عندما انشقّت مجموعة صغيرة عن تنظيم «القاعدة» في اليمن، وأعلنت البيعة لأبي بكر البغدادي، أواخر عام 2014، توقّع كثيرون صعوداً متسارعاً لهذه المجموعة، يتناغم مع وضع مركزها في العراق وسوريا.
وقعت عدن في قبضة التنظيمَين عقب خروج الجيش و«اللجان» منها (من الويب)

لم يكن وضع تنظيم «داعش» في العراق وسوريا وحده وراء هذه التوقعات؛ فاليمن بلد دخَلَ لتوّه أزمةً جديدة وغير مسبوقة، تمثّلت في سيطرة «أنصار الله» على مؤسّسات الدولة في صنعاء. وإلى جانب أن ما حدث في العاصمة مثَّل، في حدّ ذاته، فرصة للتنظيم ليبدأ نشاطه وتحرّكاته خارج دائرة ضغوط «الحرب على الإرهاب»، بسبب انهيار المؤسستَين العسكرية والأمنية وأجهزة الاستخبارات، جاء أيضاً والمزاج الشعبي مهيّأ لتقبّل خطاب طائفي متطرّف، نتيجةَ الضخّ الإعلامي الذي سبقَ ورافق هذا الحدث.
غير أن التنظيم بدا عاجزاً عن استيعاب مثل هذه الظروف، فضلاً عن استغلالها لمصلحته، إذا لا يزال، في واقع الأمر، مجرّد مجموعة منشقّة تفتقد إلى الخبرة، والإمكانات، والقدرة على التعامل مع الواقع وفقاً لظروفه وفرصه الخاصة. لذا، حرص التنظيم على إثبات وجوده، من خلال عمليات انتحارية في صنعاء وصعدة، أكثر من حرصه على التأسيس لوجود يضمن له موقعاً أو دوراً فاعلاً في المستقبل.

عمليات إثبات وجود
يوم 20 آذار/ مارس من عام 2015، نفّذ التنظيم أولى عمليّاته في اليمن وأكثرها دموية، حين فجّر ثلاثة من انتحارييه أحزمتهم الناسفة وسط جموع المصلين داخل مسجدَي بدر والحشوش في العاصمة صنعاء. العمليتان اللتان لم يسبق لليمن أن شهد مثلهما، أسفرتا عن مقتل 140 مصلياً بينهم المرجع الديني الزيدي، المرتضى بن زيد المحطوري، إضافة إلى إصابة المئات. بالتزامن مع العمليَتين، أحبطت حراسة جامع الهادي في محافظة صعدة عملية ثالثة للتنظيم. غير أن الأخير لم يحقّق هدفه من وراء هذه العمليات، على رغم دمويتها.

«القاعدة» يتبرأ
عمليات مسجدَي بدر والحشوش لم ترعِب المجتمع اليمني فحسب، بل أرعبت حتّى تنظيم «القاعدة» الذي سارع إلى إعلان البراءة منها، ومن العمليات التي تستهدف التجمعات المختلطة، على رغم أنه كان قد استهدف، بعملية انتحارية، تظاهرة مختلطة في شارع القيادة في صنعاء، أسفرت عن مقتل وإصابة العشرات. لاحقاً، حرص «القاعدة» على خلق مسافة كبيرة بينه وبين «داعش»، من خلال التخلّي عن كثير من الأساليب العنيفة التي اشتُهر بها الأخير، كالقتل ذبحاً واستهداف التجمّعات المختلطة وغيرها.
وعلى رغم أن «القاعدة» نفّذ عملية قتل عن طريق الذبح في حقّ مجموعة من الجنود في حوطة الحبيب زين في وادي حضرموت جنوب شرقي اليمن، عام 2014، إلّا أنه عاد واعتبر القتل ذبحاً «أمراً مقزّزاً ومخالفاً للفطرة»، بحسب تصريح لمسؤوله العسكري نصر الآنسي.

«عاصفة الحزم»
بعد ستة أيام فقط من استهداف المسجدين في صنعاء، أعلنت السعودية انطلاق عملية عسكرية في اليمن، تحت مسمَّى «عاصفة الحزم» لـ«استعادة الشرعية»، على إثر سيطرة قوات صنعاء على عدد من المحافظات الجنوبية، أبرزها عدن. هذا التطوّر دفع تنظيمَي «القاعدة» و«داعش» إلى سحب معظم أفرادهما من العاصمة، لقتال قوّات «أنصار الله» وعلي عبدالله صالح في الجنوب.
داخل مدينة عدن، تشكَّلت مقاومة عفوية من أبناء الأحياء، ولم تكن هناك أيّ قوّة عسكرية منظَّمة تابعة لـ«التحالف» تقاتل على الأرض في بادئ الأمر. ومع دخولهما على خطّ المواجهات، كان تنظيمَا «داعش» و«القاعدة» هما القوَّتين الوحيدتَين المنظمتَين في المدينة، وعليهما استند «التحالف» بعد ذلك، بصرف النظر عن وجود تنسيق مباشر من عدمه.
إلى حصولهما على دعم عسكري ومالي كبيرين، تمكّن التنظيمان من استقطاب أعداد لا بأس بها من أفراد المقاومة التي كانت حديثة العهد في القتال، وتتحرّك من دون قيادة أو خطط.
حرص «داعش» على إثبات وجوده من خلال عمليات انتحارية في صنعاء وصعدة


