كنّا نعتقد بأنه بالإمكان إخراج «الزير من البير» بما يخصّ موضوع الأجور في سوريا والهوّة الشاسعة التي حصلت بسبب فقدان الليرة السورية أكثر من 12 ضعفاً من قيمتها، مع اعتصام الشركات عند المبالغ التي كانت تُدفع قبل الأزمة وبالعملة المحلية، بينما تبيع بضاعتها الفنية بالدولار الأميركي! كذلك كان الاعتقاد بأنه يمكن وقف حدّ ظاهرة خطيرة باتت تسيطر على جزء من إنتاج الدراما التي تعتبر تطبيقاً للمثل الشعبي «خيّار وفقّوس».
إذ يُمنح بعض الممثلين أجوراً بالدولار الأميركي، بينما يقبض بقيّة العاملين في الدراما بالليرة السورية المنهارة. لكن المفاجأة تمثّلت في اعتراض غالبية الممثلين الذين نعتقد بأنهم يُظلمون بما يتقاضونه من أجور، عن الحديث المفصّل في هذا الموضوع أو عن الازدواجية التي تسيطر على سياسة عمل الشركات بالنسبة إلى العملة النقدية التي يتمّ التعامل بها. هكذا، يفضّل الممثلون السوريون عدم الخوض إعلامياً في معاناتهم، أو أنهم يؤجّلون الحديث لذرائع مختلفة.


وعلى الرغم من الشكوى التي تُدلي بها الممثلة رنا شميّس من الظرف الإنتاجي الذي يحيط بكواليس إنتاج المسلسلات، خاصة في ما يتعلق بزملائها الفنيين وغيرهم، إلا أنها تحيلنا إلى القاعدة اليائسة التي تقول «ما الجدوى من الكلام إن كان لا شيء سيتغيّر؟». ثم تستطرد «لن نُضيع وقتاً وجهداً في الحديث أو مناقشة واقع لن يتغيّر طالما أن الحالة ستبقى على ما عليه، فالكلام عبث. لا يوجد من يُحاسب أو يدقّق أو ينظّم، لذا فإنه عندما ننعم بوجود اتحاد منتجين في سوريا، يُصبح للكلام جدوى، أما عن وضعنا الحالي، فلا نملك إلا الرفض أو القبول أو التضرّع للباري بأن يوقظ الضمير لمن افتقدوه».

من جانبه، يطلب الممثل فادي صبيح مهلة للحديث بتروٍّ ونضج عن هذا الموضوع الحسّاس ويختصر بالقول: «الأجور لا تواكب الظرف الاقتصادي في البلد». من جهتها، تعتذر النجمة أمل عرفة عن عدم الردّ على أسئلتنا، وتفضّل الحديث عن هذا الموضوع وغيره في حوار خاص وليس في تحقيقات صحافية! على الضفة الأخرى، لا تنكر شكران مرتجى بأنها تتعاطى في بعض الأحيان مع شركات تحترم نفسها، وهو ما حصل معها في «خاتون» (طلال مارديني وتامر اسحق). رغم أن أجرها قليل نسبياً وقد قبضته بالليرة السورية، إلا أنها هي التي قبلت بهذا العقد. كذلك، تُبدي الكوميديانة ارتياحها للتعاطي مع شركة «ميسلون» (بسّام الملا) في «باب الحارة 8». في مقابل ذلك، تشرح نجمة مسلسل «دنيا» أن «عدداً كبيراً من الشركات باتت تتعاطى بالنسبة للأجور ومواعيد الدفع بطريقة مهينة إلى درجة أنهم يمتنعون عن الرد على اتصالات الممثلين، وكأنهم يتسوّلون أجورهم.



مدراء إنتاج يهمسون لمنتجين يعملون خارج سوريا بتقليص أجور الممثلين الذين يعيشون في الداخل (قاسم ملحو)

إذ يلعب هؤلاء المنتجون على فكرة تهاوي الليرة السورية أمام الدولار، بحيث يفيدهم التأخّر في دفع الأجور بقيمة مضافة لميزانياتهم». إلى جانب ذلك، تكشف النجمة بأن بعض الممثلين الذين يأتون إلى سوريا زوّاراً يتقاضون أجورهم بالدولار، بينما الممثل الذي ما زال مُعتكفاً في البلد ويصرف أجره فيه، فإنه يتقاضى مبالغ أقلّ. حتى إنّ أجري بات هنا لا يتعدّى سلفة مبدئية يتقاضاها آخرون، وهو ما يحصل مع العديد من زملائي». لا تنكر مرتجى أحقيّة بعض الأسماء في الأجور الكبيرة مهما ارتفعت لكن ليس على حساب زملائهم، بحيث يصبح أجر ممثل يساوي نصف ميزانية مسلسل، بينما يوزّع النصف الثاني على فريق العمل كاملاً! في هذا الإطار، تفصح نجمة «المفتاح» (خالد خليفة وهشام شربتجي) عن السياسة التي تحكم عمل شركة «سما الفنّ» (سورية الدولية) التي لا تتعاقد معها إلا في مسلسل «بقعة ضوء». ومع ذلك «فقد رفضوا هذا العام دفع 5 ملايين ليرة سورية (حوالى 8 آلاف دولار أميركي) كأجر لي، رغم أنهم يدفعون مبالغ كبيرة لممثلي هذا العمل، عدا التفاوض البازاري على الأجر بطريقة لا تليق بمهنة إبداعية». لكن عندما ننقل لها وجهة نظر المنتجين وما يواجهونه من صعوبة في التسويق، تجزم مرتجى بالقول «غالبية الأعمال السورية الكبيرة مُباعة سلفاً وأيّ حديث عن صعوبة في التسويق هو مبالغة محضة».

