على رغم تزحزُح الهيمنة الأميركية على امتداد العالم، والبادئ في أفغانستان 2020 والمتبلور في أوكرانيا 2022، ثم الصارخ في غزة 2023، لا تزال الانتخابات الرئاسية الأميركية هي الحدث الأهم الذي ترقبه الكيانات والدول بدرجة قد تضعه في مصاف اهتماماتها الأبرز. ولعلّ ذلك نابع، بالدرجة الأولى، من أن الولايات المتحدة لا تزال الدولة الأولى من حيث القدرة على تفعيل تأثيرها في أقصى بقاع الأرض، انطلاقاً من ذراعَي العسكرة والاقتصاد اللذين لا يزالان هما الأمضى عالمياً. ولعلّ في الأمر بعداً آخر، وهو يلوح من بعيد؛ فالقديم (نظام الأحادية القطبية) يحتضر، والجديد لم يولد بعد، وبين الاثنين تبرز العديد من المظاهر التي من بينها الحذر الذي يبديه «الكل» تجاه مولود لا يبدو الـ»دي أن إي» الخاص به مقروءاً بعد. وهو حذر ربما يطيل عمر «القديم»، وخصوصاً أنه قد يبلغ مديات كبرى عند الأنظمة التي تستمد شرعيتها من التوازنات التي بناها هذا الأخير.وعلى مبعدة نحو 80 يوماً من انتخابات تشرين الثاني الرئاسية الأميركية، يمكن رصد البيئة الانتخابية على النحو الآتي: تجهد الولايات المتحدة اليوم للإجابة عن أسئلة محورية، ترتبط بتعريف نفسها ودورها في العالم. وأول تلك الأسئلة، والذي يبدو طافياً الآن، يتمحور حول الدور الذي يجب أن تنوط نفسها به، بمعنى إذا ما كان من الأفضل التدخّل في مسار الأحداث بأدقّ تفاصيلها على امتداد العالم تأكيداً للنزعة «الإمبراطورية» المطلقة، أم التدخّل في مناطق نفوذ محدّدة، على أن يتم رسم خريطتها تبعاً للاستراتيجيات التي تحدّدها عادة وثيقة «الأمن القومي الأميركي» الصادرة كل عام، تأكيداً لحقائق القوة المتغيّرة في العالم. وثاني الأسئلة، يتعلّق بطبيعة «الإطار» الحامل للدور، وهل يجب أن يكون ضامّاً لكل الأطياف والأعراق بشكل متساوٍ؟ أم أن ثمة أطيافاً يجب أن تكون «رائدة» ولها الحظوة التي استولدتها تراكمات تاريخية عديدة؟ أما ثالث الأسئلة، فله صلة بالعلاقة الرابطة ما بين السياستين الخارجية والداخلية: أين تبدأ أولويات كل منهما؟ وأين تنتهي؟ فعلى رغم أن السياسات التقليدية الأميركية غالباً ما ترجّح فيها كفة «الداخلي» على نظيرها «الخارجي»، إلا أنها كثيراً ما أنتجت حالات نقيضة للسياسة المذكورة، وخصوصاً في بعض المنعطفات التي كثيراً ما تركت مخرجاتها آثاراً على توازنات المعادلة الرابطة ما بين الاثنتين. ومن المؤكد أن»منازلة» 5 تشرين الثاني المقبل سوف تجري تحت ظلال التساؤلات المشار إليها، والتي تغوص عميقاً في الذات الجمعية الأميركية، وكذا في تياراتها ومؤسساتها التي تلعب دور «الدفّة» في تحريك هذه الأخيرة لإمالتها في اتجاه هذا المشروع أو ذاك.
تجهد الولايات المتحدة للإجابة عن أسئلة ترتبط بتعريف نفسها ودورها في العالم


بشكل ما، يميل «الديموقراطيون» إلى ترسيخ نهج تقليدي قديم يقوم على تثبيت أركان «الدولة العميقة»، أو المتجذرة، ممثّلة بوكالات الأمن المتعدّدة واللوبيات، والتي تقوم بالحفاظ على مصالح الدولة كنظام حكم بالدرجة الأولى، في حين يمثّل «مشروع» المرشح الجمهوري، دونالد ترامب، حالة نقيضة للميل السابق. ولطالما شهدت ولايته السابقة بين 2017 و2021، حالات صدام صارخة مع تلك «الدولة»، وصولاً إلى إعلانه أنه في «حالة حرب دائمة معها». ولربما كانت هذه الحالة السابقة الذكر، نتاجاً مباشراً لتبلور طبقة سياسية جديدة، بات ترامب في مرتبة «الأب الروحي» لها، وفي ملامحها يمكن لحظ نزعة عرقية صارخة، وفي عنوان أن استمرار السطوة والهيبة مرهون باستمرار قبضتها على السلطة. وبهذا، تصبح «المنازلة» بين كامالا هاريس ودونالد ترامب أقرب إلى المنازلة بين «عقلنة» التوحش، كنهج راسخ لـ»الدولة العميقة»، وبين الوصول به إلى درجات متفلّتة من العقال، كما هي الحال عند الأخير.
لا يزال السباق بين المشروعين متأرجحاً، ومن الصعب التنبؤ بالمآلات التي سوف يصير إليها. وعلى رغم أن آخر استطلاعات الرأي ترجّح ميلان الكفة في اتجاه هاريس، وفقاً لصحيفة «واشنطن بوست»، التي نشرت استطلاعاً في 13 آب الجاري، قالت فيه إن هاريس تحظى بنسبة تأييد 49% من الأميركيين في مقابل 45% لترامب، إلا أن ذلك لا يشكّل ركيزة يمكن الركون إليها. فكثيراً ما كانت «الحظوظ» متغيّرة بسرعة كبيرة في الأمتار الأخيرة من السباق الأميركي، فضلاً عن أن ثمة معطيات يمكنها أن تظهر فجأة، فتقلب الصورة رأساً على عقب. فمن كان يدري، مثلاً، أن مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي السابق، جيمس كومي، سيفتح تحقيقاً في استخدام المرشحة الديموقراطية لانتخابات 2016، هيلاري كلينتون، بريداً إلكترونياً خاصاً في إرسال رسائل ذات طابع سري، قبل 11 يوماً على التصويت، فيقلب بذلك كل التوقعات، ومعها كل استطلاعات الرأي، التي كانت ترجح كفة كلينتون على ترامب؟
غالباً ما تمثّل حالة التأرجح الآنفة الذكر تعبيراً عن الضغوط الحزبية التي تشهدها أروقة السياسة الأميركية. وفي الحالة الراهنة، يزيد منها تنامي «النفور» من ترامب كمرشح رئاسي في أوساط شرائح مجتمعية عديدة. ولعلّ التحدي الأكبر الذي تواجهه هاريس الآن يكمن في كيفية الاستثمار في هذه الحالة الأخيرة، وصولاً إلى قولبتها ووضعها في سياقات خادمة لكي تعطي النتائج المرجوّة منها. وهذا فعل يمكن أن يحصل عبر حشد «ائتلاف» قوامه يتكوّن من الناخبين السود، الذين أبدوا أخيراً عزوفاً عن تأييد بايدن، ومن الأقليات الأخرى، جنباً إلى جنب مع الناخبين «الأصغر سناً»، على شاكلة ذاك الذي استند إليه باراك أوباما في انتخابات 2008، التي أوصلته إلى سدّة السلطة في واشنطن.