لندن | ثمّة شبح يحوم في أجواء عواصم الاتحاد الأوروبي هذه الأيّام: شبح عهد ثانٍ للرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب؛ إذ إنه مع فقدان حملة نائبة الرئيس الحالي ومرشحة الحزب الديموقراطي، كامالا هاريس، قوة الدفع التي وضعتها لأسابيع على قدم المساواة مع ترامب في استطلاعات الرأي، بدأ مسؤولو الاتحاد الأوروبي في بروكسل اتصالات مع مختلف العواصم عبر القارة، فيما يعقدون اجتماعات شبه يومية، للبحث في نتائج انتقال محتمل لمفاتيح البيت الأبيض إلى مرشح الحزب الجمهوري. وعلى رغم أن مسألة عودة ترامب مطروحة منذ بعض الوقت، إلا أن الهواجس تضخّمت بعدما أفاد أحدث استطلاع لنوايا الناخبين الأميركيين، هذا الأسبوع، بأن ترامب تجاوز منافسته الديموقراطية، باعتباره المرشّح الذي يثق به الأميركيون أكثر من غيره، ولا سيما في ملف الاقتصاد.

ويشارك في المشاورات الأوروبية التي يقودها موظفو مكتب رئيسة المفوضية، أورسولا فون دير لايين، سفراء الدول الأعضاء المعتمدون لدى بروكسل، فضلاً عن مستشارين ومجموعات غير رسمية من عدة دول مركزية في الاتحاد. ويسعى هؤلاء لوضع سيناريوات مختلفة لِما يمكن أن تكون عليه سياسة إدارة أميركية جديدة يقودها الجمهوريون تجاه أوروبا، أمنيّاً واقتصادياً، ووضع تصوّرات أولية لصياغة استجابة موحّدة من قِبَل الدول الأعضاء في الاتحاد لتلك السيناريوات، أخذاً في الاعتبار نقاط الضعف الأساسية التي قد تتكشّف حال سُحبت مظلّة التغطية الأمنية الأميركية.
وبحسب مطلعين على أجواء بروكسل، فإن مخاوف المسؤولين الأوروبيين تشمل احتمال فرض سلسلة من الرسوم والتعرفات الجمركية على صادرات القارة إلى السوق الأميركية، ووقْف مساهمة الولايات المتحدة المالية اللازمة لتمديد عمر النظام اليميني الحاكم في أوكرانيا، وكذلك وضع منظومة العقوبات المتراكمة ضدّ روسيا - حال قرّرت واشنطن التخلّي عنها - لمصلحة تفاهم مع موسكو. ومن المعلوم أن مزاجاً صقورياً يحكم توجّهات بيروقراطيي بروكسل، والذين انتُخبوا لدورة من خمس سنوات، استناداً إلى برنامج للدفع نحو استمرار الحرب في أوكرانيا، وتوسيع نطاقها، وتعزيز مفاعيل الحصار الاقتصادي وسلاسل العقوبات المفروضة على الاتحاد الروسي. ولعلّ آخر الإنجازات في هذا الشأن، التوافق على قرصنة العوائد المالية للأصول الروسية المحتجزة في البنوك الأوروبية وتحويلها إلى نظام كييف.
من جهتها، نقلت صحف بريطانية وفرنسية عن ديبلوماسيين في بروكسل، قولهم إن «جميع العواصم الأوروبية تأخذ مسألة وصول ترامب إلى البيت الأبيض بجدّية»، وإن «من الضروري البحث سريعاً عن خطط للتعامل مع عواقب متوقعة لذلك، كي لا نتفاجأ». وقد اعتبر رئيس المجلس الأوروبي، شارل ميشيل، أن فوز ترامب قد يؤدي إلى «قرارات متعجّلة» تتّخذها الإدارة الأميركية «يمكن أن تكون لها تأثيرات فورية هائلة على أوروبا، أقله بالتأكيد على المدى المنظور». وأضاف: «إذا كان الفائز في انتخابات الخامس من نوفمبر المقبل، هو ترامب، فسيكون ذلك بمثابة دعوة إضافية لنا نحن الأوروبيين للاستيقاظ والعمل أكثر لأخذ مصيرنا بأيدينا”.
