قضايا وآراءبدر الإبراهيماكتساح ترامب ومستقبل الحرب
الرئيس الخامس والأربعون للولايات المتحدة بات الرئيس السابع والأربعين. انتصار ترامب لم يقتصر على تحقيق الفوز بأصوات المجمع الانتخابي، وإنما تعدى ذلك إلى الفوز بالتصويت الشعبي، الأمر الذي فشل فيه كل مرشح جمهوري - بمن فيهم هو - منذ عشرين عاماً. لهذا دلالات مهمة، أبرزها اختراق ترامب للقاعدة الشعبية التي تصوت للديموقراطيين، وقد اتضح هذا الأمر في تراجع تأييد الديموقراطيين في المدن الكبيرة والولايات المعروفة بولائها للديموقراطيين، وتراجع نسب التصويت لهم بين الأقليات، مثل العرب والمسلمين والسود واللاتينيين. الانقسام الهوياتي تكرس مرة جديدة في هذه الانتخابات، لكن بشكل أقل بين الريف والمدينة، في ظل استياء شعبي واضح في المدن وضواحيها من الديموقراطيين ونهجهم.
العلامة الأبرز في الانتخابات هو فارق التصويت للديموقراطيين بين الانتخابات الماضية في 2020 والانتخابات الحالية، وهو فارق دال على حجم الغضب الشعبي من سياسات الديموقراطيين، وخاصة في قضايا الاقتصاد والهجرة، وتضعضع ثقة الناخبين بالحزب الديموقراطي، وقد صار حزب المؤسسة الحاكمة بامتياز في السنوات الأخيرة، وخير معبر عنها، ما يجعل فوز ترامب، رغم كل ما قيل عن أن قاعدته الانتخابية لا تتجاوز 45% من الناخبين، نتاجاً طبيعياً لفشل الديموقراطيين في إقناع قواعدهم قبل إقناع المترددين بالتصويت لنهجهم، الذي لا يجيب عن أسئلة الناس بخصوص الاقتصاد بالذات.
> من المبكر قراءة توجّه ترامب حيال الحرب، خاصة قبل معرفة أعضاء فريقه، وما إذا كانوا من صقور المؤسسة الجمهورية أو من خارجها
اللافت أن الليبراليين من أنصار الحزب الديموقراطي استعاضوا عن محاولة البدء بمراجعة نقدية لإخفاق حزبهم بتوجيه اللوم للعرب والمسلمين في ولاية ميشيغان المتأرجحة، محملين هؤلاء مسؤولية هزيمة هاريس بفعل عدم تصويتهم لها، في حين أُعلن فوز ترامب قبل ظهور نتائج ميشيغان، بسبب فوزه في الولايات المتأرجحة الأخرى مثل جورجيا ونورث كارولينا وويسكونسن، والأهم بنسلفانيا، ما يجعل تحميل العرب والمسلمين هزيمة هاريس مجرد هراء. مع ذلك، لا شك أن امتناع غالبية الناخبين العرب والمسلمين عن التصويت لهاريس أضرّ بحظوظها في ميشيغان، ورغم تشتت هذه الأصوات بين ترامب وجيل ستاين (مرشحة حزب الخضر الداعمة للحق الفلسطيني)، مع تصويت البعض لهاريس، إلا أن الكتلة العربية والمسلمة في ميشيغان، كما في ولايات أخرى، أعطت إشارة مهمة للديموقراطيين إلى ضرورة التعاطي معها بجدية أكبر، ولعل هذا كان أكثر ما يمكن أن تحققه هذه الكتلة مع انقساماتها، وهو أمر يمكن البناء عليه في إيجاد مساحة للتفاوض مع الحزبين مستقبلاً.
رغم الانقسامات، كان التوجه العام للكتلة العربية والمسلمة محكوماً بمسألة الحرب على غزة ولبنان، وهي المسألة التي يترقّب معظم الجمهور العربي موقف الفائز في الانتخابات منها. لم يكن من الممكن لمؤيّدي القضية الفلسطينية أن يروا فروقاً حقيقية بين المتنافِسَين، وهو ما يفسّر جزئياً تبعثر أصواتهم بين مرشحي الحزبين والمستقلين. في الوطن العربي، كان تأييد ليبراليي الأنظمة العربية صارخاً لترامب، حيث يجدون طروحاتهم ومصالحهم متسقة مع طرح اليمين في الغرب، في حين كان ليبراليو «الربيع العربي»، الذين يتماهون مع اليسار الليبرالي الغربي، يروّجون لدعم هاريس باعتبارها «أخف الضرّرين» في قضية فلسطين، بالإضافة إلى فروقات أخرى بينها وبين ترامب.
لا يبدو سهلاً بعد عام من الإبادة في غزة إقناع غالبية الجمهور العربي بفروقات ذات أهمية بين هاريس وترامب في قضية الحرب، حتى مع رهان نتنياهو على ترامب، ذلك أن ما فعله بايدن لإسرائيل غير مسبوق، وإن كان في هذه الانتخابات من خسارةٍ لإسرائيل، فهي غياب بايدن عن المشهد، وهو العقائدي الصلب في مسألة دعم إسرائيل، والصهيوني حتى النخاع. بالفعل قد تتمايز هاريس عن بايدن في هذا الأمر، فهي ليست مؤدلجة حيال إسرائيل، لكنها كانت أقرب للسير مع الخيار الحربي للدولة العميقة. كما أنها فشلت في فصل نفسها بشكل واضح عن مسار إدارة بايدن، ولم تعمل على كسب الكتلة العربية والمسلمة بمواقف واضحة، ورفضت حتى استضافة من يمثّل الصوت الفلسطيني في مؤتمر الحزب الديموقراطي (فيما فعل ذلك ترامب في خطابٍ له).
ترامب أيضاً لا يتبنّى نظرة أيديولوجية لإسرائيل، لكن المسيحيين الصهاينة يشكّلون قطاعاً واسعاً من قاعدته الانتخابية، وهو يزايد على الديموقراطيين لكسب الصهاينة إلى صفّه، ولأنه ليس معنياً مثل بايدن والليبراليين الصهاينة بالحفاظ على فرص حلّ الدولتين (بوصفه ضمانة لمستقبل إسرائيل)، فهو مستعدّ لتقديم الدعم لخطوات اليمين الإسرائيلي في قضايا الاستيطان وضم الأراضي المحتلة، وشرعنة ذلك، وهو تحديداً ما يجعل نتنياهو وحكومته يستبشرون بعودته. بعد نقله السفارة الأميركية إلى القدس، واعترافه بضمّ الجولان، قد يخطو ترامب هذه المرّة نحو الاعتراف بابتلاع إسرائيل كامل الضفة الغربية.
لكن حسابات نتنياهو لا تراعي أن ترامب رجل أعمال متقلّب المزاج، يرفع شعار «أميركا أولاً»، ويرفض الانخراط في حروب. خلال عام كامل من الحرب، صرفت الولايات المتحدة 22.7 مليار دولار على المساعدات العسكرية المباشرة لإسرائيل والعمليات الأميركية في المنطقة، وهي كلفة تتصاعد في ظلّ الاحتياج الإسرائيلي إلى مزيد من السلاح والحماية الأميركية. قد ترسم كلفة الحرب حدوداً لدعم ترامب للحرب الإسرائيلية، وهو أحرص من بايدن على تجنّب التورّط في حرب مباشرة مع إيران، وهذا ما لا يتناسب مع طموح نتنياهو الراغب في دفع الولايات المتحدة لتنهي التهديد الإيراني النووي بنفسها. نشر الإعلام الإسرائيلي أخباراً حول طلب ترامب من نتنياهو إنهاء الحرب قبل تولّيه الرئاسة، لكن هذا لا يعني أنه سينهي الحرب بالضرورة، وإسرائيل تسعى إلى إطالة الحرب حتى تحقيق أهدافها. من المبكر قراءة توجّه ترامب حيال الحرب، خاصة قبل معرفة أعضاء فريقه، وما إذا كانوا من صقور المؤسسة الجمهورية أو من خارجها.
التعويل على توجّه الإدارة الأميركية المقبلة لإنهاء الحرب غرقٌ في الأوهام. الطريق لإنهاء الحرب يعبِّده العمل الميداني لتغيير المعادلات على الأرض، بما يسهم في تحديد الشروط لصفقة نهاية الحرب التي يمكن لترامب تبنّيها.
