبو مازن. إسرائيل ملّت من وجود محمود عباس. ونتنياهو لا يعتبره شريكاً مناسباً للتسوية وبالتالي يريد التخلص منه. ولكن لا تستطيع إسرائيل توقع ما سيحدث بعد ذلك، فوضى عارمة تؤدي إلى انهيار السلطة، أو تحول في الدور الوظيفي للسلطة، أو سيطرة شخصيات معينة على الحكم تستطيع إسرائيل أن تتعامل معها.

خيارات الخروج من الأزمة

إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية التي تأخرت ما يزيد عن ست سنوات طبقاً للقانون الأساسي وقانون الانتخابات على كامل الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية والقدس وغزة كما نص عليها اتفاق المصالحة 2011. هذا الخيار يحتاج إلى تطبيق المصالحة وإعادة اللحمة للنظام السياسي الفلسطيني، ولكنه قد يكون مستبعداً في ظل المعطيات الداخلية وترسيخ حالة الانقسام وانعدام الثقة بين حركة فتح وحماس. وأيضاً في ظل الرغبة الإسرائيلية في استمرار حالة الانهيار في النظام السياسي والحفاظ على استمرار الانقسام.
إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية حيثما أمكن، بمعنى أنه في حالة مقاطعة غزة ورفض حماس، تُجرى الانتخابات في الضفة الفلسطينية. وهذا خيار ذو طابع دستوري ولكن مستبعد سياسياً، لأنه سيرسخ الانقسام وربما يدفع نحو الانفصال، خاصة إذا لم توافق القوى السياسية على المشاركة في هذه الانتخابات. لكن من غير المضمون موافقة إسرائيل على إجراء مثل هذه الانتخابات في القدس ما يرسخ أيضاً انفصال القدس.
استمرار الوضع على ما هو عليه الآن، حكومة فوقية باسم حكومة الوفاق الوطني تدير الأوضاع في الضفة الفلسطينية، يوجهها فعلياً الرئيس أبو مازن وليس رئيس الحكومة رامي الحمدالله، وإدارة حكم حمساوية في قطاع غزة تسيطر على الإدارة كاملة وعلى الجباية وأجهزة الأمن والمعابر وغيرها. تسمح حماس لحكومة الوفاق الوطني تلك بالعمل في ملف إعادة إعمار ما دمرته الحروب الإسرائيلية على القطاع وتسمح لها بإدارة أموال المساعدات للمشاريع الخاصة بالقطاع. ولكن مثل هذا الوضع لن يكون قابلاً للاستمرار، خاصة أنه يشكّل انتصاراً للانقسام وتهديداً للمشروع الوطني بأكمله، في ظل زيادة المشكلات المعيشية للمواطنين خاصة في قطاع غزة بسبب انعدام الفرص واستمرار الإغلاق والحصار.