السيطرة على عدن
عقب خروج قوّات الجيش و«اللجان الشعبية» من عدن، وقعت المدينة تلقائياً في قبضة التنظيمَين. أما المقاومة، فقد عاد مسلّحوها إلى منازلهم، كونها مجرّد أفراد لا هيكل تنظيمياً لهم. وعلى رغم أن التنظيمين لم يعلنا مشاركتهما في القتال في عدن، إلا أنهما لم يستطيعا أن يخفيا سيطرتهما على المدينة بعد ذلك، حين اضطرا إلى ممارسة دور السلطة، وفق مبادئهما الخاصة، حيث منع «داعش» الاختلاط في الجامعات وغيرها، كما سيَّر دوريات في بعض شوارع المدينة، وقام بتوزيع كُتيبات وذواكر تحوي موادّ صوتية ومرئية دعائية خاصة به.

عودة الحكومة
ضمن الترتيبات الخاصة بإعادة تطبيع الحياة في «المناطق المحرَّرة»، عادت حكومة خالد بحاح إلى مدينة عدن، إلّا أنها سرعان ما قررت المغادرة، بعدما تعرّض مقرها ومقر القوات الإماراتية للاستهداف بسيارتَين مفخّختين قادهما انتحاريان من «داعش». استهداف مسؤولي الحكومة وقوات «التحالف» كان من نقاط الخلاف بين التنظيمين، حيث عدَّها «القاعدة» من الأمور التي تتعارض مع «السياسة الشرعية» للجهاد، والتي تقتضي تركيز الجهود لمحاربة «أنصار الله».
بعد استهداف الحكومة، وجد «التحالف» أن تطبيع الحياة في المناطق التي اعتُبرت محرّرة، يتطلّب عملية عسكرية وأمنية جديدة. عمليّة تتطلّب هي الأخرى تجميع ما يمكن تجميعه من أفراد الجيش والأمن، لإعادة تأهيلهم وتدريبهم، وهو ما يعني أن المدينة ستظل تحت سيطرة التنظيمَين لأشهر مقبلة.

أزمة العنصر البشري
بين عامَي 2015 و2016، تمكَّن «داعش» من استقطاب عدد لا بأس به من أبناء عدن، بعد الدور الذي لعبه في عملية «تحرير» المدينة، إلى جانب «القاعدة» وأفراد المقاومة الشعبية. غير أنَّ عدد مقاتليه ظلّ متواضعاً على الدوام، إلى درجة أن العمليات الانتحارية كانت تستنزفه أكثر مما تحقّق له مكاسب، نظراً إلى صعوبة تعويض العنصر البشري. إلى ذلك، عاد عدد من عناصره إلى صفوف «القاعدة»، بعد أشهر من الانشقاق، بسبب خلافات حول بعض العمليات، كالتي تستهدف المساجد والتجمعات المختلطة وغيرها.

الاصطدام بالقبيلة
قبل عام 2016، كان لـ«داعش» وجود في عدد من المحافظات، وإن بأعداد قليلة. حاول التنظيم أن ينشط بأيّ شكل، ليحوِّل نشاطه الميداني إلى مادة إعلامية يُبرز من خلالها حضوره ووجوده على ساحة الأحداث في اليمن. في هذا السياق، أقدم مسلحون تابعون له في وادي حضرموت على إعدام نحالين اثنين من أبناء قبيلة «الطواسل» في محافظة شبوة، بعدما عثروا على بطاقات عسكرية في حوزتهما، وهي بطاقات يحملها كثيرون لغرض الحماية، ولا تعني بالضرورة الانتماء إلى مؤسّسة عسكرية أو أمنية.
حرص المسلحون على تنفيذ عملية القتل بالطريقة التي ينفذ فيها التنظيم عملياته في العراق وسوريا عادة، وهي طريقة تعتمد على الدعاية لإيصال رسائل بصورة عنيفة. لكنَّ الحادثة أثارت استياءً واسع النطاق في أوساط قبائل شبوة التي توعدت بالثأر لأبنائها، كما أثارت خلافاً حاداً داخل التنظيم نفسه، بعدما اعترضت مجموعة على هذا التصرف، وحذّرت من تبعات الاستمرار فيه. حادثةٌ خلقت انطباعاً شديد القتامة عن التنظيم الجديد لدى أبناء القبائل، كان له دور في تحديد طبيعة العلاقة بين الطرفين في ما بعد.
كان «القاعدة»، الذي اعتاد على التعامل بحذر شديد مع أبناء القبائل، أكثر المستفيدين من نهج «داعش» في اليمن. فمِن ناحية، وجد في هذا السلوك دليلاً عملياً على ما ظلّ يقوله ويحذّر منه؛ ومن ناحية أخرى، ضَمِن عدم حصول هذا المنافس على موطئ قدم في مناطق القبائل في محافظة شبوة، والتي تُعدُّ من أهم معاقله.
من المهم الإشارة، هنا، إلى أن تنظيم «القاعدة» حرص على إيلاء قضية «الحاضنة الشعبية» اهتماماً خاصاً، بينما اعتبرها «داعش» «صنماً تعبده القاعدة من دون الله»، وهو ما يفسر فشل الأخير في عملية الاستقطاب داخل القبيلة، إلى جانب السلوك العنيف الذي بدأ فيه مشواره.

