في المقابل، بدأت روسيا تنسج علاقات مهمّة، اقتصادية وعسكرية، مع آذربيجان، فيما لم تكن هذه الأخيرة معارضة لأيّ تعاون مع الروس، بل عملت على اتباع سياسة «صفر مشكلات» إزاء معظم جيرانها، بمن فيهم أرمينيا، التي قالت باكو إنها مستعدّة لأفضل العلاقات معها، في حال جرى ترسيم الحدود بشكل نهائي، وهو ما حصل فعلاً، وإنْ كانت لا تزال تنتظر منها أن تزيل من دستورها المادة التي تشير إلى قره باغ باعتبارها جزءاً منها. ومع أن علاقاتها بإسرائيل وثيقة جداً تجارياً، وعلى صعيد الطاقة والتعاون العسكري والاستخباري، ورغم أن آذربيجان سارعت إلى توفير الغاز الطبيعي لأوروبا بعد وقف استيراد الغاز الروسي، غير أن موقفها من يريفان مرتبط أيضاً بمواقف الدول الغربية الداعمة للأخيرة؛ إذ اتهمت الأولى كلّاً من الهند واليونان وفرنسا والولايات المتحدة بدعم الأخيرة، وهو الأمر الذي جعل الإعلام الآذربيجاني يشنّ حملةً على الغرب وسياساته تجاه القوقاز. وبالتالي، التقت المصلحتان الروسية والآذربيجانية في التعاون.
اعتبر علييف أن «الاستقرار والأمن في كامل منطقة القوقاز الجنوبي، مرتبطان في حالات كثيرة بالتفاعل الوثيق بين روسيا وآذربيجان»
لكن زيارة بوتين إلى باكو تجيء في مدة حرجة في السياسة الخارجية لبلاده، خصوصاً بعد الهجوم الأوكراني المضادّ في منطقة كورسك الروسية. وما أراده الرئيس الروسي من هذه الزيارة، هو التأكيد أن بلاده ليست معزولة، ولا تزال تتحرّك بحرّية في حدائقها الخلفية، وفي مقدمتها القوقاز الجنوبي. ورغم العلاقات المتردية بين موسكو ويريفان، فلا تزال الأولى تراهن على إمكانية حدوث تغيير في سياسة الأخيرة؛ إذ أعلن بوتين، بعد انتهاء زيارته إلى باكو، أنه سيبلغ حكومة باشينيان بنتائج زيارته الآذربيجانية، وأنه مستعدّ للمساعدة على الاستقرار حيث أمكن روسيا ذلك، قائلاً إن «الوجود التاريخي لروسيا في القوقاز الجنوبي، حتّم عليها أن تشارك بفعالية في الأحداث خلال السنوات الماضية». أيضاً، تعوّل موسكو على احتمال تغيير سلطة باشينيان من الداخل، فيما لم يكن بوتين ليمانع، ربما، زيارة أرمينيا، لولا مسارعتها إلى الانضمام إلى بروتوكول «المحكمة الجنائية الدولية»، والذي يجعل من أيّ زيارة لبوتين، الصادرة في حقه مذكرة اعتقال، إلى يريفان مخاطرة. وفي الوقت نفسه، تجد روسيا تعاوناً من باكو في سياستها القوقازية، حيث أعلن الرئيس الآذربيجاني، إلهام علييف، أن «الاستقرار والأمن في كامل منطقة القوقاز الجنوبي، مرتبطان في حالات كثيرة بالتفاعل الوثيق بين روسيا وآذربيجان».
وفي هذا الجانب، وصف رشاد بخشالييف، في افتتاحية صحيفة «آذربيجان» الحكومية، أمس، العلاقات بين موسكو وباكو باعتبارها «تحالفاً قائماً على أساس الشراكة الإستراتيجية»، مشيراً إلى أن زيارة بوتين أعطت «قوّة دفع» إضافية لتطوّر علاقاتهما. وتخلّلت الزيارةَ مجموعة نشاطات للرئيسَين، سياحية وموسيقية ودينية، واستضافة عائلية لبوتين في منزل علييف وزوجته مهربان، التي هي أيضاً نائبته. وتجدر الإشارة إلى أن العلاقات التجارية بين الجانبين ليست كبيرة، إذ لم يزد حجمها، في العام الماضي، عن أربعة مليارات ونصف مليار دولار، غير أنها في تزايد مستمرّ، سواء على صعيد تعزيز النقل عبر السكك الحديد أو رحلات الطيران، فضلاً عن أن هناك 1300 مشروع استثمار روسي في آذربيجان بقيمة تقارب الأربعة مليارات دولار. وفي إطار التعاون أيضاً، تحدّث الرئيسان، في مؤتمرهما الصحافي المشترك، عن تأسيس جامعة آذربيجانية - روسية مشتركة في باكو، فيما لفت بوتين إلى فتح فروع لجامعات روسية في آذربيجان، وإلى وجود أكثر من 300 مدرسة تعلّم باللغة الروسية، متحدثاً كذلك عن أن 8 آلاف طالب آذربيجاني يتلقون تعليمهم في الجامعات الروسية، على حساب الدولة.
وأشار المحلّل السياسي الآذربيجاني، فؤاد شهبازوف، من جهته، إلى أن من أهم الاتفاقات الموقعة بين البلدين، هو تصدير الغاز الروسي إلى آذربيجان بدلاً من الغاز الذي تصدّره باكو إلى أوروبا، إذ يسهم ذلك في زيادة الصادرات الآذربيجانية من الطاقة إلى أوروبا واستخدام الغاز الروسي للاستهلاك المحلّي، معتبراً أن من شأن الزيارة أن تعيد التأثير الروسي إلى المنطقة، بعدما تراجع بعض الشيء في السنوات الماضية. أمّا المحلّل السياسي في صحيفة «يني مساوات» الآذربيجانية، ألتشين خالد بايلي، فقال إن روسيا وآذربيجان «هما اللتان ترسمان الخطوط الحمراء في القوقاز»، حيث «لا يمكن لأرمينيا أن يكون لها دور حاسم في تحقيق خطط الغرب الإقليمية».