* كاتب عربي
الجمعة 8 تشرين الثاني 2024
قضايا وآراءأسعد أبو خليلملاحظات نقدية على اتفاق وقف النار: السقطة [7]
لا يزال الحديثُ هنا عن اتّفاق وقْف النار الأخير بين «جمهوريّة لبنان ودولة إسرائيل» (بحسب المصطلح الوارد في الاتّفاقية). وذكرتُ في الحلقة السابقة أنّ الاتّفاق في بنده السابع يعترفُ بأنّ منطقة جنوب اللّيطاني هي مرحلة أُولى فقط من اتّفاق سيسري فيما بعد على كلّ لبنان، ولقد أكّد ذلك المبعوث الإسرائيلي ــ الأميركي ووالد صهر ترامب اللبناني.
ثالث عشر، يلحظُ الاتّفاق أنّ عدد قوّة الجيش اللّبناني في الجنوب سيصل إلى 10 آلاف جندي، وأنّ «المجتمع الدولي» (أي اللّوبي الإسرائيلي) سيُحسّنُ قدرات الجيش (أي إنّنا سنحصل على مزيد من الشاحنات وطائرات رشّ المبيدات وصواريخ ذات مدى لا يتعدّى الميل أو الميلَيْن. وهناك احتمال أن تصلنا أيضاً طوّافة زجاجيّة إضافيّة - تلك التي يمكن لتلاميذ المدارس أن يسقطوها بإجاصة).
رابع عشر، يتحدّثُ البند التاسع، بصيغة مُبهمة تحتاج إلى تفاسير من فريق مفاوضات 17 أيّار، عن تطوير اللّجنة الثلاثيّة وإعادة تركيبها التي تجمع بين ضبّاط الجيش اللّبناني وضبّاط العدوّ في جلسات سَمَر وسَهر في الناقورة. وفي هذه السهرات، كان الوفد اللّبناني يقدّم شكاواه بانتظام عن الخروقات الإسرائيليّة المستمرّة لاتّفاقية الهدنة ولقرار 1701. ويتحدّث البند عن منْع «مجموعات مسلّحة محظورة». مَن الذي سيُصدر قرار الحظر هنا؟ الجواب إنّ الحظر سيأتي من إسرائيل نفسها. تخيّل لو أنّ لبنان عرّفَ المستوطنين في الضفّة بأنّهم مجموعة محظورة واجب تفكيكها. ويتحدّث البند حتى عن بنى تحتيّة ومواقع (تحت الأرض وفوق الأرض) غير قانونيّة. أي إنّ الملجأ المُحصّن يمكن أن يشكّل خرقاً بحسب المفهوم الأميركي ـــ الإسرائيلي.
خامس عشر، يحدّدُ القرار دورَ اليونيفيل فقط لحماية إسرائيل، وليس هناك أيّ متطلّبات من إسرائيل أو واجبات. أي إنّ القرار له جانب واحد فقط. القرار في نصّه يعترف للمرّة الأولى أنّ دور «اليونيفيل» لا يسري بتاتاً على الجانب الآخر من الحدود اللبنانيّة.
سادس عشر، يسمحُ القرار في البند العاشر للبلدَيْن بتقديم شكاوى منفصلة إلى مجلس الأمن. وهذا البند أضحوكة بحدّ ذاته؛ لأنّ طرفاً واحداً في الاتّفاق يتمتّع بحماية دولةٍ دائمة العضويّة، والتي تستعملُ حقّ الفيتو بمناسبة وغير مناسبة لحماية عدوان إسرائيل واحتلالها.
سابع عشر، البند الحادي عشر يطلب من الجيش اللّبناني الانتشار «إلى كلّ الحدود» وإلى كلّ المعابر البحرية والبرّية والجوّية. أي إنّ دور الجيش اللّبناني بات مُكرّساً ليس لحماية لبنان بل لحماية إسرائيل في كلّ أنحاء الجمهوريّة اللبنانيّة. أمّا في خطّ جنوب اللّيطاني، فالمطلوب من الجيش نشْر حواجز وعوائق لمنع أيّ مقاوم من الوصول إلى المنطقة العازلة التي تريدها إسرائيل (هنا، طبعاً، يثق المرء بخيال حركة المقاومة وطموحها، والتي اجترحت الأعاجيب في بناء القدرات حتى بعد التوصّل إلى قرار 1701 في عام 2006).
ثامن عشر، البند الثاني عشر يمنح حرّية حركة مذهلة للعدوّ الإسرائيلي، إذ إنّ البند يقول إنّ إسرائيل ستسحب «قواتها» (لا يقول كلّ قوّاتها وهذا الفارق مهم). في عام 1967 طلبت الوفود العربيّة في الأمم المتحدة أن ينصّ القرار 242 على انسحاب إسرائيل من «كلّ الأراضي العربيّة التي احتلّتها في الحرب الأخيرة»، لكنّ أميركا وإسرائيل أصرّتا على صيغة «من أراضٍ احتُلّت»، ما سمح لإسرائيل بتحديد ما تودُّ الانسحاب منه، لأنّها لو انسحبت من 1% من الأراضي فإنّ القرار يكون قد نُفِّذَ من قبل إسرائيل، وهي قالت ذلك عندما انسحبت من سيناء بعد فرْض اتفاقيّة استسلام على مصر. في عام 1967، سمحت الحكومة الأميركيّة بنصّ روسي وفرنسي للقرار وقال بـ«الانسحاب من كلّ الأراضي» لكنّ أميركا فرضت أن يكون النصّ الإنكليزي هو المُعتمَد والغالب، وهكذا كان. القرارُ هنا يقول إنّ قوات إسرائيل (بعضها أم كلّها؟ غير مذكور) ستنسحب «في مراحل» إلى جنوب الخطّ الأزرق. لكن ليس هناك من تحديد لهذه المراحل؟ لماذا لم تصرّ قيادة الجيش على فرض هذا التحديد الضروري؟ صحيح أنّ الجيش لا يقرّر السياسات، لكنّه بصفته الاستشاريّة يستطيع أن يقدِّم النصح للقيادة السياسيّة؛ لأنّه أعلم في المواضع العسكريّة والاستراتيجيّة (نظريّاً على الأقل). يقول البند (في صيغة غير واضحة أو محدّدة) إنّ تطبيق هذا الأمر المحدّد لا يجب أن يستغرق أكثر من 60 يوماً.
> الزلزال المدمّر الذي لحق بالمقاومة (نتيجة عوامل كثيرة بعضها ذاتي وبعضها موضوعي) قلّصَ من قدرتها على فرض اتّفاق أقلّ اختلالاً
تاسع عشر، يقول القرار إنّ حكومتَي لبنان وإسرائيل «تطلبان من الولايات المتحدة أن تسهّل المفاوضات غير المباشرة بينهما بهدف حلّ نقاط الخلاف المتبقيّة على الخطّ الأزرق». 1) كيف يمكن للبنان أن يوافق إسرائيل أنّ أميركا هي المرجع الصالح لأداء دور الوسيط بين لبنان وإسرائيل؟ إنّ قبول وساطة هوكشتين على مرّ السنة الماضيّة أدّى إلى قتْل عدد من اللّبنانيّين. كان هوكشتين يغطّي على عدوان إسرائيل، وكانت مهمّته أحياناً لا تتعدّى التضليل المقصود من أجل أن يباغت العدوّ المقاومة. إنّ أوّل قصْف للضاحية أتى بعد ساعات فقط من تطمينات أعطاها هوكشتين للمسؤولين اللبنانيّين. 2) وإسرائيل دائماً تسعى في الاتّفاقات التي تعقدها مع أعدائها إلى اعتماد صيغة «الإبهام البنّاء» (بحسب تعبير هنري كيسنجر، في وصفه للصيغ المتعلّقة بإسرائيل) لأنّها من خلالها تفعل ما تشاء من دون أن تكون مسؤولة قانوناً عن خرْق روح الاتفاق، بنظرها. 3) لماذا هناك إشارة إلى «نقاط الاختلاف المتبقّية» من دون تحديدها ووصفها؟ هنا نتحدّث عن احتلال إسرائيل لأراضٍ لبنانيّة مثلاً. كيف لا يكون هناك إشارة إليها بالتحديد والخرائط المفصّلة؟ إسرائيل في الاتّفاق أعطت لنفسها الحقّ في التدخّل في الشؤون الداخليّة اللّبنانيّة (في مسائل هي من بديهيات السيادة الوطنيّة) بينما الجانب اللّبناني (والمسؤوليّة كبيرة على الجيش هنا لأنّه الطرف المعني أساساً) يقبل بالإشارة إلى احتلال أرضه بصيغة «نقاط الاختلاف المتبقيّة».