وسبق لترامب أن تعهد، كجزء من حملته الانتخابية، بفرض رسوم جمركية ثابتة بنسبة 10% على جميع الواردات إلى السوق الأميركية، ما قد يقلّص صادرات الاتحاد الأوروبي إلى هذا البلد لنحو 150 مليار يورو سنوياً، في وقت تترنّح فيه اقتصادات القارة تحت ضغوط الكساد والتضخم وضعف الميزانيات العامة. وتوقّع خبراء، هذا الأسبوع، أن يفقد اليورو ما قد يصل إلى 10% من قيمته أمام الدولار، في حال فرض ترامب رسومه الجمركية الموعودة. من جهتها، تميل بروكسل إلى تجنّب اللّجوء إلى فرض تعرفات جمركية مضادة، وتحاول عوضاً عن ذلك استعطاف ترامب من خلال تقديم سلّة صفقات تجارية قد تثنيه عن قراره.
من جانب آخر، ينتقد ترامب علناً سياسة الدعم الذي تمحضه إدارة الرئيس جو بايدن لنظام كييف؛ إذ تعهّد ببذل جهد لإنهاء الحرب في أوكرانيا فور انتخابه، وحتى قبل تسلّمه السلطات الدستورية في الـ20 من كانون الثاني من العام المقبل. ويشكّك الرئيس السابق أيضاً في ضرورة «حلف شمال الأطلسي» (الناتو) الذي وفّر مظلّة حماية أمنية لأوروبا على مدى نحو 80 عاماً، ويريد بدلاً من ذلك أن يدفع الأوروبيون تكاليف تلك المظلّة. يأتي هذا في وقت دُفعت فيه الشعوب الأوروبية، من خلال سياسات نخبها الحاكمة، إلى تصوّر روسيا كأسوأ تهديد عسكري تواجهه القارة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في عام 1945.
ويعرّي شبح ترامب، الآن، حقيقة تبعيّة حكومات الاتحاد الأوروبي للولايات المتحدة، أقلّه من الناحية الأمنية، حيث تعاني فرنسا وبريطانيا، القوتان العسكريتان الأهم في أوروبا، من تآكل نسبي في قدراتهما القتالية، فيما تحاول ألمانيا إعادة اختراع قوات دفاعها كجيش هجومي، لكن ضغوط الميزانيات العامّة في هذا الوقت لا تساعد الدول الثلاث على اللحاق بالتغييرات
التكنولوجية المتسارعة في صناعة الحرب الحديثة، ما يضع أمن القارة، خلال نصف العقد الحالي، تحت أهواء حفنة من الناخبين الأميركيين في ويسكونسن وبنسلفانيا وغيرهما من الولايات المتأرجحة. وأَظهرت الحرب في أوكرانيا، بالفعل، محدودية فاعلية الأسلحة والتجهيزات الأوروبية الحالية، فضلاً عن تراجع أعداد المجندين في جيوش القارة إلى مستويات قياسية، إذ يبلغ تعداد الجيش البريطاني، مثلاً، أقل من 100 ألف جندي، فيما لا يزيد تعداد نظيره الفرنسي على 140 ألفاً.
وفي الواقع، قد لا يكون حال أمن الأوروبيين أفضل، إلا جزئياً، إذا ما فازت هاريس في الخامس من نوفمبر المقبل. إذ إن الإدارة الديموقراطية الحالية توصّلت إلى قناعة تجد في توسيع التفويض للجيش الأوكراني باستخدام أسلحة غربية طويلة المدى لاستهداف العمق الروسي، حتمية لاستدعاء تحول نوعي في طبيعة ردّ موسكو على ذلك، وربما توسيع نطاق الحرب ليشمل دولاً أعضاء في «الناتو»، ما سيفرض تورّط الولايات المتحدة مباشرةً في النزاع مع دولة نووية، وهو أمر لا ترغب النخبة الحاكمة في واشنطن فيه، أقلّه في إطار توازن القوى الحالي. ويعتقد كثيرون، الآن، بأنه في حال فوز هاريس، فقد تدفع أوكرانيا إلى قبول اتفاق سلام يكون أفضل قليلاً من استسلام كامل، تجنباً للأسوأ، ما سيترك أوروبا وحيدة في حصاد زرع عداوتها المفتعلة ضدّ جارها العملاق في الشرق.