«الحكم الطالباني» والأمم المتحدة: انفراجات محدودة
لم تتزحزح الأمم المتحدة، منذ عودة «طالبان» إلى السلطة، عن مطالباتها بصياغة دستور للبلاد، وتحسين سجلّ الحركة في مجال حقوق الإنسان، وتحديداً تجاه المرأة والأقليات. ومع ذلك، فقد شهد العام الجاري انفراجات محدودة في هذا الخصوص، كان أبرزها حضور وفد «طالباني» للمرّة الأولى اجتماعات الدوحة التي تنظّمها الأمم المتحدة دورياً للبحث في الشأن الأفغاني، حيث شارك في النسخة الثالثة منها، بعد تغيّبه عن الجولتَين السابقتين. وشارك في الاجتماع، مسؤولون وديبلوماسيون من 25 دولة، وهو ما تعاملت معه المنظمة الدولية على أنه بمثابة تقدّم ديبلوماسي لجهة إقناع «طالبان» بالجلوس إلى طاولة المفاوضات ومناقشة هواجس «المجتمع الدولي»، في حين اعتبرته أوساط الحركة «انتصاراً سياسياً» لها و»فشلاً» لمسعي عزلها على الساحة الدولية، وخصوصاً بالنظر إلى نجاحها في فرض شروطها على جدول أعمال المنتدى لجهة استبعاد المعارضين الأفغان عن الاجتماع، إضافة إلى إسقاط بندَي البحث في ملف تعليم الفتيات، والحكومة الوطنية الجامعة.
ولا تخرج المقاربة الأممية في التعامل مع «طالبان»، والمتمثّلة في حجب الاعتراف الديبلوماسي عنها، واقتصار التعاون معها على برامج الدعم «الإنساني»، من الشقّ المعلن من الخطوط العريضة للاستراتيجية الأميركية، وإنْ كانت الأخيرة أكثر اهتماماً بما يمكن أن يثمر عنه التعاون مع الحركة في الملفات المتصلة بـ»مكافحة الإرهاب»، مقارنةً مع ما يمكن أن يقدّمه حكام أفغانستان الجدد في قضايا أخرى.
روسيا والصين وإيران: لكسر «نهج العزلة» الأميركي حيال «طالبان»
كذلك، لا يخفى واقع علاقات «طالبان» المتذبذبة مع بعض حلفاء الأمس، كتركيا وقطر اللتَين تراجعت الحركة عن اتفاق تلزيمهما تشغيل مطارات البلاد الخمسة، وكذلك باكستان في ضوء المشهد الأمني المتوتّر على الحدود بين البلدين. ويصرّ الجانب الباكستاني على اتهام «طالبان» بتسهيل عمل الجماعات الإرهابية المتمركزة على الحدود، والتي تنشط في تنفيذ هجمات داخل الجارة الباكستانية، بعضها طاول مصالح صينية، وبعضها الآخر مقارّ للجيش. ومن بين تلك الجماعات: «جيش فرسان محمد»، و»أنصار خراسان»، و»جيش خراسان»، و»تحريك جهاد باكستان»، وهي في معظمها تعدّ واجهة لجماعات أكبر من مثل «طالبان باكستان»، و»حافظ غول بهادور» المرتبطة بتنظيم «القاعدة».
ومع ذلك، فقد بدا «طالع» علاقات «أفغانستان طالبان» مع بعض القوى الدولية والإقليمية الوازنة، كروسيا وإيران، مبشّراً بالنسبة إلى قادة الحركة. وعلى ما يبدو، فإن تلك القوى التي لا تدور في الفلك الأميركي، تقارب الملف الأفغاني إلى حدّ كبير من زاوية إفشال المساعي الغربية في أفغانستان. وكما هو معلوم، فإن موسكو وطهران، ومعهما بكين، وقفتا أواخر العام الماضي في وجه مشروع داخل أروقة مجلس الأمن الدولي لتعيين مبعوث أممي خاص لشؤون السلام إلى أفغانستان، متبنّية بذلك موقف الحركة، باعتبار التعيين المذكور «تدخّلاً في الشؤون الداخلية لأفغانستان»، وإجراءً غير ضروري بعد تعيين الديبلوماسي التركي، فريدون أوغلو، منسقاً خاصاً للأمم المتحدة لشؤون أفغانستان في وقت سابق.
وبالحديث عن الخطوة الجديدة في سياسة بكين تجاه كابول، مطلع العام الجاري، والتي تجلّت في قبول اعتماد سفير لحكومة «طالبان» لديها، بعد قرابة أربعة أشهر من تعيين سفير لها في كابول، فهي خطوة، وإن كانت لا تعني اعترافاً صينياً رسمياً بـ»إمارة أفغانستان الإسلامية»، ولكن تمليها اعتبارات تتعلّق برغبة الصين في ترسيخ معادلة «الأمن مقابل التنمية والاستثمار». والمعادلة تلك قايضت بموجبها «طالبان» إجلاءها المقاتلين الإيغور من الحدود الصينية نحو مناطق حدودية شرق البلاد، وإجراءات مماثلة اتّبعتها حيال جماعات متشدّدة أخرى، في طليعتها «طالبان باكستان»، بتعزيز الحضور الصيني في قطاع المناجم والثروة المعدنية، في إطار حرص بكين على ملء الفراغ الذي خلّفته القطيعة الغربية لأفغانستان على أكثر من صعيد، في بلد يحتوي ثاني أكبر مخزون للنحاس في العالم.
