حين غادر أهلي قرية الصفصاف في تشرين الأول 1948، كان الطريقُ الوعرُ الشائك الذي سلكوه هو السبيل الوحيد للنجاة. على عجالة، ومن دون أن يدركوا أنّ نكبةً ما تحلّ بهم أو أنّهم سيحيون ذكراها عاماً بعد عام في المنفى، تهيّأوا للرحيل وهربوا حفاةً حين قامت العصاباتُ الصهيونيّة بقتل زهاء 70 شخصاً من أهالي القرية، وآخرين من قرىً مجاورة، ومتطوّعين عرب لم يُعرف عددُهم. انقسمت العائلات وتشتّتتْ، ولم يعرف مصيرُ كثير من الشباب، ولا عددُ الشهداء والأسرى وحالة البيوت.لا شكّ في أنّ حبّ الحياة الذي ارتبط بحبّ الصفصاف لدى والدي ولدى غيره كان أقوى من أهوال المجزرة؛ فسرعان ما حاول هو وكثيرون من أهل القرية العودة الى ديارهم. لكنّهم فوجئوا بمغادرة من بقي بعد المجزرة، بعد أن رمى الصهاينة جثامينَ الشهداء في العين التي يشرب منها أهلُ القرية، ودمّروا منازلَها ليحُولوا دون إمكان الحياة فيها.

غير أنّ العودة الى الديار كانت حتميّة، وظلّ الأملُ متوقّداً في عقول وقلوب الأهالي، وأبناء بلدتنا بشكل خاصّ. فلقد سكن أهلي، مثلهم مثل آلاف اللاجئين، في قرية بنت جبيْل الحدوديّة والقرى المجاورة بانتظار الرجوع إلى بيوتهم، قبل أن يُنقلوا إلى مخيّم عين الحلوة ومخيماتٍ أخرى في أقصى شمال لبنان، وتبدأ الذكرى بالمرور كعقارب الساعة.
حدّثني جارُنا أبو مروان حمد (مواليد الصفصاف 1920) أنّ أهالي الصفصاف، وغيرَهم من اللاجئين، ظلّوا، حتى بعد نقلهم إلى عين الحلوة، يدفنون موتاهم في مدافن بنت جبيْل وعلى الحدود كي يسْهلَ عليهم نقلُ رفاتهم أو زيارتُها بعد العودة.
أهالي الصفصاف ظلّوا يدفنون موتاهم في بنت جبيْل كي يسْهلَ عليهم نقلُ رفاتهم بعد العودة

لم يُحْي الفلسطينيون ذكرى النكبة آنذك، بل أخبرني والدي أنّهم كانوا في كلّ موعد للنكبة «يظبظبون» (يلملمون ويوضبون) أشياءهم القليلة استعداداً للعودة إلى الصفصاف. وسرعان ما لملم الفلسطينيون جراحهم وفجّروا ثورةً اعتُبرتْ من أهمّ حركات التحرّر العالميّ في العصر الحديث. زيادةً على ذلك رفض الفلسطينيون أن يُسمّوا لاجئين؛ كما رفضوا محاولاتِ التجنيس الانتقائيّة أو الهجرة إلى منافٍ بعيدة. وحين تأسستْ دائرةُ شؤون اللاجئين في منظمة التحرير سُمّيتْ «دائرة شؤون العائدين».
خفّفت الثورةُ من آلام النكبة بوعود التحرير، ولذلك نجحتْ في تثوير الجماهير بخطابها الصريح والناريّ المباشر. ومن أجمل ما خاطبت به جماهيرَها ذلك النشيدُ الذي حفظناه ورددناه عن ظهر قلب:
ثوري ثوري يا جماهير الأرض المحتلّة
ثورتنا انطلقتْ، قِيدي من دمّكِ الشعلة!
بالنسبة إليّ وإلى أبناء جيلي في المخيّمات فقد أدمنا إحياءَ يوم النكبة في 15 أيّار لأكثر من أربعين مرّة، نعبّر فيها بشتّى الطرق عن تمسّكنا بالعودة إلى فلسطيننا. كما كنّا نهتف في المدارس ونحن أطفالٌ صغار، في طابور الصباح: «فلسطين موطنُنا، والعودة غايتُنا». في ما بعد، صرنا نرقص على إيقاعات أغاني الثورة الهادرة. وفي اعام 2011، كانت مسيرةُ العودة إلى مارون الراس أجملَ تعبير عن ذلك التمسّك بالعودة، حين مشى الشيوخ والأطفال والفصائل كافة وأشقاؤنا اللبنانيون ومتضامنون عربٌ وأجانب في الطريق عينها التي تؤدّي إلى فلسطين. وكانت تلك أقربَ الطرق التي شخصتْها عيناي.
اليوم ما زلنا نحلم بالعودة، لكنْ يترافق مع الذكرى الـ 67 للنكبة، الذكرى الـ 48 للنكسة، والذكرى الـ 24 للمفاوضات المهينة، والذكرى الـ 22 لاتفاقيّة أوسلو المذلّة، والذكرى الـ 13 لبناء جدار العزل العنصريّ، والذكرى الـ 8 للانقسام بين حركتيْ فتح وحماس، والذكرى الـ 8 لتدمير مخيّم نهر البارد، والذكرى الـ 3 لحصار مخيّم اليرموك. ناهيك عن ملفات الأسرى، والمستوطنات وهدم البيوت ومصادرة الأراضي وسعي «إسرائيل» الحثيث إلى تهويد القدس، وغيرها من المآسي. في الذكرى الـ 67 للنكبة المستمرّة ما زلتُ أنا وكثير من جماهير فلسطين نردّد ذلك النشيد الرائع. لكنْ أين هي الثورة؟ فلتتجدّدْ الثورة ولتستمرّ، كي تتبدّد النكبة، وتتحقّق العودة.
* كاتب فلسطيني