وسط التأزّم المستمرّ في العلاقات الأميركية - الصينية، وكثرة الحديث عن سيناريوات «حرب نووية» بين روسيا و»الناتو»، من بوابة الحرب في أوكرانيا، كشفت صحيفة «نيويورك تايمز» عن موافقة الرئيس الأميركي، جو بايدن، في آذار الماضي، على استراتيجية نووية سرّية لمواجهة عدد من خصوم بلاده الاستراتيجيين كالصين وروسيا، مؤكدة أن ما أقرّه البيت الأبيض من تحديثات على وثيقة «إرشادات توظيف الأسلحة النووية واستخداماتها»، والتي يصار إلى تعديلها كل أربع سنوات، من شأنه أن يعيد «توجيه استراتيجية الردع الأميركية للمرّة الأولى نحو ما تقوم به الصين من توسعة متسارعة في ترسانتها النووية».
اعتراف... لا اعتراف!
منذ بدء الأزمة الأوكرانية، ركّز بايدن اهتمامه على محاولة انتزاع مواقف من حلفائه، كألمانيا وبريطانيا، وخصومه على السواء، وفي طليعتهم الصين، تندّد بفكرة استخدام الأسلحة النووية كشكل من أشكال لجم روسيا عن الاندفاع في هذا الاتجاه. كما أنه حرص على عدم الإفصاح عن أي تغييرات في الاستراتيجية النووية، إلا أن مسؤولين كباراً في «البنتاغون» كانوا لمّحوا إلى مثل هذه التغييرات في الوثيقة السرّية التي لا يتوفّر منها سوى عدد قليل من النسخ الورقية، لدى عدد محدود من المسؤولين في مجلس الأمن القومي وكبار المسؤولين في وزارة الدفاع، وفقاً للصحيفة. وفي تعليقه على ذلك، اكتفى بايدن بتبريرات خجولة حول ضرورة عدم اعتبار «الاستراتيجية» موجّهة ضدّ دولة بعينها، وذلك في انتظار حلول الموعد المرتقب لإرسال إشعار غير سرّي إلى الكونغرس في هذا الخصوص، قبل مغادرته لمنصبه.
وكان ذكر الخبير في شؤون الاستراتيجيا النووية، فيبين نارانغ، الذي كان يشغل قبل أشهر قليلة منصباً رفيعاً في وزارة الدفاع الأميركية ويعمل حالياً باحثاً في «معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا»، مطلع الشهر الجاري، أن الرئيس بايدن «أصدر أخيراً توجيهات محدّثة لاستخدام الأسلحة النووية للوقوف عند (التحديات المتزايدة من قِبل) الخصوم النوويين المتعدّدين»، مردفاً أن التوجيه الجديد أخذ في الاعتبار «الزيادة الكبيرة كمّاً ونوعاً» في الترسانة النووية للصين. وفي حزيران الماضي، أشار المدير الأول لمجلس الأمن القومي لشؤون الحدّ من التسلح ومنع الانتشار النووي، برناي فادي، إلى الوثيقة النووية المحدّثة، كاشفاً أن ما يميّزها عن سابقاتها هو أنها «تبحث بالتفصيل ما إذا كانت الولايات المتحدة مستعدّة للردّ على الأزمات النووية التي قد تندلع بشكل متزامن أو متتالٍ، باستخدام مزيج من الأسلحة النووية وغير النووية»، مضيفاً أنها تشدّد على «الحاجة إلى ردع روسيا والصين وكوريا الشمالية في آن واحد».
وبحسب خبراء استراتيجيين غربيين، فإن الوثيقة الأميركية الجديدة تعكس «التغييرات المتسارعة» على مستوى خطط الحرب والاستراتيجيا، لكونها تلتفت إلى التهديدات المتزايدة التي تمثّلها الصين للولايات المتحدة، على الصعيد النووي، ضمن «بيئة نووية مختلفة تماماً»، بعدما مالت واشنطن إلى تركيز تلك الخطط، على مدى عقود، وتحديداً منذ عهد الرئيس هاري ترومان، على ترسانة الأسلحة غير التقليدية التي بحوزة موسكو. ويشير هؤلاء إلى أن استراتيجية واشنطن النووية في عهد بايدن، تحمل أوجه شبه بشكل أو بآخر مع استراتيجية إدارة الرئيس السابق، دونالد ترامب، حيال الصين، معتبرين أن التنقيحات الواردة فيها تنطلق من عوامل عدة، أولها اقتراب الصين بحلول عام 2035 من زيادة عدد الرؤوس النووية لديها ليقارب 1500، وهو رقم يوازي ما تنشره كل من موسكو وواشنطن على حدة، وذلك مقارنة بنحو 500 رأس نووية لدى بكين حالياً؛ وثانيها تمكُّن كوريا الشمالية من توسعة ترسانتها غير التقليدية إلى أكثر من 60 رأساً نووية لتقترب من معادلة حجم ترسانة كل من باكستان وإسرائيل، على نحو يمكّنها من «تنسيق التهديدات مع كل من موسكو وبكين».