خيارات في حالة الغياب الممكن

تكليف رئيس المجلس التشريعي عزيز الدويك، برئاسة السلطة الفلسطينية وإجراء الانتخابات خلال 60 يوماً حسبما ينص عليه القانون الأساسي الفلسطيني. إلا أنّ هذا الخيار قد يكون مستبعداً لعدم رغبة فتح بإعطاء حماس رئاسة السلطة الفلسطينية كون من غير المضمون إجراء الانتخابات إذا ما تولّت حماس الرئاسة، أو لعدم موافقة إسرائيل على إجرائها.
يتولى رئيس المحكمة الدستورية، التي عيّنها الرئيس أبو مازن، رئاسة السلطة الفلسطينية على أن تجرى الانتخابات خلال 60 يوماً. بالرغم من أن هذا إجراء غير دستوري وغير قانوني خاصة أن المحكمة الدستورية أصلاً موضوع خلاف بين فتح وحماس كونها تأسست بشكل منفرد من قبل أبو مازن.
يحوّل منصب رئيس السلطة إلى اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، يتولى أمين سر منظمة التحرير رئاسة السلطة ويبقى رئيس الحكومة، حيث تقوم الحكومة بمهامها حتى إجراء الانتخابات. وفي هذه الحالة قد تكون الانتخابات فقط في الضفة الغربية، لأن غزة وحركة حماس سترفض إجراءها بهذا الشكل.
تحويل صلاحيات رئاسة السلطة إلى رئاسة الحكومة. وهذا الخيار الأكثر منطقية رغم أنه ليس خياراً دستورياً أو قانونياً ولكنه خيار عملي، على أن تنظم انتخابات رئاسية وتشريعية خلال 60 يوماً... الأمر الذي يحتاج بالطبع إلى وفاق وطني عام.
في ظل المعطيات الحالية وفي ظل حالة الانقسام وتعقد أي إمكانية للمصالحة الحقيقية، فإن تلك الخيارات بمعظمها، قد تكون غير قابلة للتنفيذ، ما ينذر حقيقة بحالة من الفوضى لا يمكن لأحد توقع نتائجها. كما أن الوضع الداخلي في حركة فتح يهدد كامل النظام السياسي الفلسطيني، حيث لا يوجد توافق على خلف للرئيس أبو مازن، بل إن المؤتمر السابع تجاهل الأمر كلياً ولم يتم اختيار نائب للرئيس على الأقل.

للخروج من المأزق

من الصعوبة الخروج من الأزمة الحالية ولكن ثمة مقترحات ممكنة لإنهاء الأزمة ربما تبدو مثالية ولكن طرحها للنقاش قد يساهم في الخروج من المأزق القائم.
دعوة كافة القوى السياسية للبدء في حوار حقيقي جدي حول كافة المواضيع المطروحة ووضع الآليات المناسبة للتغلب على الانقسام وتنفيذ ما تم الاتفاق عليه في اتفاق القاهرة مايو/ أيار 2011 لجهة إجراء انتخابات رئاسية تشريعية قبل غياب أبو مازن.
عقد الإطار المؤقت لمنظمة التحرير الفلسطينية ولجنة إصلاح المنظمة، والعمل على عقد المجلس الوطني الفلسطيني، وإشراك الفصائل غير الممثلة. وأيضاً تشكيل المجلس المركزي واللجنة التنفيذية واختيار رئيس جديد لها.
ترسيخ وجود دولة فلسطين التي اعترفت فيها الأمم المتحدة، وذلك بتشكيل المجلس التأسيسي للدولة الفلسطينية الذي يضم أعضاء المجلس المركزي والمجلس التشريعي والحكومة واللجنة التنفيذية، وذلك للإسراع في صياغة دستور فلسطيني للدولة الفلسطينية، واختيار رئيس لدولة فلسطين.
إن هذه الاقتراحات هي الحلول الممكنة والبدائل الضرورية للخروج من الأزمة، دون ذلك ربما ستحل فوضى عارمة في الضفة الغربية تساعد إسرائيل في التهام مزيد من الأراضي وبناء مزيد من المستوطنات. وفي الوقت نفسه قد تؤدي إلى انفصال قطاع غزة بشكل كامل، وربما إنشاء نظام سياسي منفصل وأيضاً تقسيم الضفة الغربية إلى كنتونات مُنفصلة وربما إدارة سلطات محلية تشابه روابط القرى القديمة. إن الواقع الفلسطيني مرير وحتمية تجاوز الأزمة ضرورة وليست ترفاً وهذا يتطلب عمل الجميع بمسؤولية للخروج من المأزق بغض النظر عن المتسبب به. وهذا يحتاج إلى حراك في الشارع وحراك في مؤسسات المجتمع المدني والقوى السياسية والشعبية لوضع حد لهذا الانهيار لأن المستفيد الأول هو الاحتلال.
* عضو سياساتي في «الشبكة: شبكة السياسات الفلسطينية»