حديث الممثلة يتقاطع مع مواطنها قاسم ملحو الذي قال «من غير المعقول ألا أعمل في مسلسل مهمّ مثل «بقعة ضوء» بسبب الأجر الذي تجرّب الشركة المنتجة التوفير في الميزانية من خلال أجور ممثليه. علماً أن أهم ممثل يقدّم 10 لوحات كحدّ أقصى». ولدى مقاربة المشكلة من جانب أكثر شمولية، يقول ملحو «موضوع الأجور لا يقلّ خطورة عن مردّات الحرب المشتعلة في سوريا، فبعض المنتجين لا يفرقون عن تجّار الأزمة الذين يستغلّون الظرف الاقتصادي المنهار ليبيعوا بضاعتهم بأرقام أعلى مما تستحق بأضعاف. من المعيب أنني قبضت على عمل مع شركة سورية منذ سبع سنوات ما قيمته 33 ألف دولار، ولم أطلب سوى الأجر نفسه هذا العام، لكنّ المبلغ المدفوع لم يتعدّ 5 آلاف دولار. علماً أن التلفزيون السوري يشتري جميع الأعمال التي تنتج في سوريا كنوع من التشجيع للعمل الفني أثناء الحرب، إضافة إلى تسويق الأعمال الجيدة وقبض ثمنها من المحطات بالدولار». وفي سياق مختلف، يلفت ملحو إلى مشكلة مقلقة تتمثلّ في «ظهور «منتوج صيني» في الدراما السورية، أي أعمال تنتج بمبالغ زهيدة لا تتعدى 40 ألف دولار، ما يعادل أجر ممثل واحد قبل الحرب، إضافة إلى تسلّل منتجين دخلاء إلى السوق يجّربون إنتاج مسلسلات سخيفة بأجر ممثل واحد». من جانب آخر، يجزم ملحو بأنّ لا فضل لأحد على أحد بالنسبة إلى ممثلي الدراما سواء من بقي في البلد أو من سافر. لكن «هناك مدراء إنتاج يهمسون لمنتجين يعملون خارج سوريا بتقليص أجور الممثلين الذين يعيشون في سوريا، حتى إننا صرنا متضرّرين عندما نعمل خارج البلد، وتتحكّم المسألة بـ«شطارة» الممثل وكيف يحصّل أجره». من جهة ثانية، يشير ملحو إلى التعاطي الازدواجي للشركات، ودفع أجور بعض الممثلين الذين يأتون زواراً إلى سوريا بالدولار، إلى درجة أن أحد الممثلين لعب بطولة مسلسل، وتمنّى لو قبض ربع أجر زميلته المقيمة خارج سوريا، وقد عادت بقصد تصوير هذا المسلسل». يختم نجم اسكتشات «غداً نرتقي» بالقول: «الأجر يعطيك مكانك الحقيقي في رقعة الشطرنج، ونجد أنفسنا محاصرين رغم ارتفاع الأسعار في البلاد إلى عشرة أضعاف وأكثر. لا نطالب بارتفاع أجرنا سوى ضعفين فقط، مع إصرارنا على استمرار العمل الذي صار بمثابة نضال حقيقي داخل سوريا».

نحمل الشهادت السابقة إلى بعض شركات الإنتاج الخاصة وعلى رأسها «سما الفنّ» (سوريا الدولية) فلا نجد سوى التهرّب من الإجابة، قبل أن تحاول تسريب معلومة كاذبة عن «أن الأجور كلّها ارتفعت رغم أن بعضهم يقبض بالدولار وبعضها الآخر يقبض بالليرة السورية، إلا أن المبالغ متقاربة جداً بالنسبة للجميع!». من جانبها، تعترف ديالا الأحمر صاحبة «غولدن لاين» بأنها تدفع أجورها بالدولار لبعض الممثلين وبالليرة السورية لممثلين آخرين كلّ حسب مكانته وبالمستوى الذي سيخدم فيه المشروع. «إذ لا يمكن التعامل مع سلّوم حداد كما يتمّ التعامل مع ممثل شاب، ولا يمكن دفع أجر يوسف الخال بالسوية نفسها التي ندفع فيها لممثل لبناني غير معروف عربياً. ثم يبقى «العقد شريعة المتعاقدين» وعندما أفشل في التسويق، لا يسأل عنّي أحد من الممثلين أو غيرهم». تشرح منتجة «صرخة روح» مضيفةً أن «بعض الممثلين ندفع لهم ما يطلبونه من أجور لأنهم أسماء مكرّسة تخدمنا في التسويق، بينما هناك ممثلون لا يقدّمون أيّ شيء. في هذا العام، أنتجنا مسلسل «خاتون» ووصلت تكلفته إلى حوالى 4 ملايين دولار ولم نسوّق حتى الآن بربع الكلفة. كذلك ألغينا عرض مسلسل «الخان» الذي كنّا قد أنتجناه وأجلّناه لعدم وجود تسويق كاف، هذا يعني أننا نعمل في ظروف صعبة».

أخيراً تحاصر «مؤسسة الإنتاج التلفزيوني» بتسعيرة محدّدة من قبل الدولة بالنسبة إلى أجر النجوم، ولا يمكن أن يتعدى 15 مليون ليرة سورية (ما يعادل حالياً 25 ألف دولار) كونها مؤسسة حكومية. هذا الأمر يجعلها غالباً تتشارك مع جهة إنتاجية خاصة حتى تتمكّن الأخيرة من دفع أجر الممثل الأول الذي يصل إلى 30 مليون ليرة سورية.