عشرون، ويختم الاتّفاق بالإشارة إلى عودة المدنيّين في الجانبَيْن من الحدود، كما أنّ فرنسا وأميركا تنويان قيادة «الجهود الدوليّة لدعم بناء القدرات والتنمية الاقتصاديّة في لبنان». حتى هذه النيّة الحسنة ظاهراً لا يمكن الركون إليها لأن لا فرنسا ولا أميركا فعلتا شيئاً للبنان بعد الانهيار الاقتصادي. على العكس، فإنّ أميركا منعَت أيّ دولة من مساعدة لبنان لأنّها تربط المساعدات بضرب المقاومة والتطبيع مع إسرائيل. ومن المتوقّع أن تربط أميركا أيّ مساعدة خارجيّة بالطلب من لبنان الالتزام بخطوات تطبيعيّة (من باب إثبات حسن النيّة) نحو العدوّ.
طبعاً، إنّ الاتّفاق أتى في سياق صعب، وصعب جداً. هذه كانت من أصعب الحروب العربيّة الإسرائيليّة ومن أطولها، خاضتها المقاومة في لبنان في ظروف شديدة الصعوبة، ويداها مقيّدتان خلف ظهرها. الزلزال المدمّر الذي لحق بالمقاومة (نتيجة عوامل كثيرة بعضها ذاتي وبعضها موضوعي) قلّصَ من قدرتها على فرض اتّفاق أقلّ اختلالاً. ولو كان التفاوض بِيد الفريق المعادي للمقاومة، أو بِيد أيّ حكومة عربيّة، لأتى الاتّفاق نسقاً غير معدَّل لـ17 أيّار. إنّ عجْز العدوّ عن فرْض اتّفاق استسلام ومنْعه من فرض التفاوض المباشر دليل على أنّ المقاومة بقيت ثابتة في التمسّك بعقيدتها. والاتّفاقات هي في التنفيذ وفي التحايل إذا لزم الأمر. لكنْ هنا الاتّفاق قلّلَ من فُرص التحايل على الجانب اللّبناني ولم يمسّ سجلّ الخروقات الهائل للعدوّ الإسرائيليّ. تستطيع إسرائيل أن تستمرّ في خروقاتها البحريّة والجويّة والبريّة، كما أنّ الراعي الأميركي يستطيع أن يمنحها حقّ الخرق بغطاء تشريعي دولي منها، طالما أنّ لبنان قبِل بأميركا كحَكم بيننا وبين إسرائيل.
إنّ تاريخ إسرائيل في المفاوضات العربية معها، حوْل وقْف النار أو وقْف العمليات العدائية أو اتفاقيات السلام، يستفيد دائماً من الاستسهال العربي في التحضير لاتّفاقات تعتمد، نظريّاً، على القانون الدولي وخصوصاً في مواضيع الصياغة والمفردات والمصطلحات. القانون الدولي ليس هو الحلّ، وليست الشرعية الدولية هي الحلّ، وخصوصاً أنّ أميركا تستعملهما كأدوات لتنفيذ مخطّطاتها وفرْض هيمنتها وإنقاذ حليفتها إسرائيل من العقوبة والمحاسبة والتشهير. ومنذ إنشاء الدولة النازية على أرض فلسطين، تتعامل إسرائيل مع القانون الدولي بخفّة واستسخاف وسخرية، متى لزم الأمر. هناك غير مشهد لتمزيق ديبلوماسيين إسرائيليين لقرارات من الأمم المتحدة رأت فيها إسرائيل إجحافاً بحقّها. لا يجب أن يلوذ لبنان بالقانون الدولي أو الشرعية الدولية أو ما يسمّى اعتباطاً بالمجتمع الدولي. إنّ كلّ الفريق الذي ينادي بالشرعية الدولية والقانون الدولي هو فريق مرتهَن بالكامل للتحالف الخليجي-الإسرائيلي-الغربي. الذين يريدون أن يعتمد لبنان في مواجهة إسرائيل على المجتمع الدولي، يسلّمون رقبة لبنان وأهله للمقصلة الإسرائيلية. هم يفعلون ذلك عن عمْد وليس عن جهل. هم ينطقون بالأجندة الإسرائيلية التي منذ النكبة تريد أن يكون لبنان خانعاً ذليلاً مستسلماً لها كما كان في كلّ سنوات ما قبل الحرب الأهلية. إنّ السيادة اللّبنانية والكرامة اللّبنانية مشروعان صعبان؛ لأنّ أكثر من نصف شعب لبنان ينفرون من هذه القيَم ويسخرون منها لأنّها تعني أنّ لبنان، رغم صغر حجمه وإمكاناته المتواضعة، يمكن له أن يتفوّق في الوطنية على دول عربية أكبر وأثرى منه.
الاحتراز والحذر واجب في كلّ قرار تكون إسرائيل شريكة فيه، وخصوصاً إذا ما كانت أميركا راعية مباشرة له. في هذا القرار لا تؤدّي أميركا فقط دور الراعي، بل هي تؤدّي دور الحَكم بين لبنان وبين دولةٍ هي الأكثر حظوة بين كلّ الدول عند أميركا. يستطيع لبنان أن يصرّ على الطلب من اللّجنة المولجة بأن تضع تفسيرات تفصيلية ومحدّدة للبنود التي صيغت على أساس الإبهام المقصود. كما أنّ ما تسرّب من الأوراق الملحقة التي تبادلتها أميركا مع إسرائيل تعطي إسرائيل منحة إضافية في حقّ الردّ والتفجير والقتل والقصف. حتى إنّ أميركا تستطيع هي أن تقوم بعمليات قصف وتدمير إذا اتّفقت مع إسرائيل على ذلك بحسب الأوراق المتبادلة بينهما. هذه الأوراق المتبادلة كان يجب أن تكون على طاولة المفاوضات التي حضَرها لبنان لأنّها تنقضُ بعضَ ما جاء في الاتّفاق المذكور. المهم في الأمر أنّ المقاومة صمدت حتى اليوم الأخير وأنّها لم تختفِ عن الميدان، واستطاع لبنان بعد أطول حرب مع إسرائيل أن يفرضَ على العدو وقْفَ النار رغم الكوارث التي لحقت بصفّ المقاومة، على صعيد لبنان وعلى صعيد المنطقة برمّتها.
* كاتب عربي
{@asadabukhalil} حسابه على اكس
السبت 14 كانون الأول 2024
قضايا وآراءسعد الله مزرعانيمرحلة تحرّر وجبهات مُواجهة
في مقالتين سابقين صدرتا تباعاً السبت الماضي والذي قبله (30/11 و6/12)، تناولت في أولاهما تحديد موقع الصراع في لبنان بوصفه جزءاً من الصراع في منطقة الشرق الأوسط الذي هو، بدوره، جزءٌ من صراع دولي، طرفه الأول الولايات المتحدة وحلفاؤها وأتباعها، وطرفه الثاني منافسوها وخصوم سيطرتها الاستعمارية، في كل أنحاء العالم. في المقالة الثانية، حاولت البرهنة، بشكل موضوعي، على أن محصلة وقف إطلاق النار بين العدو الإسرائيلي ولبنان والمقاومة، هي شبه تعادل في الأرباح والخسائر. وللتحديد أكثر، في هذه المرحلة، وبموجب هذا التوصيف، فإن الصراع في لبنان، بين المقاومة والعدو الصهيوني، إنما هو صراع مستمر، رغم وقف إطلاق النار، في محاولة مكشوفة من العدو وداعميه («الوسيط» الأميركي خصوصاً) لتمكين العدو من تحقيق أرجحية على حساب المقاومة ولبنان. وهو كذلك مستمر كونه جزءاً من المعركة المستمرة، بدورها، وبضراوة، بين الشعب الفلسطيني خصوصاً، وبين العدو الصهيوني وشركائه في حرب الإبادة. أي إنه، بالمعنيين العام والخاص، صراع متواصل، منذ انطلاق عملية «طوفان الأقصى» التي تخضع، هي أيضاً، للعلاقة بين المحتل وبين الشعب الذي ابتلي باستعمار استيطاني فُرض عليه وعلى وطنه: بالتآمر وبالعنف والتهجير والقمع والمطاردة ولا يزال.
