لم تتوقّف الدبلوماسية الروسية عند حدود المواجهة الملتهبة في أوروبا، واحتمال تصعيد مستوى العمليات العسكرية هناك، ووصول أيدي موسكو إلى كوبا، في ما عدَّه مراقبون استنساخاً لـ«أزمة الصواريخ الكوبية» في ذروة الحرب الباردة مع واشنطن، بل امتدّت نشاطاتها المباغتة لتطاول أفريقيا، وفق ما ظهّرته جولة وزير الخارجية، سيرغي لافروف، في القارة، والتي شملت أربع محطّات، هي: غينيا، بوركينا فاسو وتشاد في إقليم الساحل، بالإضافة إلى جمهورية الكونغو، وذلك بالتزامن مع بدء السلطات العسكرية في النيجر عمليات «إجلاء» القوات الأميركية من أراضيها. وسبق جولة لافروف نشاط مكثّف في موسكو مع وفود أفريقية، من بينها وفد عسكري لـ«مجلس السيادة» الانتقالي في السودان لإتمام عدد من الاتفاقات، فيما يُتوقّع أن يلي الجولة تفاعل أفريقي - روسي قوي، خصوصاً في ظلّ ازدحام أجندة روسيا في النصف الثاني من العام الجاري بفعّاليات من مثل «منتدى سان بطرسبورغ الاقتصادي الدولي» (بحضور رئيس زيمبابوي وممثّلين عن دول أخرى مثل السودان وبوركينا فاسو)، ثم قمّة «بريكس» في مدينة كازان (تشرين الأول)، والمؤتمر الوزاري بين روسيا وأفريقيا (تشرين الثاني).
لافروف في أفريقيا: المحطات والأجندة الروسية
استهلّ لافروف جولته الأفريقية (2 - 6 الجاري) من العاصمة الغينية، كوناكري، حيث التقى نظيره موريساندا كوياتي، لمناقشة مجالات التعاون المتبادل، من دون أن يقدّم بيان الخارجية الغينية تفاصيل أكبر حول الاجتماع. ومثّلت الزيارة، وهي الأولى لوزير خارجية روسي إلى كوناكري منذ عام 2013، خطوة مهمّة على طريق رأب خلافات نشبت بين البلدين، في شباط الماضي، عقب قرار المجلس العسكري، بقيادة مامادي دومبيا، حلّ الحكومة وغلق جميع حدود بلاده، والذي تلاه تعميم للسفارة الروسية بالتحذير من «اضطراب محتمل في العاصمة كوناكري»، ما دفع الخارجية الغينية إلى استدعاء السفير أليكسي بوبوف الذي بادر بدوره إلى تقديم اعتذار قبلته الخارجية. ولفت لافروف، في المؤتمر الصحافي مع كوياتي، إلى عدم تجاهل بلاده «التعاون العسكري - الفني، وتعزيز قدرات غينيا الدفاعية»، في ضوء «التهديد الإرهابي المتصاعد» في إقليم الساحل، والأهمية التي توليها موسكو للتعاون الاقتصادي وزيادة الاستثمارات الروسية في غينيا، ولا سيما في قطاع التعدين.
وفي ثانية محطّات جولته، وصل لافروف إلى جمهورية الكونغو (4 حزيران) لعقد مفاوضات مع قيادتها، وفي جعبته عدد من المسائل الاقتصادية التي تهمّ البلدين، خصوصاً في ظلّ الصعود اللافت لقطاع الطاقة (ولا سيما إنتاج الغاز الطبيعي) في الكونغو، وإعلان بدء صادراتها للغاز الطبيعي المسال مطلع العام الجاري (تمتلك الكونغو 1.6 مليار برميل من البترول من الاحتياطات المؤكدة، ونحو 90 مليون متر مكعب من احتياطات الغاز الطبيعي المؤكدة). كما شملت الأجندة مسألة التعاون العسكري - الفني، وسُبل تفعيل عقد إرسال متخصّصين عسكريين روس إلى الكونغو (2019)، والبدء بإرسال موسكو دفعات جديدة ومتطوّرة من المعدات والأسلحة الروسية إلى برازافيل. كما أكدت السفارة الروسية في الكونغو اهتمام الجانب الكونغولي بتطوير التعاون في مجال تطوير كفاءات الكوادر البشرية، وتدريب الكونغوليين في الجامعات الروسية.
ثمّ توجّه لافروف إلى واغادوغو، في الخامس من الجاري، حيث التقى الرئيس البوركيني الانتقالي، إبراهيم تراوري، فيما ركّزت الزيارة، التي رافقه فيها نائب وزير الدفاع، يونس-بك يفكروف (الذي يتولّى عملياً ملفّ تعميق العلاقات مع دول الساحل)، على زيادة الدعم الروسي العسكري لبوركينا فاسو، ولا سيما في مجال تدريب القوات العسكرية، وزيادة أعداد الخبراء الروس العاملين في هذا البلد، على نحو يتّسق مع رؤية المجلس العسكري الحاكم، والقائمة على أولوية بناء أجهزة أمنية وعسكرية قادرة على فرض الاستقرار. كما تعهّد لافروف بمواصلة تقديم بلاده معدات عسكرية ضرورية للقوات المسلحة البوركينية، لتقوية قدراتها الدفاعية وتمكينها من القضاء على بقايا الجماعات الإرهابية، في دولة تعاني من أزمة تشرد داخلي تطاول مليونَي مواطن (60% منهم من الأطفال)، فيما تقدّر مؤسّسات الإغاثة الغربية حاجة 6.3 ملايين مواطن بوركيني (ثلث سكان البلاد) إلى مساعدات إنسانية عاجلة في عام 2024، ما يعظّم الحاجة إلى الاستقرار، ويبرز على نحو غير مباشر أهمية الدعم الروسي للسلطات البوركينية.
