أنهى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، زيارةً رسمية إلى آذربيجان، استمرّت يومَي الأحد والإثنين، وسط احتفاء الصحافة الآذربيجانية بالزيارة «الإستراتيجية»، التي اكتسبت أهمية إضافية بالنسبة إلى الوضع في جنوب القوقاز، حيث تسعى الولايات المتحدة وبعض حلفائها الغربيين، ولا سيما فرنسا، إلى تغيير الخريطة الجيوسياسية، عبر تقديم الدعم الكامل لحكومة نيكول باشينيان في أرمينيا، وسحب الأخيرة بالكامل إلى المعسكر الغربي.وبخلاف ما كان الوضع عليه في أعقاب تفكّك الاتحاد السوفياتي، فقد أعادت آذربيجان وأرمينيا تموضعهما بصورة مثيرة للانتباه؛ إذ تعاقب على السلطة في يريفان عدد من الأحزاب والحكومات التي احتفظت بعلاقات ممتازة مع موسكو، أسهمت بدورها في استمرار سيطرة الأرمن على كامل منطقة قره باغ (بل حتى إعلانها دولة مستقلّة) والأراضي الواقعة بينها وبين أرمينيا، وهو ما كانت تعتبره باكو غير ممكن من دون الدعم الروسي لجارتها. غير أن وصول باشينيان إلى السلطة في أرمينيا، عام 2018، واتباعه سياسات معادية للروس، شكّل نقطة تحوّل، وبدايةً لانكسار العلاقة التاريخية بين البلدين، وكذا تغييراً في «قواعد اللعبة». فلم تَعُد روسيا، مذاك، معنية كثيراً بسيطرة الأرمن على إقليم قره باغ والأراضي الواقعة خارج أرمينيا، وهو ما كان بمنزلة ضوء أخضر لِشَنّ آذربيجان حرباً واسعة على جارتها في نهاية أيلول 2020، استعادت عبرها أكثر من نصف قره باغ، بعدما ألحقت هزيمة مرّة بالأرمن، واستكملت هجومها، في أيلول 2023 الماضي، ما أخرج كامل الإقليم من يد الأرمن. وإذ تُحمّل يريفان، موسكو، مسؤولية الهزيمة الأولى، لأنها لم تهبّ لنجدتها، رغم وجود معاهدة دفاع عسكرية بينهما، فهي طالبت، في النهاية، بانسحاب حرس الحدود الروس من أراضيها، واضعةً بيضها كلّه في السلة الأميركية، وصولاً إلى سماحها أخيراً بإجراء مناورات أطلسية على أراضيها.
في المقابل، بدأت روسيا تنسج علاقات مهمّة، اقتصادية وعسكرية، مع آذربيجان، فيما لم تكن هذه الأخيرة معارضة لأيّ تعاون مع الروس، بل عملت على اتباع سياسة «صفر مشكلات» إزاء معظم جيرانها، بمن فيهم أرمينيا، التي قالت باكو إنها مستعدّة لأفضل العلاقات معها، في حال جرى ترسيم الحدود بشكل نهائي، وهو ما حصل فعلاً، وإنْ كانت لا تزال تنتظر منها أن تزيل من دستورها المادة التي تشير إلى قره باغ باعتبارها جزءاً منها. ومع أن علاقاتها بإسرائيل وثيقة جداً تجارياً، وعلى صعيد الطاقة والتعاون العسكري والاستخباري، ورغم أن آذربيجان سارعت إلى توفير الغاز الطبيعي لأوروبا بعد وقف استيراد الغاز الروسي، غير أن موقفها من يريفان مرتبط أيضاً بمواقف الدول الغربية الداعمة للأخيرة؛ إذ اتهمت الأولى كلّاً من الهند واليونان وفرنسا والولايات المتحدة بدعم الأخيرة، وهو الأمر الذي جعل الإعلام الآذربيجاني يشنّ حملةً على الغرب وسياساته تجاه القوقاز. وبالتالي، التقت المصلحتان الروسية والآذربيجانية في التعاون.