أكَّدت عملية «طوفان الأقصى» بأن القضية الفلسطينية حيَّة في سواعد أصحابها وضمائرهم وفي تضامن ومشاركة، قوى وجهات تبنّت أولوية القضية الفلسطينية ومركزيتها في الصراع مع العدو الصهيوني وداعميه. وحيث أن الشعب الفلسطيني، في هذه الجولة من الصراع، قد صمد صموداً أسطورياً في مواجهة آلة الحرب والقتل والدمار الإسرائيلية المدعومة بالكامل من واشنطن والمعسكر الأطلسي، فقد انتسب كفاحه، في الأسباب والمجريات، إلى الصراع الدولي العام أكثر من أيِّ وقتٍ مضى. ثم أن هذه المرحلة من الصراع قد أكدت، بأكثر الأدلة إقناعاً وإيلاماً وأذية، أن المعركة لم تكن، وليست ولن تكون، فقط، مع الاحتلال الاستيطاني الصهيوني وخلفه مجمل الحركة الصهيونية العالمية، بل هي، أساساً، مع معسكر واشنطن الاستعماري الإمبريالي الذي أسس لنشوء الكيان الصهيوني بالوعد المشؤوم الشهير عام 1917 في ظل الانتداب البريطاني على فلسطين وجزء من المنطقة. وهو قد رعى عملية نشوء ذلك الكيان وأمدّه بأسباب القوة في كل الحقول. كذلك فعلت واشنطن حين أزاحت لندن عن صدارة القوة والتوسع في العالم، لتصبح هي القوة الراعية والداعمة للمشروع الصهيوني في فلسطين، بكل الوسائل على غرار ما شهده العالم بأم العين ولا يزال، من دعم خاص شامل للعدوان الصهيوني بما يفوق الشراكة إلى تأكيد أن إسرائيل هي أداة مباشرة، وأساسية، على صعيد منطقة الشرق الأوسط لخطة العدوان الأميركية: للسيطرة عليها بكل الوسائل، بما في ذلك الاحتلال والعنف والشرذمة والتفتيت، وآخر النماذج ما حصل قبل أسبوع في الشقيقة سوريا.
إنّ سمة هذا الصراع الدولي والإقليمي والمحلي، هي سمة تحررية عامة. وحيث أن قوى العدوان والاستعمار موحَّدة، عموماً، في توجهاتها وخططها عبر أطر ومؤسسات سياسية وعسكرية وأمنية واقتصادية ذات طابع إقليمي أحياناً، ودولي عموماً، فإن القوى الأخرى تفتقد تلك الوحدة بسبب تنوعها وتباين ظروف نضالها ومنطلقات توجهاتها وبرامجها. وهي تقع في تصنيف لينين الشهير تحت عنوان «الشعوب المضطهدة» وإن شملت حكومات تعاني من التسلط والنهب من قبل الرأسمال المعولم، أو حتى دول تمسك بالسلطة فيها طغم محلية تابعة وعميلة تلعب دوراً خطيراً في استرهان بلدانها وفي خدمة مشاريع السيطرة الاستعمارية في الحقول كافة. إن الجامع التحرري العام هو الحافز المحوري والجوهري من أجل صياغة برامج تحررية محلية ذات بعدين إقليمي وأممي بالمعنى النضالي المشترك: ضد العدو الأساسي الواحد والموحّد وضد أدواته في المرحلة التاريخية الراهنة.
أمّا إطار العمل أو صيغته المناسبة، فهي «الجبهة الوطنية». وهي صيغة يجتمع أطرافها المتنوعون، وحتى المتباينون في الخلفيات الفكرية أو الإيديولوجية أو الطبقية، في مشروع عمل مشترك ذي أولوية أساسية ومشتركة وحاسمة في توفير فرص التغيير وانتصار مشروعه. هذا التوحد لا يلغي أبداً التنوع والتباين وحتى التناقض في الأهداف البعيدة في ما يتعلق بتطور البلد المعني في المستقبل بعد إنجاز المهمة التحررية المشتركة وذات الأولوية الحاسمة كما أشرنا.
في ظروف لبنان الراهنة، يتعاظم الخطر الإسرائيلي مقروناً بإعلان أطماع جغرافية تتناول كل جنوبه. وبسبب الصيغة الراهنة لوقف إطلاق النار المفخَّخ بنص سيئ ورقابة أميركية كاملة الانحياز للعدو وشريكة له في عدوانه، يصبح العدو واضحاً بشكل لا يترك مجالاً للالتباس أو الخطأ. وبعد أزمات متراكمة بسبب النهب والفساد، تكبر المخاطر وتتعاظم أهمية العمل التحرري المشترك. كان ينبغي المباشرة بذلك قبل الآن، في مواجهة النهب المحلي والتدخل الخارجي الذي أخطره التدخل الأميركي. ليس من المقبول بعد الآن المراوحة في الاستنقاع السابق الذي تعززه الفئويات وسوء التقدير بشأن المرحلة والأولويات. هذا أمر لا يحتمل التأجيل. والتجربة اللبنانية التي كانت رائدة في مجالات عدة أهمها مقاومة العدو وهزيمته بالمقاومة والتوحد الجبهوي مقرونين بالمبادرات والبطولات والتضحيات، تشكل أساساً لتطوير صيغ جديدة وفعّالة وفقاً لما تطلبه المرحلة الراهنة وما تحمله من مخاطر تتزايد كل يوم.
إن ما ينطبق على لبنان ينطبق، أيضاً، على البلدان العربية الأُخرى، مع مراعاة الظروف الملموسة، الموضوعية والذاتية، في كل بلد. النضال التحرري، كما هو وطني، هو، بالضرورة أيضاً، قومي وشامل: ولا مبرر لأي تأخير في المبادرة والتحرك الهادف وفي المضي بثبات وتصميم.
* كاتب وسياسي لبناني
السبت 14 كانون الأول 2024
قضايا وآراءأيهم السهليسوريا لشعبها
سقط النظام في سوريا، وكنت أظنه جبلاً لا أمل بزعزعة أركانه. ما حدث في ليلة 8 كانون الأول، حصيلة سنوات طويلة من الكبت والسكوت والخوف، وحصيلة ثورة قامت في آذار 2011، و11 يوماً عشناها منذ 27 تشرين الثاني الماضي.
لا بد من توتر وريبة وخوف جديد، لا يمكن الإفلات من كل ذلك، مرة لأن سوريا ابنة الخوف على مرّ أكثر من خمسين عاماً، ومرة لأن القادمين الجدد يبدون ما هو جيد حتى الآن، بحسب مسموعات كثيرة من أنحاء سوريا، من دمشق واللاذقية وطرطوس وحمص. وشخصياً، بوصفي أقف في طرف آخر من "الإسلام السياسي" أو "الجهادي"، أجد أن هناك أموراً لا بد من ملاحظتها، والانتباه إليها، وعدم الاكتفاء بالأشياء الجميلة التي تأتي من دمشق، وهي حقاً جميلة، ومفاجئة للبعض. أولى الملاحظات علم "هيئة تحرير الشام" في أول اجتماع حكومي (10/12/2024)، ما أسباب ذلك؟ هل هي رسالة إلى أطياف الشعب السوري، أن القادم لون واحد؟ تعدّل الأمر في مقابلة أجراها رئيس الحكومة الانتقالية المكلّف محمد البشير مع قناة "الجزيرة"، إذ وضع إلى جانبه فقط العلم السوري الجديد، وللإنصاف، معظم ما قاله في المقابلة مبشّر، علماً أن حكومته ستستمر حتى مطلع آذار. في الملاحظة الثانية، إن حقّ لي أنا الفلسطيني أن أضع ملاحظات على حالة جديدة في سوريا، فإنها تكمن في اجتماع الحكومة ذاته، وبعض ما قيل لاحقاً من رئيس الحكومة المقبلة في مقابلة "الجزيرة"، بأن الحكومة المؤقتة -التي تشكّلت بتوجيهات من القيادة العامة- تستند في نواتها إلى حكومة الإنقاذ التي كانت تعمل في شمال غربي سوريا. لكنّ حكومة الإنقاذ في إدلب كانت من لون واحد، فهل ستكون الحكومة السورية من لون واحد أيضاً، أم أنها ستشمل كل التنوع السوري؟! وهذا ما يجب أن يكون، وإلا كيف سيشعر الجميع بالأمان، ليس من "هيئة تحرير الشام" بل من المستقبل الذي يفترض أن ترسمه معالم الدولة القادمة، والانتخابات التي ستأتي بقوى جديدة، وبتشكيل وطني جديد، يبني سوريا لكل السوريين. ■ ■ ■
الكتابة عن سوريا ليست سهلة على الإطلاق، فهذا البلد الكبير، المركزي في المنطقة والعالم، يخيف من حجم المسؤولية الملقاة على عاتق كل من يتحدّث عنه، أو باسمه. ويخيف كاتب الرأي، والصحافي. وفي المرحلة القادمة لا بد أن يخيف حاكمه. بلد لم يُجرّب فيه توجه آخر منذ تسلم أو انقلاب "البعث" عام 1963 للسلطة، ومنذ تولي حافظ الأسد رئاسة البلاد حتى وفاته عام 2000، وتوريث السلطة لابنه بشار الذي أطيح به قبل أيام. هذا البلد الذي لم يجرّب سياسة أخرى، لم يجرّب أيضاً أن يكون للمواطنين فيه رأي، أو حتى همسة رأي إلا في الغرف المغلقة، والأماكن التي لا يسمع فيها أحد صوت الناس، إلى أن اقتنع الناس بأن الجدران في سوريا لها آذان تسمع. ولم يجرّب مواطنوه معنى المواطنة سوى بالشعارات الملقّنة.