وفي مسار تعميق العلاقات مع تشاد، جاءت زيارة لافروف لأنجامينا استكمالاً لمخرجات قمّة فلاديمير بوتين - محمد ديبي في موسكو في كانون الثاني الفائت، والتي ركّزت على استقرار الوضع في البلد الأفريقي. ويلاحظ أن أجندة لافروف في تشاد، التي تتشابك بدورها مع مصالح قوى إقليمية وغربية يصعب توقُّع تغييرها لمصلحة صلات أوثق مع موسكو، ركّزت على تحسين العلاقات الاقتصادية بين البلدين «لتبلغ مستويات الصلات السياسية والدفاعية والأمنية والإنسانية»؛ إذ عرض لافروف دعم موسكو دخول شركات روسية ذات خبرة في مشروعات البنية الأساسية، مثل «السكك الحديدية الروسية» RZhD، في السوق التشادي.

لافروف ومواجهة الفوضى الأميركية: ليبيا والسودان على الأجندة
لم يكن مستغرباً أن تتزامن جولة لافروف الأفريقية، مع تصاعد الأزمات في مواقع ملتهبة مجاورة لمحطّات جولته، من مِثل السودان وليبيا والنيجر، وارتباط هذا التصاعد بمجمل السياسات الأميركية تجاه هذه الدول، والقائمة على إدامة تلك الأزمات ودفْع ساحاتها نحو فوضى كاملة تقطع عليها خطوط العودة إلى الاستقرار. وبدت قراءة موسكو للتفاعلات المشار إليها متّسقة مع مقاربتها لبناء علاقات قوية مع الدول الأفريقية بشكل عام، استناداً إلى مبدأَي «النديّة» و«الفوز للجميع»، إذ ركّز لافروف في زيارته لبرازافيل، ولقائه المهمّ مع الرئيس دينيس ساسو-نجوسو - مثلاً -، على مبادرة الأخير إلى الدعوة إلى مؤتمر دولي حول ليبيا، وحشد الجهود الإقليمية والدولية للتوصّل إلى مصالحة بين أطراف هذه الأزمة. كذلك، حضر السودان في جولة الوزير الروسي، والتي ترافقت مع زيارة قام بها عضو «مجلس السيادة» الانتقالي، ونائب القائد العام للجيش السوداني، شمس الدين الكباشي، إلى مالي والنيجر، لفتت بدورها اهتمام المراقبين، وأثارت احتمالات تعميق حلف حزام الساحل من مالي إلى ساحل البحر الأحمر بـ«غطاء» روسي، فيما كانت موسكو تستقبل وفداً عسكريّاً سودانيّاً لوضع اللمسات الأخيرة على اتفاق منح قاعدة لوجستية للبحرية الروسية. ودفع ما تقدّم، عدداً من المراقبين إلى وضع سيناريو «ليبي» للأزمة الجارية في السودان، حيث تقوم حكومة تمرُّد في دارفور، بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، فيما تحتمي حكومة «مجلس السيادة» في القاعدة العسكرية الروسية، في بورتسودان.
وهكذا، يبدو من المثالَين السابقَين، حرص موسكو على تصعيد المواجهة مع الأميركيين إلى حدودها القصوى الممكنة في إقليم الساحل، وفي عمق وسط أفريقيا (جمهورية الكونغو المجاورة لجمهورية أفريقيا الوسطى حيث استطال الوجود الروسي وثبتت نجاعته في دعم سياسات الدولة في مواجهة العنف والإرهاب)، وتوفير دعم لا يستهان به لعواصم تلك الدول لاتّخاذ خطوات جادّة في مواجهة النفوذ العسكري الأميركي - الغربي وتقليصه.

خلاصة
جاءت جولة لافروف لتؤكد وجود استراتيجية روسية واضحة للتحرُّك أفريقيّاً، تتمتّع في المقام الأول بمقبولية أفريقية كبيرة، على رغم التباين في أوجه توثيق العلاقات وأولوياته بين عسكري - أمني واقتصادي - سياسي. كما مثّلت الجولة محطّة ضمن جدول روسي مزدحم لتعزيز التعاون مع دول القارة ومواجهة النفوذ الأميركي التقليدي، إمّا عبر تقديم بدائل واقعية لتلك الدول التي تواجه تهديدات أمنية مستدامة، أو توفير مظلّة دعم سياسي موثوق بها بوجه أيّ ضغوط أميركية وغربية على المدى القريب.