روث سْلنْتشينْسكا... مئة عام من البيانو

قبل مطلع 2021، حفنة فقط من جمهور الموسيقى الكلاسيكية، ممّن هم في نهاية خريف العمر، كانت تعرف عازفة البيانو الأميركية روث سْلَنْتشينْسكا (Ruth Slenczynska). نجمة الخمسينيات العالمية المولودة عام 1925 انكفأت مطلع الستينيات، وانصرفت إلى التعليم بعد تسجيل ديسكات عدة عند الفرع الأميركي من الناشر العريق Decca.
في كانون الثاني (يناير) 2021، جمع الناشر الألماني «دويتشيه غراموفون» هذه التسجيلات، وأعاد إصدارها في علبة من عشرة أقراص، ضمن موضة شديدة الانتشار بين الناشرين في السنوات الأخيرة تقوم على إصدار علب ضخمة (قد تصل إلى أكثر من 200 قرص أحياناً) تحوي تسجيلات رموز الأداء الكلاسيكي المعروفين من قادة أوركسترا إلى عازفي آلات (بيانو، كمان، تشيلّو،…) وحتى أوركسترات ومجموعات صغيرة.
معظم هذه العلب عبارة عن تجميع لتسجيلات صدر معظمها على CD والقليل منها يعود إلى أيام الفاينل (Vinyl) ولم يُعد إصداره على CD، يضيف الناشر إليها تسجيلاً نادراً لخلق دافع لشرائها من جانب جامعي التسجيلات الجدّيّين.
تسجيلات العازفة الأميركية من أصل بولوني حملت استثناءً: بخلاف كل زملائها، لم تكن روث معروفة رغم القيمة العالية لتسجيلاتها كما اتّضح عند صدورها. هذه كانت بداية إعادة إطلاق اسمها في سماء الكلاسيك، وقد تولّاه الناشر استناداً إلى تسجيلاتها القديمة (حصة الأسد لأعمال شوبان).
أما المرحلة الثانية من الانطلاقة الجديدة، فشكّلت مفاجأة أكبر بعد، إذ تولّته بنفسها عندما دخلت الاستوديو في حزيران (يونيو) 2021 بعد نحو 65 عاماً على خروجها منه آخر مرة، وسجلت عند Decca ألبوماً حوى أعمالاً متفرقة، وصدر عام 2022 بعنوان My Life In Music، ليحقق رقماً قياسياً في عالم التسجيلات: صاحبة الإصدار تبلغ 97 عاماً!
روث مولودة في كاليفورنيا لعائلة بولندية مهاجرة. كان والدها عازف كمان، وتذكُر عنه قسوته في تربيتها الموسيقية إذ كان يجبرها على لعب تمارين شوبان الـ24 يومياً قبل الفطور! هذا الجَلْد التربوي، الذي روَته في كتاب ذكرياتها، «طفولةٌ ممنوعة» كانت له سيئات عدة وفائدة واحدة: الفتاة الصغيرة ستصبح المعجزة التي تعتلي المسارح في أميركا ثم أوروبا، ولاحقاً مرجعاً في شوبان.
بعد البدايات الصعبة، درست روث مع عمالقة البيانو (من رعيل مطلع القرن العشرين) في أميركا وأوروبا: هوفمان، كورتو، بيتري، شنابل و… رخمانينوف شخصياً، وهي اليوم آخر حيٍّ من تلامذة المؤلف الروسي.
عميدة البيانو احتفلت بعيدها المئة في 15 كانون الثاني (يناير) الماضي، لتدخل نادي «مئويّي» البيانو، بعد مييتشيسواف هورشوفسكي (1892 — 1993) الذي أحيا آخر أمسياته وهو في الـ99 من عمره ورحل بعدما أتمَّ القرن. ومنذ صدور ديسكها الأخير قبل ثلاثة أعوام، لا نشاط يُذكر لها، باستثناء بعض المقابلات التي انهالت عليها بعد الإنجاز الموسيقي/ الإنساني.
ديسكها الأخير حوى أعمالاً تقول إنها تلخّص حياتها ومسيرتها. لكن الخيار وقع في جزء من الإصدار على مقطوعات غير تعجيزية تقنياً بطبيعة الحال، ويغلب عليها الطابع التأملي العميق، كأنها وصية بسيطة لجوهر الوجود من امرأة أقل ما ينقصها الخبرة في الحياة.
كذلك، تحمل الباقة المختارة من الأعمال بشكل مباشر تحيةً من سْلنْتشينْسكا للشخصيات الموسيقية التي أثّرت فيها، من أساتذتها: بتري (الممثل بمقطوعة لباخ)، كورتو (دوبوسي)، هوفمان (غريغ)، رخمانينوف (رخمانينوف)، وصديقها العزيز المؤلف الأميركي باربر (مقطوعتان له). أمّا حضور شوبان في الباقة، فيمثّل الوطن الأم، بولندا، عموماً، في حين حدّدت روث خيارها للمقدّمة رقم 23 بأنها تحية لوالدتها وشقيقتها، إذ سبق أن أدّت هذه المقطوعة القصيرة في دفنَيهما (وكذلك في حفلة تأبينية لزميلها الأسطورة، هوروفيتز).
لاقى النقّاد هذا الإصدار بحفاوة، لكن من دون تفخيم كاذب. إذ لا يجوز تقييم عازفة بعمرها كأنها في عزّ إمكاناتها. الأداء عموماً فيه هشاشة تقنية، بالأخص في المقطوعات الصعبة قليلاً. نضج الأداء في أوجه، لكن الجسم في أدنى طاقته.
رغم ذلك، يرتقي أداؤها لقطعة من عند باخ إلى مستوى الأعجوبة في الدقة والطراوة والثبات الإيقاعي وتظهير الخطوط اللحنية، واعتماد سرعة إيقاع «منطقية» في حين مالت إلى التبطيء في معظم المحطات الأخرى (أحياناً للتخفيف من الصعوبة التقنية وأحياناً رغبةً في التأني لدفع الجانب التأمّلي إلى حدود قصوى).
بالتالي، إذا اعتمدنا معيار النقد المطلق، الديسك يُعدّ متوسّط القيمة. لكن أقلّه ليست فيه أخطاء فاضحة (كما في إصدارٍ لعازفة شابة عمياء يتمّ استغلالها بوقاحة، نتناولها في مقالة مستقلة قريباً). المعيار هنا يجب أن يميل إلى التاريخي أكثر من الفنّي، وعلى هذا الأساس يمكن اعتبار التسجيل بأنه وثيقة «بيانيستية» تاريخية. يبقى السؤال: ما هو سرّ النضارة بعد المئة؟ بحسب عميدتنا: البيض الطازج وأربع ساعات بيانو... يومياً.