إن الكتابة الآن عن سوريا تحتاج إلى حب واحترام لأصحاب البلاد، لأهلها الذين عانوا ما عانوه، وبسبب الكثير من السياسات داخل البلاد، تحولوا إلى شخصيات هامشية في بلدان الجوار، يتم التعامل معهم بشيء من عدم التقدير والاحترام. حتى باتوا بنظر البعض شخصيات يمكن التنمّر عليها. لن أقول إن هذا الواقع تغيّر، لكنه في طريقه إلى التغيّر، فالبلاد عادت إلى أهلها، ومن المفروض بعد اليوم أن أي نظام سيحكم سوريا، سيحسب حساب الشعب في كل صغيرة وكبيرة، وسيتوقّع الثورة عليه. فالشعب الذي ثار عام 2011، وتمكّن من الفوز اليوم، سيثور مجدداً على الظلم لو وقع. وسيثور لحماية بعضه لو مسّ أحد خصوصية الشعب، وثقافته الشعبية المتوارثة منذ آلاف السنين. ■ ■ ■ وعطفاً على ما سبق، يبدي كثيرون مخاوف من مسائل متعددة، منها التقسيم. الشعب السوري يعرف طريقه جيداً، وفيه من الطاقات ما يجعله قادراً على النهوض ببلده، بمكوّناته كافة. لذا ففكرة التقسيم لن تكون واردة لأن الناس لن يقبلوا بها، ولأن البلد متكامل بعضه مع بعض. وهذا التكامل هو الذي أدّى في وقت من الأوقات إلى الاكتفاء الذاتي.
وهناك مخاوف حول مسألة فلسطين، وهذه الجزئية تنقسم إلى قسمين: الأول: القضية الفلسطينية، وهنا أسجّل رأياً من باب العارف بسوريا وشعبها، فهذا الشعب، وليس من باب الرومانسيات، يعرف فلسطين مثل الفلسطينيين، وإن كان لا يعرف تفاصيل القضية، عكس ما كان يُروّج، وهذا مدخل للقسم الثاني، وهو الشعب الفلسطيني في سوريا. فالفلسطينيون في هذا البلد عاشوا كالمواطنين السوريين تماماً، حتى إنهم تساووا بحرمانهم من حقّي الانتخاب والترشح (على اعتبار أن كل الانتخابات التي جرت سابقاً كانت محسومة وكانت شكلية) ووضعهم كالمواطنين السوريين، كان منذ عهد شكري القوتلي، بالقانون الرقم 260 لعام 1956، والذي يعرّف غير السوري على أنه كل شخص لا يحمل الجنسية السورية باستثناء الفلسطيني، وفق تعبير "السوريين ومن في حكمهم". لذا فالفلسطيني في سوريا مصون بالشعب السوري. وكانت نتيجة هذا الصون، أن الفلسطينيين في سوريا، تعريفهم في حياتهم وأعمالهم بالقول: "فلسطيني سوري أو فلسطيني من سوريا". هذا التعبير الذي يخرج عفوياً له جذوره، وهو بشكل رئيسي وأساسي العلاقة الكاملة بين الناس في السراء والضراء، وهو ما انسحب على الثورة السورية، حين اتخذ الفلسطينيون مواقفهم مثلما انقسم الشعب السوري بين مؤيد ومعارض، وتحديداً في مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين، الذي كانت مفارقته الجوهرية أن الأقلية من سكانه هي من الفلسطينيين، لكنّ هويته المعنوية فلسطينية سورية.
وهنا، يحق السؤال عن فلسطين والأراضي السورية المحتلة لدى الحاكمين الجدد، على اعتبار أنهم سيمثّلون الشعب السوري. ■ ■ ■ ليس خافياً أن بعض الفئات في سوريا وفي لبنان خائفة من "زلزال" سوريا، وهذا الخوف دفع البعض، ولا سيما في لبنان، ليقرر عن السوريين ما كان يجب أن يكون في بلدهم. ولعل هذه النقاشات هي الدائرة في بيروت منذ أيام، ولا شيء سواها. لكنّ الجديد أن هناك من بدأ يقدّم مراجعات منطقية لما حدث في سوريا، بالعودة إلى سنوات من الصراع. ولعل مشاهد المعتقلات في سوريا، ساهمت إلى حد كبير في خلق أسئلة جديدة وجوهرية لدى الجميع، عن حقيقة النظام الذي كان قائماً. إضافة إلى معطيات جديدة، كانت غائبة عن البعض، أو متجاهلة أحياناً، وُضعت الآن على طاولات الحوار الكثيرة، وهي أولاً كرامة الشعب السوري في بلده، وحقه في تقرير مستقبله وحده من دون إملاءات أو تدخّلات، فضلاً عن معدة السوريين التي جاعت بكل ما للكلمة من معنى. وأخيراً عن دور الدول الإقليمية في المنطقة، وماذا فعلت إزاء كل المتغيّرات التي جرت منذ أكثر من سنة، ومنذ أقل من ثلاثة أشهر؟
الخوف الموجود مبرّر، وله أسبابه التي خلقت الأسئلة والمعطيات الجديدة، ومع ذلك هناك من يجب أن يوضح مآلات الأمور إلى أين، وأن يقدّم خطاباً يطمئن، مع عدم إغفال المحاكمة العادلة لمرتكبي الجرائم والانتهاكات بحق الشعب السوري وسوريا. كما على الإعلام من الطرف الآخر أن يكون أكثر جدارة بالمرحلة، فيستيقظ على الواقع الجديد، وينتبه إلى أن الفئة التي تشاهده هي من لون واحد، وهي خائفة اليوم، وعلى هذا الإعلام أن يقلّل من اللعب، أو ينهيه، لأن مرحلة جديدة بدأت، وعلى الجميع تحمّل مسؤولياته الوطنية والأخلاقية. *صحافي فلسطيني
السبت 14 كانون الأول 2024
قضايا وآراءبدر الحاجأخطر مرحلة منذ رحيل العثمانيين: التمدّد الصهيوني يهدّد وجودنا في الصميم
سقط نظام البعث في دمشق وتكفل الصهاينة بتدمير الجيش السوري على الطريقة التي اتبعها الأميركيون في العراق بعد احتلاله. واليوم بدأ التشظي في سوريا إذ تُنشر أخبار موثقة بالصورة عن عمليات قتل وسحل ونبش للقبور.
لكن بغض النظر عمّن يحكم في دمشق، فإن أخطر ما تواجهه سوريا الآن هو استيلاء الاحتلال الصهيوني على ما تبقى من الجولان. عملياً، الاستيلاء على منطقة حوران باعتبار أنها كانت جزءاً من الجولان في السابق، وهذا يعني ضمها كما الجولان المحتل إلى الكيان الصهيوني. ومن المؤشرات التي تؤكد تلك المخاوف ارتفاع أصوات من دروز فلسطين ومن بعض العملاء في السويداء تدعو «القائد نتنياهو» لاعتبار حوران خطاً أحمر كما الجولان، وضمها إلى دولة إسرائيل.
*
عملية الضم القسري لما تبقى من الجولان حتماً تمت بموافقة الأميركيين وبصمت من حكام دمشق الجدد. لكن سيدرك السوريون عاجلاً أم آجلاً أن التوسع الصهيوني يعني السيطرة على جميع مصادر المياه الغزيرة من جبل الشيخ، إضافة إلى السيطرة العسكرية على دمشق والجنوب السوري وقسم كبير من جنوب لبنان مع ما تعنيه هذه الخطوة من تدمير ممنهج للكيان السياسي والاجتماعي الذي ثبت بعد رحيل الفرنسيين.
هذا الضم الزاحف للأرض السورية لن تقتصر مفاعيله على الكيان الشامي، بل له انعكاسات في غاية الخطورة على لبنان. وبالعودة إلى المطامع الصهيونية في حوران يتبين لنا أن الصهاينة نجحوا بداية في السيطرة على مساحة لا بأس بها من المنطقة كانت بحدود 21 ألف هكتار من بينها 12 ألف هكتار بالفجيرة بالقرب من بلدة الشيخ سعد، وتسعة آلاف هكتار بالقرب من دمشق على سفوح جبل الشيخ. ويشير تقرير أمني صادر عن المفوضية الفرنسية في دمشق بتاريخ 18 أيلول 1918 إلى التالي: «تمتلك الوكالة اليهودية في فلسطين أراضي في حوران لا تستقي منها كل الفائدة المرجوة. ويمثل مجموع هذه الأراضي ما يعادل 813 ألف دونم. وقد اشترتها عائلة روتشيلد بانتظام، قبل ثلاثين عاماً تقريباً، بسعر بخس في ظل النظام التركي من أحمد باشا شما، وهو ملاك ثري من دمشق، لكن باسم البارون سالمون ريناخ، لأن آل روتشيلد كانوا يمتلكون أراضي في فلسطين وكانت الحكومة التركية تضع عقبات أمام الأجانب كيلا يصبحون من كبار ملاكي الأراضي».