اعتبر علييف أن «الاستقرار والأمن في كامل منطقة القوقاز الجنوبي، مرتبطان في حالات كثيرة بالتفاعل الوثيق بين روسيا وآذربيجان»


لكن زيارة بوتين إلى باكو تجيء في مدة حرجة في السياسة الخارجية لبلاده، خصوصاً بعد الهجوم الأوكراني المضادّ في منطقة كورسك الروسية. وما أراده الرئيس الروسي من هذه الزيارة، هو التأكيد أن بلاده ليست معزولة، ولا تزال تتحرّك بحرّية في حدائقها الخلفية، وفي مقدمتها القوقاز الجنوبي. ورغم العلاقات المتردية بين موسكو ويريفان، فلا تزال الأولى تراهن على إمكانية حدوث تغيير في سياسة الأخيرة؛ إذ أعلن بوتين، بعد انتهاء زيارته إلى باكو، أنه سيبلغ حكومة باشينيان بنتائج زيارته الآذربيجانية، وأنه مستعدّ للمساعدة على الاستقرار حيث أمكن روسيا ذلك، قائلاً إن «الوجود التاريخي لروسيا في القوقاز الجنوبي، حتّم عليها أن تشارك بفعالية في الأحداث خلال السنوات الماضية». أيضاً، تعوّل موسكو على احتمال تغيير سلطة باشينيان من الداخل، فيما لم يكن بوتين ليمانع، ربما، زيارة أرمينيا، لولا مسارعتها إلى الانضمام إلى بروتوكول «المحكمة الجنائية الدولية»، والذي يجعل من أيّ زيارة لبوتين، الصادرة في حقه مذكرة اعتقال، إلى يريفان مخاطرة. وفي الوقت نفسه، تجد روسيا تعاوناً من باكو في سياستها القوقازية، حيث أعلن الرئيس الآذربيجاني، إلهام علييف، أن «الاستقرار والأمن في كامل منطقة القوقاز الجنوبي، مرتبطان في حالات كثيرة بالتفاعل الوثيق بين روسيا وآذربيجان».
وفي هذا الجانب، وصف رشاد بخشالييف، في افتتاحية صحيفة «آذربيجان» الحكومية، أمس، العلاقات بين موسكو وباكو باعتبارها «تحالفاً قائماً على أساس الشراكة الإستراتيجية»، مشيراً إلى أن زيارة بوتين أعطت «قوّة دفع» إضافية لتطوّر علاقاتهما. وتخلّلت الزيارةَ مجموعة نشاطات للرئيسَين، سياحية وموسيقية ودينية، واستضافة عائلية لبوتين في منزل علييف وزوجته مهربان، التي هي أيضاً نائبته. وتجدر الإشارة إلى أن العلاقات التجارية بين الجانبين ليست كبيرة، إذ لم يزد حجمها، في العام الماضي، عن أربعة مليارات ونصف مليار دولار، غير أنها في تزايد مستمرّ، سواء على صعيد تعزيز النقل عبر السكك الحديد أو رحلات الطيران، فضلاً عن أن هناك 1300 مشروع استثمار روسي في آذربيجان بقيمة تقارب الأربعة مليارات دولار. وفي إطار التعاون أيضاً، تحدّث الرئيسان، في مؤتمرهما الصحافي المشترك، عن تأسيس جامعة آذربيجانية - روسية مشتركة في باكو، فيما لفت بوتين إلى فتح فروع لجامعات روسية في آذربيجان، وإلى وجود أكثر من 300 مدرسة تعلّم باللغة الروسية، متحدثاً كذلك عن أن 8 آلاف طالب آذربيجاني يتلقون تعليمهم في الجامعات الروسية، على حساب الدولة.
وأشار المحلّل السياسي الآذربيجاني، فؤاد شهبازوف، من جهته، إلى أن من أهم الاتفاقات الموقعة بين البلدين، هو تصدير الغاز الروسي إلى آذربيجان بدلاً من الغاز الذي تصدّره باكو إلى أوروبا، إذ يسهم ذلك في زيادة الصادرات الآذربيجانية من الطاقة إلى أوروبا واستخدام الغاز الروسي للاستهلاك المحلّي، معتبراً أن من شأن الزيارة أن تعيد التأثير الروسي إلى المنطقة، بعدما تراجع بعض الشيء في السنوات الماضية. أمّا المحلّل السياسي في صحيفة «يني مساوات» الآذربيجانية، ألتشين خالد بايلي، فقال إن روسيا وآذربيجان «هما اللتان ترسمان الخطوط الحمراء في القوقاز»، حيث «لا يمكن لأرمينيا أن يكون لها دور حاسم في تحقيق خطط الغرب الإقليمية».