حاول التنظيم أن يحوِّل نشاطه الميداني إلى مادة إعلامية يُبرز من خلالها حضوره في اليمن


الخروج من عدن
في شهر آذار/ مارس 2016، انطلقت عملية عسكرية وأمنية لتحرير مديريات في مدينة عدن من قبضة تنظيمَي «القاعدة» و«داعش»، بعد إعداد وتدريب قوة محدودة العدد لهذه المهمّة. بعد جولة أولى من المعارك في مديرية المنصورة، بدا أن عملية إخراج المسلحين من عدن أمر غاية في الصعوبة، وهو ما استدعى دخول المقاتلات الحربية على خط المواجهات، حيث نفذت سلسلة غارات على تجمعات وتحركات لعناصر التنظيمين في أكثر من منطقة داخل المدينة.
على رغم خروج التنظيمين من المدينة بعد ذلك، «القاعدة» إلى زنجبار في أبين، و«داعش» إلى يافع في لحج، إلا أنهما أبقيا على عدد من عناصرهما داخل عدن، لتنفيذ عمليات في وقت لاحق. من المهم الإشارة، هنا، إلى أن من بقوا في عدن كانوا من أبنائها الذين استقطبهم التنظيمان خلال المعارك التي شهدتها المدينة أواخر عام 2015. وبين عامَي 2016 و2018، نفّذ عناصر «داعش» عدداً كبيراً من العمليات داخل المدينة، استهدفت منتسبين إلى الأجهزة الأمنية والعسكرية ومحسوبين على دولة الإمارات.

الاستقرار في البيضاء
يبدو أن مديرية يافع، التي انسحب إليها «داعش»، كانت مجرد محطّة عبور، إذ سرعان ما غادرها إلى مناطق في محافظة البيضاء وسط اليمن. واستقر، تحديداً، في مديرية ولد ربيع، المعقل التاريخي لـ«القاعدة» في المحافظة، وهناك أنشأ معسكرات تدريبية لعناصره.
على الأرجح، جاء اختيار هذه المنطقة بسبب انتماء عدد من أبنائها للتنظيم، بعدما غيَّر الشيخ القبلي نبيل الذهب، إحدى أبرز الشخصيات القبلية المحسوبة على «القاعدة» في «قيفة»، ولاءه لمصلحة التنظيم. أما الخلاف الذي نشأ بين التنظيمين منذ الانشقاق، فقد أخذ في التطوّر حتى وصل إلى الصدام المسلَّح، وكانت محافظة البيضاء ساحة له. وتسبّبت المواجهات التي امتدت من عام 2017 إلى عام 2020، في مناطق مديرية ولد ربيع، في استنزاف بشري ومادي غير مسبوق للطرفين.

نهاية التنظيم
في أواخر شهر آب/ أغسطس الماضي، شنّت «أنصار الله» هجوماً على مناطق «داعش» في مديرية ولد ربيع، وتمكّنت من القضاء على عناصره الموجودين هناك بشكل كلّي. أما عناصر «القاعدة»، فقد تجاوبوا مع وساطة قبلية اقترحت عليهم الانتقال إلى مديريات أخرى في المحافظة، بحسب مصادر خاصة تؤكّد، أيضاً، أن الحركة قامت بنقل عائلات قتلى «داعش» إلى محافظة ذمار.

نسخ ولصق
قرار القتال حتى الفناء، الذي اتخذه تنظيم «داعش» في مديرية ولد ربيع، كان عدميّاً، ويفصح عن قلّة خبرة استدعتْ إسقاط تجربة المواجهات في العراق وسوريا على واقع اليمن المختلف بشكل شبه كلّي. يضاف إلى ذلك، أن وضع التنظيم في اليمن يختلف أيضاً عن وضع مركزه في العراق وسوريا. فالتنظيم هناك قوي، ولديه خلايا في أكثر من مكان، ومقاتلون محترفون، ومناطق واسعة تحت سيطرته، ومن الطبيعي أن لا يستسلم أو ينسحب. أما في اليمن، فهم قلّة منعزلة، وحديثة عهد في القتال والتسليح، عدا عن كونها محاصرة من كل الجهات. كما أن القتال لم يكن على مناطق استراتيجية، وإنما على جبال وبعض السهول المعزولة، والتي كان في الإمكان العودة إليها بعد الخروج منها.
في الأخير، يمكن القول إن افتقاد تنظيم «داعش» في اليمن للعقل المخطط، وللخبرة، عجَّل في نهايته بعد مسيرة قصيرة وغير حافلة.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا