تجهد الولايات المتحدة للإجابة عن أسئلة ترتبط بتعريف نفسها ودورها في العالم
بشكل ما، يميل «الديموقراطيون» إلى ترسيخ نهج تقليدي قديم يقوم على تثبيت أركان «الدولة العميقة»، أو المتجذرة، ممثّلة بوكالات الأمن المتعدّدة واللوبيات، والتي تقوم بالحفاظ على مصالح الدولة كنظام حكم بالدرجة الأولى، في حين يمثّل «مشروع» المرشح الجمهوري، دونالد ترامب، حالة نقيضة للميل السابق. ولطالما شهدت ولايته السابقة بين 2017 و2021، حالات صدام صارخة مع تلك «الدولة»، وصولاً إلى إعلانه أنه في «حالة حرب دائمة معها». ولربما كانت هذه الحالة السابقة الذكر، نتاجاً مباشراً لتبلور طبقة سياسية جديدة، بات ترامب في مرتبة «الأب الروحي» لها، وفي ملامحها يمكن لحظ نزعة عرقية صارخة، وفي عنوان أن استمرار السطوة والهيبة مرهون باستمرار قبضتها على السلطة. وبهذا، تصبح «المنازلة» بين كامالا هاريس ودونالد ترامب أقرب إلى المنازلة بين «عقلنة» التوحش، كنهج راسخ لـ»الدولة العميقة»، وبين الوصول به إلى درجات متفلّتة من العقال، كما هي الحال عند الأخير.
لا يزال السباق بين المشروعين متأرجحاً، ومن الصعب التنبؤ بالمآلات التي سوف يصير إليها. وعلى رغم أن آخر استطلاعات الرأي ترجّح ميلان الكفة في اتجاه هاريس، وفقاً لصحيفة «واشنطن بوست»، التي نشرت استطلاعاً في 13 آب الجاري، قالت فيه إن هاريس تحظى بنسبة تأييد 49% من الأميركيين في مقابل 45% لترامب، إلا أن ذلك لا يشكّل ركيزة يمكن الركون إليها. فكثيراً ما كانت «الحظوظ» متغيّرة بسرعة كبيرة في الأمتار الأخيرة من السباق الأميركي، فضلاً عن أن ثمة معطيات يمكنها أن تظهر فجأة، فتقلب الصورة رأساً على عقب. فمن كان يدري، مثلاً، أن مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي السابق، جيمس كومي، سيفتح تحقيقاً في استخدام المرشحة الديموقراطية لانتخابات 2016، هيلاري كلينتون، بريداً إلكترونياً خاصاً في إرسال رسائل ذات طابع سري، قبل 11 يوماً على التصويت، فيقلب بذلك كل التوقعات، ومعها كل استطلاعات الرأي، التي كانت ترجح كفة كلينتون على ترامب؟
غالباً ما تمثّل حالة التأرجح الآنفة الذكر تعبيراً عن الضغوط الحزبية التي تشهدها أروقة السياسة الأميركية. وفي الحالة الراهنة، يزيد منها تنامي «النفور» من ترامب كمرشح رئاسي في أوساط شرائح مجتمعية عديدة. ولعلّ التحدي الأكبر الذي تواجهه هاريس الآن يكمن في كيفية الاستثمار في هذه الحالة الأخيرة، وصولاً إلى قولبتها ووضعها في سياقات خادمة لكي تعطي النتائج المرجوّة منها. وهذا فعل يمكن أن يحصل عبر حشد «ائتلاف» قوامه يتكوّن من الناخبين السود، الذين أبدوا أخيراً عزوفاً عن تأييد بايدن، ومن الأقليات الأخرى، جنباً إلى جنب مع الناخبين «الأصغر سناً»، على شاكلة ذاك الذي استند إليه باراك أوباما في انتخابات 2008، التي أوصلته إلى سدّة السلطة في واشنطن.