أما روسيا، التي تُعدّ ثامن أكبر شريك تجاري للدولة الآسيوية، وعلى رغم محاولتها منذ الانسحاب الأميركي عام 2021، الوقوف على مسافة واحدة من مختلف الأفرقاء الأفغان من خلال استقبال شخصيات معارضة لـ»طالبان»، من أبرزهم زعيم «جبهة المقاومة الشعبية» أحمد شاه مسعود، فقد دأبت أخيراً على التحوّل عن نهج» الرومانسية السياسية» التقليدية الذي لطالما طبع علاقاتها مع الحركة، حين أكدت على لسان رئيسها، فلاديمير بوتين، قبل نحو شهرين، وبحضور ممثّلين عن «طالبان» خلال انعقاد منتدى سان بطرسبورغ الاقتصادي الدولي الـ 27، أنها تتّجه إلى «بناء علاقات كاملة» مع حكومة الحركة باعتبارها «تمثّل السلطة في أفغانستان». وتقيس موسكو موقفها في أفغانستان بمواقف جيرانها من باقي دول آسيا الوسطى، المنضوين ضمن منظمة «معاهدة الأمن الجماعي»، والمتوجّسين من عودة نشاط المنظمات الإرهابية - وعلى رأسها «داعش خراسان» - في تلك المنطقة، في ما يحملهم على التطلّع إلى التعاون أمنياً مع «طالبان» وليس فقط اقتصادياً، كما هي حال كازاخستان، التي رفعت أخيراً الحركة من قائمتها للإرهاب.
ووفقاً لمصادر استخبارية غربية، فإن مبادرة كل من موسكو وبكين لتعزيز التقارب مع «طالبان»، تنطلق من رغبتهما المشتركة في تقديم البدائل للحركة على أكثر من صعيد، وخاصةً أمنياً، وذلك على أمل قطع الطريق على أيّ شكل من أشكال التعاون الاستخباري مستقبلاً بينها وبين الولايات المتحدة، ولا سيما أن المرشح الجمهوري للرئاسة الأميركية، دونالد ترامب، كان قد عرض قبل نحو عام تصورات حول إمكانية عقد تفاهمات مع «طالبان» في شأن قاعدة «باغرام»، بغية توظيفها لأغراض تجسسية على مناطق الغرب الصيني. والهواجس الصينية - الروسية تلك، تغذّيها تقارير إعلامية عن مشاركة عناصر من القوات الخاصة الأميركية أخيراً، وبالاشتراك مع «طالبان»، في عمليات قتالية ضدّ «داعش خراسان»، فضلاً عن تسريب وثيقة عن وزارة الخارجية الأميركية حملت إشارات إلى وجود نقاش جدّي داخل واشنطن حول فرص تعاونها (غير الرسمي) مع «طالبان» في «مكافحة الإرهاب»، وإعادة فتح قنصلية في العاصمة الأفغانية.
لا يخفى واقع علاقات «طالبان» المتوترة مع غالبية المجتمع الدولي، والمتذبذبة مع بعض حلفاء الأمس
وفي ما يخص إيران، التي بادرت أخيراً إلى قبول قنصل «طالبان» لإدارة القنصلية الأفغانية في مدينة مشهد، بعد أخذ ورد بين الجانبين، فقد مال البعض إلى إدراج موقفها ضمن خانة التدبير التحفيزي المؤقت لتشجيع الحركة على التعاون البنّاء في ملف اللاجئين الأفغان، فيما رجّح آخرون أن يكون ذلك في سياق التماهي مع استراتيجية الحلفاء الدوليين لطهران، والتي تقوم على مواجهة الاستراتيجية الأميركية الرامية إلى عزل أفغانستان. يضاف إلى ما تقدم، إبداء تفاعل إيجابي مع المرونة التي باتت تظهرها الحكومة الأفغانية الجديدة في سياستها الخارجية تجاه دول الجوار، وهو ما عكسته مشاركة طهران في مؤتمر ديبلوماسي إقليمي نظّمته الحركة بداية عام 2024، بحضور ممثلين عن قرابة عشرين دولة تقيم تبادلات ديبلوماسية مع كابول، كأذربيجان التي افتتحت سفارتها في شباط الماضي، والهند التي سلّمت «طالبان» السفارة الأفغانية في نيودلهي عام 2023.
وبحسب مجلة «فورين أفيرز»، فإن تقدّم علاقات كابول مع معظم القوى الإقليمية والدولية المجاورة لها، وبخاصة الصين، يشكّل «الإنجاز الأكبر لـ»طالبان» في السياسة الخارجية، و»تتويجاً لجهود النظام الجديد في تعزيز تعاملاته مع تلك البلدان». أما مركز «ستراتفور»، فقد وضع ذاك التقدّم في إطار توصّل الدول المجاورة لأفغانستان إلى اقتناع مفاده أن «نهج الانخراط (الديبلوماسي) مع الحركة هو الطريقة الأقلّ تكلفة والأكثر فعالية لتحقيق مصالحهم الاستراتيجية ومعالجة مخاوفهم الأمنية».