وتدريجياً أقيمت المستوطنات بتمويل البارون إدمون دو روتشيلد في قرى سحم الجولان، جلين، نبعة، وبوسطاس التي قدرت مساحتها بحوالى مئة ألف دونم. وتم شراء المزيد من الأراضي بواسطة عملاء يهود من لبنان أبرزهم إلياهو شديد. ونظراً إلى أن القانون العثماني كان يمنع بيع الأراضي التي تملكها الدولة (ميري) لليهود الذين لا يحملون الجنسية العثمانية، قام شديد بزيارة إسطنبول وتوسط لدى السلطنة للسماح بدخول 200 - 300 عائلة يهودية سنوياً إلى حوران والاستيطان في الأراضي التي تمّ شراؤها هناك.
أثار الوجود اليهودي في حوران السوريين ووقعت هجمات من قبل البدو القاطنين في المنطقة ضد الغرباء، ولكن سرعان ما أصدر حاكم دمشق كاظم باشا أمراً بطردهم. وبعد هزيمة الأتراك عام 1918 سعت «الشركة الصهيونية لشراء الأراضي» (بيكا) التي يمولها روتشيلد مع الملك فيصل إلى استعادة الأراضي التي كانت تملكها ونجحت في ذلك، واستمر الوضع إلى أن ألغت الحكومة السورية عام 1948 النشاط الاستيطاني في حوران.
وخلال مرحلة الاحتلال الفرنسي لسوريا ولبنان، كان الفرنسيون يراقبون بدقة عبر أجهزتهم الأمنية النشاط الاستيطاني الصهيوني الزاحف في الجليل الأعلى والجولان، وقاموا بسن قوانين تمنع الاستحواذ على الأراضي من دون موافقة السلطات الفرنسية. وتشير وثيقة أرسلها الجنرال ويغان المندوب السامي الفرنسي في سوريا ولبنان والقائد الأعلى لجيش المشرق وجهها إلى وزير الخارجية الفرنسية بتاريخ 8 تموز 1924 إلى التالي: «بدلاً من الاكتفاء بجلب الإسرائيليين المشتتين إلى فلسطين، يطالب بعض الصهاينة الآن بإلحاق كل الأراضي التي يعيش فيها اليهود بفلسطين. لن أستفيض إلى حد عرض الخريطة التي أصدرها الصهاينة في عام 1917 على سعادتكم، وهي خريطة تجد فيها الحدود الشمالية للدولة اليهودية بتماس مع الخط الحديدي بين بيروت ودمشق وتضم صور وصيدا وجزءاً كبيراً من جنوب لبنان. أيضاً بمناسبة التنازل أخيراً عن أراضي المطلة لفلسطين، هناك مطالب في فلسطين تطال جبل حرمون وجنوبي البقاع». ويختم بالقول: «من جانب آخر أخبرني صهاينة في جنوب دولتي لبنان الكبير ودمشق بحالات عدة لشراء الأراضي، إلى حد أنني أجد نفسي مكرهاً على دراسة إن كان ممكناً إيقاف هذا التوسع باستخدام نص تشريعي يمنع شراء الأجانب للأراضي في بعض المناطق».
> المسألة ليست سقوط الأسد، واستلام فريق آخر الحكم، الموضوع الأساسي أن تدمير سوريا من قبل الصهاينة والغرب هدفه الأول والأخير تثبيت الكيان الصهيوني كقوة مهيمنة أساسية في بلادنا
شعور سلطات الاحتلال الفرنسي بخطورة التوسع الاستيطاني اليهودي في أراضي سوريا ولبنان، يؤكده عدد من التقارير الأمنية الفرنسية. وتبين تلك التقارير أن الصهاينة لجأوا إلى وسائل مختلفة للوصول إلى أهدافهم، ومنها الضغط على السلطات في باريس لتسهيل شرائهم الأراضي، أو عبر تكليف مكاتب محاماة في بيروت العمل للاستحواذ على الأراضي المنوي شراؤها بأسماء لبنانية، ثم تنقل بعد مدة إليهم بوصفهم الشاري الفعلي. لذلك أصدر الجنرال ويغان توجيهات إلى الدوائر العقارية بمنع الشركات التجارية اللبنانية أو السورية أو الأجنبية الاستحواذ على الأملاك غير المنقولة أو امتلاكها أو التصرف بها. أعقب ذلك في تقرير رقم 4933 بتاريخ 5 أيلول 1924 بمراقبة عمليات بيع الأراضي لليهود. وتطور الأمر إلى إصدار توجيهات تقضي بحظر القيام بأي إجراء شكلي لنقل الملكية باسم يهود مقيمين في فلسطين.
أصبح الاستيلاء على هضبة الجولان وضمها رسمياً إلى الدولة اليهودية وإقامة مستوطنات ومشاريع ضخمة فيها، أمراً واقعاً مفروضاً بالقوة العسكرية. ولذلك أعتقد أن التوسع الأخير واللعب على المنازعات المذهبية بهدف تحريض الدروز السوريين على حتمية انفصالهم عن وطنهم، سيصبح أمراً واقعاً جديداً ما دام أن السوريين حالياً منهمكون بتصفية بعضهم بعضاً.
الإستراتيجية الصهيونية الحالية هي تنفيذ لمشاريع صهيونية سابقة. وقد أدرك الصهاينة الأوائل، أمثال بن غوريون وشاريت، أن تثبيت الكيان اليهودي في فلسطين يوجب تقسيم ما قسمته اتفاقية سايكس - بيكو على قاعدة انعدام وجود قواسم مشتركة بين السوريين. لذلك اقترحوا المسارعة إلى إقامة كيانات مستقلة أسوة بالكيان اليهودي في فلسطين على أسس طائفية ومذهبية أو إثنية. وهذا مشروع سبق للفرنسيين أن حاولوا تنفيذه، لكنه فشل.
ومن الأمثلة على تلك المخططات، ما جاء في كتاب دافيد بن غوريون الذي نشر باللغة الإنكليزية سنة 1974 بعنوان «محادثاتي مع الزعماء العرب». جاء في هذا الكتاب نص محضر لقاء ضم كلاً من الدكتور يهودا ماغنس رئيس الجامعة العبرية ودافيد بن غوريون وجورج أنطونيوس في 29 نيسان 1936 بهدف التوصل إلى اتفاق عربي - يهودي. وقد أصر ماغنس خلال اللقاء على وجهة نظره الداعية إلى إعطاء «العلويين واللبنانيين والدروز مقاطعات منفصلة، وكذلك منطقة شرق الأردن إلى جانب دولة فلسطين اليهودية» (صفحة 57).
الأمثلة كثيرة على نوايا الصهاينة في التقسيم. وأختم بما جاء في كتاب ميخائيل بن زوهار بعنوان «النبي المسلح - السيرة الذاتية لدافيد بن غوريون» (1967) حيث ذكر في الصفحات 234 - 236، أنه أثناء التحضيرات السرية للعدوان على مصر سنة 1956 عرض دافيد بن غوريون رئيس الحكومة الإسرائيلية أمام المسؤولين الفرنسيين في الاجتماع السري الذي عُقد في قصر سيفر تفاصيل خطته التي تتلخص أولاً القضاء على عبد الناصر، ثم تقسيم الأردن إذ تصبح الضفة الغربية تحت السيطرة الإسرائيلية، أمّا الضفة الشرقية، فتكون تحت سيطرة العراق (نوري السعيد). وأضاف بن غوريون يقول إن القوات الإسرائيلية ستتقدم إلى نهر الليطاني جاعلة منه الحدود الشمالية لدولة إسرائيل. أمّا القسم الآخر من لبنان، فستقام عليه دولة مسيحية.