«المناخ النووي المتغيّر»: تهديد نووي صيني - روسي - كوري شمالي لواشنطن؟
اتهمت الصين، الولايات المتحدة بـ«الترويج لرواية التهديد النووي الصيني، وإيجاد أعذار للحصول على ميزة استراتيجية»


تشير صحيفة «نيويورك تايمز» إلى أن الوثيقة النووية الأميركية الجديدة تتوجّس من سيناريوات نشوء «تحديات نووية محتملة منسّقة بين الصين وروسيا وكوريا الشمالية» في وجه واشنطن، بالنظر إلى «الشراكة الاستراتيجية القائمة بين روسيا والصين، والتدريبات العسكرية المشتركة بينهما، فضلاً عن مبادرة كوريا الشمالية، أسوة بإيران، إلى توفير الأسلحة التقليدية لروسيا في حربها على أوكرانيا»، لافتة إلى أن تلك المعطيات «أسهمت في تغيير العقلية (الاستراتيجية) بصورة جوهرية في واشنطن». وترى الصحيفة أن الوثيقة الجديدة هي «بمثابة تذكير صارخ بأنه أياً تكن هوية (المرشح الرئاسي) الذي سيتم تنصيبه في 20 كانون الثاني المقبل على رأس الحكم، فهو سيواجه مشهداً نووياً متغيّراً وأكثر اضطراباً، بالمقارنة مع المشهد الذي كان سائداً قبل ثلاث سنوات فقط من الآن».
وتستند «نيويورك تايمز» إلى معلومات استخبارية، تزعم أنها مستقاة من اعتراض مكالمات بين كبار المسؤولين الروس، للإشارة إلى أن «احتمالية استخدام موسكو للسلاح النووي قد ارتفعت بنسبة 50% وربّما أكثر». كمت تنقل عن الدبلوماسي الأميركي المخضرم، رئيس «مجلس العلاقات الخارجية» ريتشارد هاس، تأكيده «(أنّنا) نتعامل اليوم مع حكومة روسية متشدّدة، ذلك أن التصورات حول عدم إمكانية استخدام الأسلحة النووية في صراع تقليدي لم تَعُد فرضية مأمونة العواقب». والخلاصة نفسها، حملها كلام نارانغ حين قال إن «مسؤوليتنا تفرض علينا أن نرى العالم كما هو، وليس كما كنّا نأمل أن يكون»، مبيّناً أن التحدّي الجديد يتمثّل في وجود «احتمال حقيقي للتعاون (ضدّنا) بين خصومنا المسلحين نووياً».
وتتابع الصحيفة أن «المتغيّر الكبير الآخر» على الصعيد النووي، إنّما يتصل بـ»طموحات الصين النووية»، سواء لناحية «تعزيز القدرات النووية للبلاد بوتيرة أسرع ممّا كان يتوقّعه مسؤولو الاستخبارات الأميركية»، أو لناحية «تصميم الرئيس الصيني، شي جين بينغ، على إلغاء استراتيجية نووية انتهجتها بلاده لعقود، ضمن ما يسمى باستراتيجية (الحد الأدنى من الردع)، وسعيه للوصول إلى معادلة ترسانات واشنطن وموسكو النووية أو حتى تجاوزها».
إزاء ذلك، أعربت الناطقة باسم وزارة الخارجية الصينية، ماو نينغ، عن بالغ قلق بلادها، متّهمة الولايات المتحدة بـ»الترويج لرواية التهديد النووي الصيني، وإيجاد أعذار للحصول على ميزة استراتيجية». وفي المقابل، استنكرت مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون منع الانتشار والردع الاستراتيجي، مالوري ستيوارت، مبادرة الحكومة الصينية أخيراً إلى وقف المحادثات الثنائية مع واشنطن حول سبل الحد من الانتشار النووي، وهو تدبير كانت قد أرجعته بكين إلى إبرام الولايات المتحدة صفقات أسلحة مع تايوان. واعتبرت المسؤولة الأميركية أن الصين «تبدو وكأنها تستلهم نهج روسيا، الذي يقوم على قطع محادثات ضبط الأسلحة ومنع الانتشار النووي (مع واشنطن) ربطاً بوقف التوترات» في العلاقات الثنائية.