ختاماً، إذا لم نكن على دراية بما يخططه الأعداء لبلادنا، فإن الحروب الداخلية باسم الدين والطائفة والتمايز الإثني أو العرقي ستكون بمنزلة مقبرة لنا جميعاً. لم يسبق لبلادنا منذ رحيل العثمانيين عن أرضنا أن شهدت مثل هذه المخاطر الوجودية على الإطلاق. حتى نكبة فلسطين عام 1948، وحروب الصهاينة ضدنا منذ النكبة، لا تقارن بالنسبة إلى مخاطر اليوم. المسألة ليست سقوط الأسد، واستلام فريق آخر الحكم، الموضوع الأساسي أن تدمير سوريا من قبل الصهاينة والغرب هدفه الأول والأخير تثبيت الكيان الصهيوني كقوة مهيمنة أساسية في بلادنا.
ولمن خانته الذاكرة: كان الفلسطينيون خلال ثورة البراق يرفعون في مظاهراتهم شعارات «فلسطين جزء من سوريا». أمّا اليوم، فيعلن الصهاينة على الملأ أنهم على طريق إقامة إسرائيل الكبرى. يبقى الأمل في أن يدرك الجميع، وعلى رأسهم السوريون واللبنانيون تحديداً، أن لا خيار أمامهم سوى مواجهة الاحتلال الصهيوني، وإلا فإن الصهاينة سيتحكّمون في كل أمورهم.
* كاتب لبناني
السبت 14 كانون الأول 2024
قضايا وآراءكمال خلف الطويلعن خيانة حلّ الجيش.. و7 ميليشيات
انعقد لساني دهشةً وألماً حين أتاني، ليل الأحد 7 ديسمبر - بالتوقيت المحلي - وبعيد برهة من مغادرة الأسد دمشق إلى موسكو، نبأ أنه قد أبلغ قيادته العسكرية قبل الظهر بأمر Stand Down، ففرّوا من توّهم إلى بلداتهم ومعاقلهم دون أن يخطروا مراتب القوات المسلحة والأمنية من عداهم به. بعيد ساعات، أحسّ الضباط الأواسط - من مقدّم إلى نقيب - بما فعله الضباط "العظام"، فذهبوا في إثرهم، من دون تنزيل الأمر لمن هم أدنى في السلّم العسكري. مع ساعات المساء، أدرك الملازمون، أول وثانٍ، ما جرى فأخطروا ضباط صفهم والجنود بأن يخلعوا زيّهم العسكري ويغادروا الثكنات إلى منازلهم وبلداتهم. كانت ليلة 8/7 ونهار 8 ديسمبر، مشهد عار، أين منه الانسحاب الكيفي من الجولان في 10 حزيران 67. لقد هام عشرات ألوف الجنود على وجوههم في دمشق وحولها، متّخذين طريقهم إلى مرائب باصات المحافظات شمال دمشق، وملقين سلاحهم على الأرصفة والشوارع. ما معنى Stand Down لجيش؟ يعني حلّه الطوعي، وبأمر من قائده العام - رئيس البلاد -؛ أي ذات ما فعله حاكم الاحتلال الأميركي، بول بريمر، بحلّه الجيش العراقي في مايو 2003. هذا القرار، بذاته، فعلُ خيانة وطنية عظمى، وبامتياز... وهو ما أودى إلى أنّ كل المعدات العسكرية أضحت Unmanned، ما جعل مهمة الطيران الإسرائيلي أكثر من يسيرة في تدميرها على أهون حال (صحيح أن الطيران الإسرائيلي قصف أهدافاً استراتيجية عبر البلاد، منذ يناير 2013، لكن نجاحاته قُيّدت باعتراض الدفاع الجوي السوري ما استطاع).
أقول: إن لم تكن تلك هي الخيانة، فما تعريفها؟ طيّب، لنحاول أن نربط الحوادث سعياً لرسم صورة شافية لما جرى، بدءاً من الزمن القريب ثم الأبعد: في 26 نوفمبر هدّد نتنياهو الأسد بأوخم العواقب ما لم يقطع خط الإمداد لحزب الله. اعتبر الأسد أن التهديد جدّي وحالّ، ولا سيما حين شاهد "الهيئة" تشنّ هجومها على غرب حلب، في 27 نوفمبر، فاغتنم مناسبة تخرّج بكره في موسكو، يوم 29 نوفمبر، ليصلها، ثم ليلحّ في مقابلة بوتين - والذي كان في باكو - وانتظر يوماً ونيّفاً حتى التقاه. أسمعه بوتين ما سبق له أن قاله له في 24 تموز الفائت: اقبَل مبادرة إردوغان للصلح من توّك؛ لا رجاء لك الآن بدونها، وأنا غير قادر على إنجادك، ولا سيما أن تقاريرنا عن الأيام الأربعة الفائتة تدلّ على جيش غير راغب في القتال، سربي الجوي عندك سيحاول تأخير اندياحهم جنوباً، بأمل أن تتدبّر خلالها مخرجاً مع إردوغان. عاد، في 1 ديسمبر، ليقابل عرقجي في دمشق، وليسمع منه الرأي ذاته في أداء جيشه، فما استطاع سوى أن يوافقه. ثم سمع منه أن إيران، مع روسيا، ستحاولان الوصول إلى كلمة سواء مع تركيا، فأجابه بطلب نجدة عسكرية عراقية - لبنانية - إيرانية فورية! (أنفق العام ونصف الأخير وهو يحاول أن يوفّق بين روابطه الروسية والإيرانية والخليجية - المستجدّة، قابضاً على الأولى، متخفّفاً بمقدارٍ من الثانية، ومنصتاً بتردّد للثالثة... فانتهى بخسران الجميع). ما لنا؛ مع سقوط حماة، في 5 ديسمبر، استنتج الأسد أن الأمر قد قضي، فاتّخذ قراره برفض كل الوساطات والمخارج - بما فيها تسليم السلطة إلى مجلس عسكري يدير البلاد ويتفاوض مع المهاجمين على صيغةٍ تحفظ الدولة -، والخروج إلى المنفى الروسي، مع عائلته ومقرّبيه (اللوجستيين)، قبل وصول "الهيئة" - والتي يعرف عن انضباط كادرها المسلكي - إلى دمشق... لماذا؟ لأنه يعلم علم اليقين أنه، وفيما الجيش والأمن في حالة Stand Down، فإن ميليشيات الجنوب وريف دمشق (أبناء التسويات) من ستدخل العاصمة، فاتحةً ناهبةً مفرهدةً ومنتقمة؛ وبذا ينتقم ممن ثاروا، أو تآمروا عليه، أو لم "ينجدوه"، مطبّقاً شعار اليوم الأول للأزمة السورية الكبرى: أنا أو الفوضى. إن كان للأسد من أية مسحة أو خصلة ممانعةٍ أو وطنيةٍ أو عروبية، على مدار ربع القرن المنصرم، فقد أعدمها بيديه بفعلته الخيانية مساء 7 ديسمبر 2024. هذا عن القريب؛ أما عن الأبعد، فيعلم كثيرون أنني، كتابةً وقولاً وفعلاً، كنت من المنادين بصلح سوري - تركي منذ ما بعد الانقلاب التركي الفاشل، في تموز 2016، وبالأخص منذ هدنة 5 آذار 1020، والتي سرت عقب فشل محاولة الجيش السوري وحلفائه فتح إدلب الكبرى، حوالي مفصل 20/19، كنت أدرك أن تركيا، صاعقُ التفجير السوري، هي الأقدر على نزعه في الختام. طيّب، ما لم أفهمه كان إصرار الأسد على جدول انسحاب "مسبق" شرطاً للقاءٍ فتسوية، إذ لم يعد ذلك ممكناً بعد 26 أكتوبر، لماذا؟ لأن إيران أضحت في وضع دفاعي غير هيّن، والحزب - قبلها - بات تحت الضرب؛ أي أنّ موازين القوى الإقليمية اختلّت لغير مصلحته، فضلاً عن أن بوتين لاهٍ عنه في أوكرانيا؛ فعلامَ التعنّت غير المفهوم؟ لم يحسب أخونا أن كسر الجدار التركي معينٌ على تجاوز نظام العقوبات الأميركية والغربية (وهو ما فعلته تركيا تجاه إيران وروسيا، وما فتئت)، وأن خطر المشترك الكردستاني طاغٍ، وأن احتواءً ذكيّاً لبعض المعارضات - وبيدك لا بيد عمرو - يُذهب من يد الغرب أوراقاً يدّخرها. استمسك بفردانية السلطة من دون أن تكون خادمة لوطنها المعذّب، والذي خرج من الحرب - أو بدا! - منتوف الريش على كل صعيد. نأتي إلى الميليشيات: الأقوى بينهم هي "الهيئة"، وهي "المتنافعة" مع - وليست التابعة لـ- تركيا، والساعية لمراضاة الولايات المتحدة - عبر جهود جيمس جيفري، ومنذ 2020 - والممسكة بلبّ السلطة المتشكّلة. هذه "السلفية السياسية" انحسرت من الكونية الجهادية إلى المحلية المقاتلة، وبرهنت على ذلك الفصال بحربها المسلحة على "داعش" ثم "القاعدة" - منذ أواخر 2013 - ولكنها، في المآل الأخير، لا تستطيع أن تخرج من جلدها، لا عقدياً ولا منهجياً. عندي أنها تقويةٌ حتى التمكين… لذا، لم ينتظر نتنياهو لحظةً حتى انهال طيرانه على مقدّرات الجيش السوري تدميراً، ولئلا تقع تحت أيدي هذه السلفية (رهان واشنطن على "تجريبها" محض ذرائعي؛ مدعاته أنها القوة الأقدر على مقاتلة النظام وربما إسقاطه، ومن ثمّ فهي الأقدر - تلواً - على إخراج روسيا وإيران من سوريا؛ أي استرداد سوريا: والتي أُخرجت واشنطن منها في آب 1957). يليها، "الجيش الوطني"، وهو ائتلاف ميليشيات تابعة لتركيا، فيها مَن مِن بقايا "الجيش الحر"، والتركمان، والإخوان، و"فيلق الرحمن" و"جيش الإسلام" وغيرها... علاقته بـ"الهيئة" شبه صراعية، لكن وقائع "الفتح" فرضت تحالف الضرورة المؤقت، ومشعر مستقبل العلاقة بينهما هو ماهيّة العلاقة بين الهيئة وتركيا. ثم ميليشيات الجنوب؛ وهي خلطةٌ فيها مؤثّرات خليجية وأردنية وإسرائيلية، وروسية. ثم "أبناء التسويات" في أرياف دمشق وحمص وحماة، وهم أقرب إلى ذات المؤثّرات. كلاهما يُعوَّل عليه إقليمياً (دون الترك) وغربياً. ثم "داعش"، والتي أمضت السنوات السبع الأخيرة في حالة كمون في بادية الشام، بقوة ألوف، شانّة هجمات، إن تيسّر لها، على كل أعدائها؛ وكعادتها... هي الآن تتجهّز للحظة فينيقٍ، ميسمها فتح سجن الهول وإطلاق محابيسها منه. عند "داعش"، تتجمّع جهود الغرب وتركيا و"الهيئة"، ناهيك بـ"وحش" (وحدات حماية الشعب) الكردستاني، على وأد احتمالها؛ سنرَى! ثم "وحش" الكردستاني، والذي "تمدمد" أضعاف ما تتيحه نسبة الكرد السكانية - 6٪ - لأقليّة على الجغرافيا السورية - المفيدة - مسنوداً بواشنطن... مصيره معلَّق بما تصل، أو لا تصل، إليه أنقرة وواشنطن من وفاق حوله... إنْ كانت هناك تسوية كردية - أوجلان/ إردوغان - عابرة للحدود، تحيي اتفاق 2009 بينهما وتبني عليه، فنتيجته تقويض "وحش" (والذي تُشكّل العشائر العربية غالبية كادره)، المُقاد قنديلياً. أمّا إنْ غابت تسويةٌ كتلك فأرى إردوغان محاولاً تجريب بسطاره فوقهم، متحسّساً بفعله رد الفعل الأميركي. علاقة "الهيئة" و"الوطني" بـ"وحش" مرآة لعلاقة تركيا به؛ في نهاية المطاف لا أرى، بحال من الأحوال، لا فدرلةً ولا كونفدرلةً ولا حكماً ذاتياً في سوريا، وكلّ ما للكرد هي حقوق المواطنة، إضافةً إلى حقوق ثقافية خاصة في مناطقهم؛ ونقطة آخر السطر. ثم "بقايا النظام"، هنا حالةٌ مسلّحة تتشكّل بـ"فضل" سلوك "الوطني" و"التسويات" نحو مناطقهم. هذه الفئة المواطنة جزء من النسيج العام للسوريين، حقّاً وواجباً، ومن ثمّ فالتعامل معها بغير تلك الروحية وبالٌ على فاعليه. أرى "الهيئة"، وتركيا (التي فيها 30 مليوناً ما بين علوي وكردي وشيعي، من أصل 90 مليوناً)، فاهمتان للأمر، والأولى ضابطةٌ لرعاع الباقين وإنْ بصعوبة بدئية. قراءة: أرى "الهيئة" مجتنبةً لصدام مع ميليشيا الجنوب في الجنوب، لا في سواه، حتى إشعار لاحق، بحكم الرباط الإقليمي/ الغربي للأخيرة... ومقلّمةً لأظافر "التسويات" حيث هم... ومصطدمةً بـ"داعش" في البادية... ومتربصةً بـ"وحش" بلهفة... وساعيةً لمساكنة مع البقايا (مستثنيةً كبار العسكريين والأمنيين).. ومزكزكةً "الوطني" ما استطاعت لذلك سبيلاً. والله أعلم.
السبت 14 كانون الأول 2024
قضايا وآراءأسعد أبو خليلعلى بالي
بعدما تفكّكَ آخرُ نظام بعثي، وجدتُني أفكّرُ في مصير ميشال عفلق في كتابة تاريخ المنطقة المعاصر: كيف أدّت أفكارُ الرجل وكتاباتُه إلى إنشاء نظامَيْن استبداديَّيْن في سوريا والعراق. هناك نقاشات مستمرّة حول مسؤوليّة الرجل. كنعان مكيّة في كتابه «جمهوريّة الخوف»
الجمعة 13 كانون الأول 2024
قضايا وآراءأسعد أبو خليلعلى بالي
النظام السوري الجديد وإسرائيل:
1) ليس هناك مِن أيّ سابقة في أيّ عمل عُنفي من قِبل الجماعات الجهاديّة المتطرّفة («داعش» و«القاعدة» بأشكالها المختلفة) ضدّ أهداف إسرائيليّة. هذه الجماعات تخصّصت في قتْل المسلمين والغربيّين.
2) هناك تاريخ من التعاون بين العدوّ وهذه الجماعات. إسرائيل اعترفت أنّها آوت وطبّبت مقاتلي فصائل سوريّة، كما أنّ اللّوبي الإسرائيلي هنا ضغط على الحكومة الإسرائيليّة من أجل التحالف (في زمن أوباما) بين الحكومة والقاعدة في سوريا (بأسمائها المختلفة).
3) بعد ساعات فقط من انتصار قوى «الثورة»، أعلنت الحكومة البريطانيّة أنّها ستُعيد النظر في تصنيف «هيئة تحرير الشام» كمنظّمة إرهابيّة. وبعدها بساعات، أعلنت الحكومة الأميركيّة الأمرَ نفسه. وهذا غيرُ مألوف لأنّ أميركا لا تسامح أبداً مَن قاتل قوّاتها. أميركا تحمل ضغينة ضدّ الحزب لأنّه قاتلها في عامَي 1983 و1984، فيما هي اعتقلت الجولاني في العراق لأنّه - بحسب الزعم الأميركي ونظريّة المؤامرة تصلح هنا أيضاً- قاتلَ قوات الاحتلال الأميركي في العراق. واللّوبي الإسرائيلي في واشنطن هو الذي يقرّر تصنيف الحركات الإرهابيّة وفرْض عقوبات على شخصيّات ومنظّمات في بلادنا (حتى تلك التي تتعلّق بالفساد). إنّ قراراً مِن هذا النوع (بِرفْع الاسم من قوائم الإرهاب) يكون دائماً متعلّقاً بتغيير موقف من إسرائيل. الحكومة الأميركيّة لم تُزِل اسم السودان عن القائمة إلّا بعدما وعدت الطغمةُ الحاكمة بالمضي في التطبيع مع إسرائيل. وعقوبات «قيصر» ليست إلّا السيف المسْلَط في انتظار حصول التطبيع. الأكيد أنّ الحكومة الجديدة قدّمت وعوداً حول التطبيع للحكومة الأميركيّة.
4) إنّ الحجم الكبير للضربات الإسرائيليّة المتعدّدة ضدّ أكثر من 350 هدفاً، والتدمير المنهجيّ للقوات المسلّحة السوريّة، إضافة إلى احتلال أراضٍ سوريةٍ جديدة، لا يمكن أن يحدث من دون تنسيق منتظم بين الحكومة الجديدة وبين العدوّ. الأكيد أنّ حكومة العدوّ بلّغت الحكومة الجديدة بأماكن القصف قبل حدوثه.
5) الحكومة الجديدة لم تُصدر أيّ إدانة أو استنكار للقصف الإسرائيلي أو احتلال أراضٍ سورية. لا، على العكس: الجولاني وصف حرب الإبادة في غزة بأنّها «حرب إيران على المنطقة».
الخميس 12 كانون الأول 2024